ترجمة
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 27
رابط العدد 33 : اضغط هنا
مقدمة:
في الثلاثينيات، بدأ عدد من المنظمات والحركات الوطنية في جزر الهند الشرقية الهولندية بتقديم عروض مسرحية في الاحتفالات الخاصة، كالمؤتمرات والمناسبات التذكارية، كان هدفها إحياء الفعاليات، وترفيه الجمهور، وتعزيز المثل العليا، ومعالجة المشاكل الاجتماعية، والتحفيز على التحرر. وكانت شكلًا من أشكال المسرح التعليمي، يتغيّا تأكيد رسالة المنظمة أو الحركة، وتعزيز هُوِيَّة أعضائها، وكانت تحظى بشعبية لدى الإندونيسيين، والأقليات الآسيوية الأجنبية، كالصينيين والعرب الإندونيسيين، الذين كانوا منفردين تمامًا اجتماعيًا وسياسيًا، وفقًا لتصنيف السكان الرسمي إلى أوروبيين وشرقيين أجانب، وسكان أصليين.
كانت المسرحيات مبنية على النمط الأوروبي، ولم تكن لها علاقة تذكر بالأشكال التقليدية للمسرح والترفيه الخاص بهذه الفئات السكانية. وتُكتَب بقلم أحد أفرادها الموهوبين، ويؤدّيها ممثلون يتم اختيارهم منهم. وكان لكل جماعة مؤثرة من المنظمات السياسية أو الاجتماعية مسرحٌ خاصٌّ بها، مُستَوحى من نظيراته الأوروبية، إلى جانب نادٍ رياضي، ونادٍ نسائي، وأحيانًا حتى فرقة طبول.
في هذه الدراسة أود أن أتطرق إلى مسرحية “فاطمة”، التي عُرِضت في سيمارانج عام 1938م في المؤتمر الثالث لاتحاد عرب إندونيسيا. ففي أواخر الثلاثينيات، كان يعيش في المستعمرة أكثر من 70.000 عربي، منهم حوالي 50.000 في جاوة، وينحدر كلهم تقريبًا من حضرموت، وهي منطقة فقيرة في جنوب الجزيرة العربية. وكان أكثر من ثُـلُـثَيْهم، من عرب إندونيسيا (المولدَّين)، والبقية من العرب التوتوك (الولايتي) (1)
إلى حوالي عام 1920 كانت العلاقات الاجتماعية، بين شرائح الأقلية المنغلقة على نفسها هناك، انعكاسًا للتراتبية الطبقية، في الوطن الأم حضرموت، القائمة على النسب. فالطبقة العليا تتكون من السادة، نسل النبي محـمد، الذين انتقلوا من البصرة إلى جنوب الجزيرة العربية منذ أكثر من 1000 عام. تليها طبقة المشايخ، نسل النخبة الدينية البارزة، الذين زحزحهم السادة تدريجيًا عن الصدارة. وتتكون الطبقتان الثالثة والرابعة على التوالي من القبائل (المسلحة)، والمساكين. وهناك حدود صارمة بين الطبقات. فعلى سبيل المثال، لم يكن مسموحًا للمرأة بالزواج مطلقًا بمن هو أدنى منها منزلةً، وكان السيد يُستقبَل دائمًا بقُبلة على اليد (2).
في الثلاثينيات، نشبت توترات متعددة داخل المجتمع العربي، وخاصة بين السادة، والمشايخ (كما كان يُطلق على غير السادة في المستعمرة)، وبين العرب التوتوك، والمولدَّين، الذين نظموا أنفسهم في جمعيات مختلفة. إذ رفض عدد من المشايخ إبداء مظاهـر التوقير التي يتمتع بها السادة في حضرموت. واتَّهم التوتوك بشكل متزايد المولدَّين بالميل عن القيم العربية، وتبنّي نمطِ حياةٍ إندونيسي، وأنهم أكثر ولاءً لأرض أمهاتهم من أرض آبائهم.
لكنَّ اختراقًا حدث في عام 1934 عندما أسس شبَّان عرب إندونيسيون، من طبقات مختلفة، اتحادَ عرب إندونيسيا، بهدف تعزيز تحرُّرهم، واندماجهم في المجتمع الإندونيسي الأوسع. وعلى خُطا حزب الهند، وحزب الإندو- أوروبيين، وحزب ثيونغوا إندونيسيا (حزب الإندونيسيين الصينيين)، قبلوا علنًا بإندونيسيا وطنًا، وبالثقافة الإندونيسية ثقافةً لهم، وهي رؤى لم يتقبَّلْها الجميع في أوساط الأقليات الأجنبية.
وكانت العروض المسرحية، كما ذكرنا، إحدى وسائل تحفيز تحرُّر مؤيِّـديهم والمؤيدين المحتملين. وكانت “فاطمة” هي المسرحية الثانية التي تُعرَضُ في مؤتمر اتحاد عرب إندونيسيا. وتتكون من ثمانية فصولٍ متفاوتةِ الطُّول، مكتوبة بلغة الملايو. وقد ألَّفها، بناءً على طلب الهيئة العليا، الصحفيُّ حسين بافقيه، وهو مؤلف مسرحية سابقة عنوانها (قربان عادات) (3)
كانت الهيئة راضيةً جدًا عن المضمون، لدرجة أن عُرضت نسخة تجارية من النص للبيع في المؤتمر. واستقبل مناصرو الاتحاد “فاطمة” في عرضها الأول، بحفاوة بالغة، لكنَّها كانت مثار اعتراضات كثيرة من المعارضين، ما أدى إلى توترات خطيرة في الأوساط العربية في المستعمرة.
يقدِّم مضمونُ المسرحيَّةِ صورةً مثيرةً عن اهتمامات المجتمع العربي وإخفاقاته في سنوات ما قبل الحرب. ويبين ما كان يدور في أذهان أفراد المجتمع، ويُعدُّ ضروريًا لحل تلك المعضلات.
الحكاية:
فاطمة هو اسم الابنة الصغرى للتاجر الموسر ناصر بن عمر الشعيبي(4) الذي يشتد به المرض، وإذ يشعر بأن أجله يقترب، يقرِّر قبل وفاته، تزويج ابنته بمختار، معلم اللغة العربية، الذي كان معجبًا جدًا بها. ورغم أن أولاد العائلات الثرية يصطفُّون للاقتران بفاطمة، لكنَّه يُفضِّل مختارًا الفقيرَ، لكن المؤتمَن، الذي تتلمذت ابنتُه على يده، ويتوقَّع أن تسعد معه. ولأنها لمّا تزل طفلة، فقد عُقد قِرانها، على ألَّا يباشرا الحياةَ معًا إلا حينما تبلغ الفتاة سن الزواج. وإلى ذلك الحين، سوف تستمر فاطمة في العيش مع والدتها، وسيتم وضع ميراثها الكبير في دار الأيتام القُصّر، التي وضع فيها ناصر أيضًا تركة ابنه الذي أنجبه في سن مبكرة من امرأة بوجينية في إحدى الجزر الشرقية للأرخبيل الإندونيسي، لكنَّه هجرها بعد وقت قصير من ولادته. لقد كان يبحث عن هذا الابن منذ سنوات لكن دون جدوى. وإذا لم يُعثَر على هذا الابن بعد 15 سنة من وفاة ناصر، فإنَّ ميراثه سيَؤول إلى فاطمة وأخيها الأكبر يوسف. يوسف، ولد ناصر الوحيد، الذي سيحصل على أمواله مباشرة بعد وفاة والده، هو خروف العائلة الأسود. إنه لا يريد أن يُفلح في شيء، ولديه أصدقاءُ سوء، ويعود إلى المنزل متأخرًا، ويشرب البيرة والويسكي، ويطارد النساء، ويبذّر الأموال. لا يثق به والدُه، وبدلًا من ابنه، يوكل حركة أعماله التجارية اليومية منذ سنوات لأخيه الأصغر منصور. يرى يوسف أن من الخزي أن تُزوَّج أخته، “نجمة المدينة” و”فتاة أحلام كل أولاد الأثرياء”، بشخص فقير معوز مثل مختار(5)، يلوم عمَّه على عدم تدخله لإيقاف الزيجة، غير أنه يقبلها على مضض، لكنه، بعد وفاة والده، يطرد عمَّه منصورًا، على الفور، ثم تتدهور الأمور بعد ذلك.
بعد عامين من وفاة ناصر، يبدّد يوسف ميراثه، البالغ 75000 خيلدر، كُلَّه تقريبًا، وهو ثروة هائلة في ذلك الوقت، ويدمر العمل التجاري فعلًا. فالدائنون يصطفُّون في طابور مطالبين بمبالغهم المستحقة. بتحريض من صديقين يعتمدان على جيبه، هما سالم وعمر، اللذان يريدان مواصلة حياتهما الخاملة، يحاول أن يفسخ عقد قِران فاطمة بمختار، ويصبح وصيًا على أخته بدلًا من منصور. بهذه الطريقة يمكنه الاستيلاء على أموالها المُودَعة في دار الأيتام القصّر. لكنه يحتاج إلى تعاون منصور ومختار في هذا الأمر. يستدعيهما، ويخبرهما بأن فاطمة تريد فسخ العقد. ويعرض على كل منهما مكافأةً مبلغًا كبيرًا من المال، على أن يتم دفعه عند إبرام الفسخ. لا يصدقانه ويرفضان العرض بسخط. مختار، الذي يحب فاطمة كثيرًا، لا يرغب في ذلك إلا إذا صرّحت كتابيًا برغبتها في فسخ الزواج الذي لم يتم الدخول به بعد. ومع ذلك، يبدو أن فاطمة غير راغبة في الفسخ، فحبُّها مختارًا صار أقوى. يقرر يوسف لاحقًا تقديم تبرع كبير للمدرسة التي يدرّس فيها مختار، والضغط على مجلس الإدارة لطرده، ظنًا منه أنه بدون عمل سيكون على أتم استعداد لقبول عرضه. ومع ذلك، عندما علم مختار بهذه الخطة، قدم استقالته. فهو لم يكن سعيدًا منذ مدة في هذه المدرسة العربية، التي يتدخل أعضاء مجلس إدارتها باستمرار في شؤون التعليم، ويمنعون أي تجديد.
أصبح كلٌّ من منصور ومختار الآن بدون دخل. يقترح منصور استخدام مدخراتهما لشراء مساحيق تجميل وعطور وغيرها من المنتجات ومن ثم بيعها. يتبرم مختار، فهو غير معتاد على هذا النوع من العمل ويخجل منه، لكنه يقبل على مضض. يسيران كل يوم في أنحاء المدينة بالبضائع ملفوفةً في “بقشة” ومبلّلةً بالعرق، بحثًا عن الزبائن. وفي أحد الأيام، وهما في طريقهما إلى السوق، مرّا بمطعم به عدد من الزبائن. يقترح مختار أن يذهب إلى طاولاتهم لبيع البضائع، ويطلب من منصور الانتظار لبعض الوقت. في المطعم، يقابل بالصدفة يوسف وأصدقاءه المقربين، وقد شربوا كثيرًا، فاعتدَوْا عليه بالضرب على رؤوس الأشهاد. يأتي منصور لمساعدته؛ فيضرب يوسف ويوقعه تحت الطاولة.
لتفادي المزيد من المشاكل داخل الأسرة، يغادر الرفيقان على متن أول قارب إلى الجزر الشرقية الصغيرة؛ لتجريب حظهما هناك إلى حين، فبدون حضورهما لا يستطيع يوسف تطليق فاطمة، التي تُبلَّغ برحيلهما عبر وسيط. رفيق السوء سالم يقدِّم ليوسف الحائر خطةً جديدةً للحصول على المال. بعد سنوات قليلة سيكون له ولفاطمة ميراثُ أخيه المفقود، إذا لم يظهر قبل ذلك التاريخ. يمكنه بيع حصته لمُقرضٍ ما بمبلغ معين. يوسف، الذي يعاني من ضائقة مالية شديدة، لا يرى أيّ مخرج آخر. يذهبان معًا إلى معلم القرآن عمّي عبُود، الذي يعرض عليهما بعد شدٍ وجذبٍ 500 خيلدر مقابل ميراث سيصل إلى مائة ضعف بحلول وقت دفعه.
بعد مرور أكثر من عام، مازال منصور ومختار يتنقلان بين جزر سوندا الصغرى، حيث يقومان بأعمال جيدة. في أثناء البحث عن مكان لقضاء الليل، التقيا بعد ظهر أحد الأيام باك سابتو، وهو بوجيني عجوز، يقيم مع صديق عربي. يأخذهما إلى هناك. عند وصولهم، يتبين أن الرجل هو أحمد، والد مختار، الذي غادر مسقط رأسه قبل ستة أشهر للبحث عن ابنه. وأعيدت جميع الرسائل البريدية التي كان يرسلها طوال تلك الأشهر. وفي النهاية عرف من مدرسته السابقة أن مختارًا غادر المدينة. وفي أثناء البحث، أصيب أحمد بمرض خطير، فاضطره إلى الاستقرار هنا مؤقتًا. يحكي له مختار ما حدث، ويعتذر عن عقد قرانه دون استئذان والده، لكن الزواج لم يتم بعد. يسأله أحمد عن قبيلة زوجته واسم والدها. فيُصدَم إذ يجيبه مختار بأنها ابنة ناصر بن عمر الشعيبي، ويرتجف بدنه كله، ويرفع يديه إلى السماء، ويهلل: مختار، لا يجوز له أن يتزوج من بنت ناصر. يجب فسخ العقد.
مختار لا يستوعب ذلك مطلقًا، فيردّ، باكيًا، بأنه يحب فاطمة، ويرغب في الزواج منها. لكن الرجل العجوز يتشبث بموقفه، ويقول: “ستنشق الأرض، وتضربك الصاعقة، وتنفلق السماء، وتلعنك الملائكة، ويهتز عرش الله… إذا تزوجتها”(6) باختصار، يتبين أن أحمد ليس أبا مختار الحقيقي، بل والده بالتبني. فقد تبناه عندما كان في الخامسة من عمره، بعد أربع سنوات من وفاة والدته، ابنة باك سابتو. واضطر باك سابتو- الذي لم يكن له أقارب آخرون، ولم يكن لديه دخل – إلى التخلي عن مختار عندما حصل على وظيفة في ديلي. فوالده الحقيقي هو … ناصر، الذي هجرَ والدته. وفاطمة هي أخته غير الشقيقة، ومن رابع المستحيل أن يتزوجها.
يتولى منصور – عم مختار الآن – المهمة الصعبة المتمثلة في إبلاغ فاطمة بالوضع الحالي. يسافر مختار نفسه، مع باك سابتو (جده) ووالده بالتبني أحمد، أولًا إلى جزيرة ميلاده؛ ليطلب – من أجل الميراث – شهادة من رئيس القرية إلى دار الأيتام القصّر تفيد بأنه ابن ناصر. ومن ثم ينضمون إلى منصور.
منصور، الذي سافر قبلهم، يقابل بعد وصوله خادمًا سابقًا للعائلة، يخبره بأن فاطمة مريضة جدًا، وأن يوسف احتُجِزَ بناءً على طلب أحد المُقرضين؛ لأنه لم يعد قادرًا على سداد ديونه، ويتصرف منذ دخوله السجن كطفل خائف وحزين.
تنتهي المسرحية بعودة مختار ورفاقه الذين ما زالوا متأثرين. في أثناء عودتهم إلى المنزل، يلمحون على مسافةٍ ما موكبًا من الناس، يرددون “لا إله إلا الله”. تبيّن أنه جنازة. إنه مشهد مرعب، وحين تمر بهم مجموعة من المشيّعين الحزانى، تقشعر أبدانهم. وعلى مسافةٍ ما خلف الجنازة، يسير شخص متأثر، شارد الذهن، منكّس الجبين. وعندما يراهم يقترب منهم، ويحاول أن يقول شيئًا، لكنه يتلعثم. تبين لهم أنه منصور.
“ما الذي يجري…؟ […] لمن هذا الرفات؟” يسأل والد مختار [بالتبني]، ملهوفًا.
“أين يوسف؟ وكيف حال فاطمة؟ ولماذا أنت هنا؟”، يضيف مختار […] مستعجلًا.
يتلعثم منصور ببضع كلمات، فيصرخ مختار عاليًا:
“ماذا، يا صديقي؟… أين يوسف؟ وفاطمة… هل هي بخير؟”
“مختار .. عمي أحمد”، يجيب منصور باكيًا […] “لقد .. جُنَّ .. يوسف”.
“مجنون…؟؟؟”، يرد مختار والسيد أحمد بهلع … “وفاطمة؟” أين هي؟ “أين؟”، يسأل مختار بقلق وإلحاح.
“فاطمة .. فاطمة؟”، يقول منصور منتحبًا: “فاطمة؟ هذا… هذا… هذا جسدها. فاطمة… ماتت”(7).
مظالم وإحباطات:
كما ذكرنا، لم يكن المؤلف مهتمًا بتقديم عرض رائع، وأمسية ممتعة للجمهور فقط. بل أراد بافقيه أيضًا أن يريهم ذواتهم في المرآة، ليفكروا في وضعهم الخاص، ويُحدِثوا التغيير. لهذا أُثيرت في المسرحية معضلات المجتمع العربي، وجرى تضخيمُها والسخرية منها وانتقادها.
كان التعليم أحد الموضوعات التي ظلت تثير الجدل. فعادةً ما كان أولاد عرب إندونيسيا يلتحقون بالمدارس العربية التقليدية، حيث يتم التدريس باللغة العربية أو الملايوية أو باللغتين معًا. ونشأت منذ مطلع القرن العشرين خلافات خطيرة بين أولئك الذين أرادوا أن تواكب المناهج الدراسية متطلبات العصر، على سبيل المثال من خلال التعليم في فصول دراسية، وإدخال مواد مثل الرياضيات، وأولئك الذين أرادوا أن يبقى الحال على ما هو عليه. وكان للجمعيات الأهلية العربية مثل الرابطة والإرشاد مدارسها الخاصة، التي تتنافس فيما بينها من خلال التعليم. فضلًا عن أن الأحياء العربية كانت تعج بالمدارس الخاصة الصغيرة، التي لا يزيد عدد الطلاب فيها عن بضع عشرات. وإذا لم ترُقْ لأولياء الأمور سياسة مدرسة معينة، أو كان بينهم وبين المؤسس أو الراعي إشكال تجاري أو خلاف ديني، فإنهم يرسلون أطفالهم إلى مدرسة أخرى. فالصحفي عبد الرحمن باسويدان، على سبيل المثال، التحق بأربع مدارس ابتدائية. بدأ في المدرسة الخيرية في سورابايا، التي أسسها العرب المحليون. وبعد شجار بين أخيه الأكبر وقبيلي بارز، أُرسِل إلى المعارف. وفي وقت لاحق أمضى بعض الوقت في مدرسة الإرشاد في باتافيا، حيث كان يدرّس السوداني أحمد السركتي ذو التوجه العصري، وكذلك في مدرسة حضرموت في سورابايا حيث كان محـمد بن هاشم، رئيس تحرير البشير – أول مجلة عربية في جزر الهند الشرقية الهولندية – مسؤولًا. وفي مدرسة الإرشاد تعلم أن الناس يتمتعون بحقوق متساوية، وأن التراتبية الطبقية القائمة في حضرموت تُعدُّ مفارقة تاريخية. وفي المدرسة الموالية لسادة حضرموت سمع العكس تمامًا(8)، وظلت هذه الصعوبات التعليمية قائمة حتى النصف الثاني من الثلاثينيات، كما يتضح من تجارب مختار المستاء مرارًا وتكرارًا من مجلس إدارة مدرسته، المكوّن من أعضاء ذوي نفوذ في المجتمع العربي المحلي، لكنْ عديمي الخبرة في مجال التعليم، وكثيرًا ما يُجْرُونَ تغييراتٍ في برنامج المدرسة، ويتدخلون في طرائق التدريس، ويستبدلون كتاباً مقرراً بآخر في اليوم التالي. ويتدخل أعضاء مجلس الإدارة بشكل فردي في أثناء الحصص الدراسية؛ للتحقق مما إذا كان المعلّمون يلتزمون بما اتُّفِقَ عليه، أو لفرض وجهة نظرهم الخاصة؛ باعتبارها وجهة نظر صائبة. ولأولياء الأمور أيضًا التدخل في كل شيء، ولا يؤخذ في الاعتبار تأثير كل هذه الإرشادات المتضاربة على الطلاب. وبحسب مختار، فالبرنامج يحتوي أيضًا على عدد قليل جدًا من المواد، التي تمكّن الطلاب من اللحاق بركب العالم. وهو ينتقد تحديدًا التركيزَ الأحاديَّ الجانب على تعلم الكلام أمام الجمهور، حيث يكون الشكل أكثر أهمية من المضمون.
في الواقع، يتم تأهيل الأطفال لكي يصبحوا آلات ناطقة: “إنهم يتعلمون إلقاء الخطب العصماء، دون أن يعوا ما يقولونه بالفعل”(9) وفي رأيه، فإنهم يتلقَّون أيضًا صورة مشوَّهة عن الواقع الاجتماعي، من خلال التركيز الأحادي والجامد على حضرموت. إذ يُفتتح اليوم الدراسي، كل صباح، بنشيد حضرموت يا بلادي، الذي تقول سطوره الأولى: حضرموت يا بلادي أنت رمز العظمة * كل من يأتي إليك غازيًا يموت(10). ومع ذلك، فجميع الطلاب وُلِدوا في إندونيسيا، ولديهم قواسم مشتركة مع الإندونيسيين أكثر من سكان جنوب شبه الجزيرة العربية. فلا جدوى من تربيتهم على تقليد لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
تحتوي المسرحية أيضًا على تعريض بنمط حياة الشبان العرب من الأوساط الثرية وعقلياتهم، متمثلًا في شخص يوسف. إنهم يعيشون عالةً على أهاليهم، ويُمضُون أوقاتهم خاملين. يسمِّيهم والد فاطمة “حثالة العالم، وُلِدوا بملابس جميلة، لكنما دواخلهم ملأى بالقروح”(11). وعلى الرغم من أنهم يتمتعون بمكانة عالية، فهُم يفتقرون إلى الدماثة والشعور بالمسؤولية. إنهم كسالى ومتغطرسون ويشعرون بأنهم أكبر من أن يشمِّروا عن سواعدهم. إنهم يفتقرون إلى قوة الإرادة، والمهارات الاجتماعية؛ لبناء حياة مهنية ناجحة، كتُجَّارٍ أو رجال أعمال. ولكن حتى بين الشبان ذوي الخلفيات الفقيرة، وفقًا لمنصور، غالبًا ما تكون أخلاقيات العمل التي ميزت الجيل الأول من المهاجرين غائبة. حتى مختار؛ إذ كان عليه أن يتقبَّل بلا اعتراض عندما اقترح منصور، بعد استقالته، أن يبدأ حياته تاجرًا متجوِّلًا، شعر في البداية بالخجل، وقال إنه غير معتاد على البيع والشراء. لكنَّ منصورًا يرفض بغضب هذا “الخجل المصطنع”، ويرى أن الأمر يمثل مشكلة لجميع العرب الإندونيسيين: “إنهم يفضّلون انتظار الأقدار بلا حراك […] حتى يُعرَض عليهم عملٌ مهم”، فإن لم يحصلوا في نهاية المطاف على عمل ذي شأن، فإنهم لا يريدون الانحدار إلى أدنى مستوى. كم كان سلوك الجيل الأول من المهاجرين العرب الذين وصلوا إلى جزر الهند مختلفًا! لقد جاؤوا فقراء، وعملوا بجد، وكانوا راضين “بربح سنت أو سنتين،” وبفضل إصرارهم وجَلَدهم تمكَّنوا من شق طريقهم(12).
هذا الاختلاف في العقلية بين المهاجرين الجدد والقدامَى، بين التوتوك والمولّدين، تمت مناقشته أيضًا من قبل مؤلّفين آخرين. وخصص له باسويدان مقالًا كاملًا في العدد الأول من مجلة ماتاهري عام 1934. (13). وعزا ذلك إلى اختلاف سمات الفئتين نفسيًا واجتماعيًا. فقد نشأ أولئك الذين وُلدوا في حضرموت في بيئة فقيرة حيث كان العنف بين القبائل والأسر، وحيث لم يكن للكياسة والتهذيب وقتٌ ولا مجال. فالحياة في بلادهم في جنوب شبه الجزيرة العربية كانت قاسية و”بدائية”، وكان قاطنوها أشدّاء، مقتصدين، وأُولي بأس شديد – وهي السمات التي ظل هؤلاء الوافدون الجدد متمسكين بها في البيئات الجديدة التي استقروا فيها. وكم كان وضع عرب إندونيسيا مختلفًا في إندونيسيا ما قبل الحرب، حيث كانت الجماعات العرقية والقبائل والأسر تعيش جنبًا إلى جنب بسلام. ولم تكن الرجولة والحزم والشجاعة من الصفات المطلوبة بشكل مباشر في بيئتهم الطبيعية والاجتماعية، ونتيجة لذلك لم يتم نقلها من الأمهات الإندونيسيات أو العربيات الإندونيسيات إلى أبنائهن.
وفقًا لباسويدان، لم يكن من الصعب بناء حياة في المستعمرة. ومقارنةً بحضرموت، كان في جزر الهند حرفيًا “ما يكفي من الماء لإرواء العطش، وما يكفي من الغذاء لئلا يموتوا جوعًا”(14) ولم تكن هناك حاجة أيضًا إلى أن تكون مُكدًّا وجشعًا ومقتصدًا على الدوام. لذلك رأى أن المولّدين، على عكس التوتوك، أقل همًّا وأسلس في المعاشرة. فقد حاولوا الجمع بين ممارسة التجارة والاستمتاع، معتمدين فكرة “عش يومك”.
قدّم باسويدان هذه الصورة المبالغ فيها إلى حد ما عن عرب إندونيسيا؛ ليوضح أنه آن الأوان للتخلص من نير هيمنة عرب التوتوك. وتوقع أنهم، بعد تحررهم من آمال القادمين الجدد وإخفاقاتهم، سيصبحون أكثر استقلالية ومغامرة. واتخذ بافقيه موقفًا أكثر تحفّظًا في “فاطمة”؛ إذ رأى أن الشبان يذهبون بعيدًا في الاتجاه الآخر، ودعا إلى الحفاظ على صفات التوتوك الحميدة.
ينتقد بافقيه في مسرحيته أيضًا عادة الاقتران “من أجل المتعة البحتة”، زيجةً تلو أخرى، التي لم تختفِ تمامًا في تلك السنوات(15)، لاسيما أن التجار العرب الشبان الذي يسافرون حول الأرخبيل غالبًا ما كان المرء منهم يستأجر منزلًا لمدة محددة في موقع استراتيجي، ويتزوج بامرأة محليَّة. ومن هذا الموقع يجوبون المناطق النائية بحثًا عن العملاء، وعندما ينتقلون بعد عدة أشهر أو سنوات، عادةً ما تُنبَذ الزوجة الشابة، وتُستبدَل بزوجة جديدة في المكان التالي. ولا يُبقون إلا على الزوجات اللائي أُغرموا بهن فقط. فما لم يكن في عقدهم أكثر من أربع زوجات، فالأمر متوافق رسميًا مع أحكام الشريعة الإسلامية(16)، وليس من النادر أن يولد من هذه العلاقات المؤقتة أطفال، لكن آباءهم نادراً ما يهتمون بهم. هذا إذا كان يعرفون عنهم أصلًا. ولقد عاش ناصر أيضًا بهذه الطريقة في شبابه. وكانت له “في كل منطقة، وفي كل قريةٍ، محبوبةٌ، وأنجب أكثر من 30 طفلًا مسجَّلًا”(17) منهم ولدٌ ظل يبحث عنه حتى وفاته. ويبدو أن معاملات الزواج المقيتة هذه كانت تحدث بشكل رئيس في المناطق المعزولة والجزر النائية. فقد أشار الحاكم الإداري الهولندي بيرترام يوهانس أوتو شريكِهْ إلى أنه في سومينيب، الواقعة في أقصى شرق جزيرة مادويرا، يجري بعض العرب أحيانًا ما بين 10 إلى 12 زيجة سنويًا. وكانوا يفضلون الفتيات الصغيرات، القاصرات، ممن هم على يقين من أنهن ما زلن عذراوات. وكان مساعد مدير منطقة في الناحية يبحث عنهن بحسب طلبهم. وكان الآباء أحيانًا يعرضون بناتهم، والمال أيضًا (كمَهْر)؛ إذ كان إنجاب طفل من رجل عربي، ولا سيما سيد، يحظى بتقدير عالٍ. وكان عدد من سكان مادوري على استعداد لفعل أي شيء من أجل ذلك، حتى أن “تُعزَل ابنتهم بالطريقة العربية” ثم يُتبرّأ منها، بعد شهرٍ، و”تُلفظ”(18).
ومن أجمل المشاهد بلا شك ذلك الذي يزور فيه يوسف معلامة المرابي عمّي عبود، برفقة صديقيه، لبيع ميراث ابن ناصر المجهول. فهو يفضح، بطريقة إبداعية، نفاق المرابين العرب، الذي يعاني منه أفراد مجتمعهم وفئات السكان المحلية. يدخل الثلاثة في اللحظة التي يجلس فيها الأطفال على سجادة، يتلون آيات قرآنية بصوت رخيم. وبعد أن يخلعوا أحذيتهم، ينضمون إلى المعلم الذي يقطع الدرس بابتسامة ودية؛ للتفاوض بشأن القرض. تجري المفاوضات في البداية بأدب، لكن سَرْعَانَ ما يغضب معلم الدين بسبب المبلغ الذي يريدونه منه، ويعتقد أنه لا يتناسب مع المخاطرة التي يهرول إليها؛ فيتَّهمهم بأنهم يعبثون، ويطلب منهم البحث عن شخص آخر، ويأمر الأطفال بمواصلة تلاوة الآية التالية. يبدو أنها الآية الملائمة في سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(19) وفي حين كان معلم القرآن يرفع صوته مرارًا وتكرارًا، مشيرًا إلى أنه يجب عليهم أن يقولوا “الرِّبَا” بدلًا من “الرُّبَا”(20) كان يوسف ورفيقاه يبحثون مجددًا عن التقارب. يُسكت المعلم الأطفال مرة أخرى، وبعد أخذ وردٍّ، يصل الطرفان إلى اتفاق، ينبغي تصديقه لدى كاتب العدل. وفي نهاية المشهد يفاوض سالم، بشكل منفصل، على عمولة يرى أن من حقه الحصول عليها كوسيط.
كان الرِّبا شرًّا مستطيرًا بين العرب، يَصِمُ المجتمع التجاري كله. وقد حاولت قيادات المجتمع مكافحة هذه الممارسة السيئة من خلال المحاضرات في الأوساط العربية، والأحاديث الإذاعية، والمقالات الصحفية، لكنها ظلت واحدة من أهم مصادر الدخل مدةً طويلة(21) وكان العرب، ولاسيما التوتوك، رجال أعمال دُهَاة، لا يتورعون عن تحطيم العميل، فكانوا يضغطون أحيانًا على من لا يستطيع سداد القرض حتى يستحوذ المقرض على المنزل ومحتوياته. ولم يكن أولئك العرب يتمتعون أيضًا بسمعة طيبة باعتبارهم “ملاك الأحياء الفقيرة”. ومع ذلك، فقد كان للأثرياء منهم حَقًّا وضعٌ لا يمكن المساس به تقريبًا. لقد تمكنوا من ذرِّ الرماد في العيون، من خلال تقديم التبرُّعات للجمعيات العربية، والعمل لأغراض دينية. وتسلِّط المسرحية الضوء باستمرار على هذا المزيج من النفاق والجشع.
في لحظة ما يتنهَّد سالم قائلًا لصديقه عمر: ليس من الصعب أن تتظاهر بأنك ورِعٌ وتقي إذا كان لديك ما يكفي من المال، لكن الفقراء، مثلهم، سيظلون دائمًا أشرارًا في أعين الآخرين، “حتى لو زخرفْنا قبة السماء بأكملها”. ووفقًا له، ليس للناس من مكانة بلا رؤوس أموال أو ممتلكات، ولا يمكن أن يُعدُّوا متدينين “إنْ تَـلَوْنَا القرآن قِيلَ عَنَّا منافقون، وإن صلَّيْنا قيل تابُوا، وإن جلسْنا في المسجد قيل مُراؤون”(22).
الاستجابة:
حقق عرض مسرحية “فاطمة” الأول نجاحًا باهرًا في مؤتمر اتحاد عرب إندونيسيا الثالث في سيمارانج؛ إذ تفاعل الجمهور – الأعضاء من جميع أنحاء البلاد – معه بحماس، وأراد عدد من المندوبين عرض المسرحية في فروعهم. ولكن عندما أراد فرع سورابايا عرضها في أغسطس من العام نفسه، طلب وجهاءُ عربٌ في المدينة من جهاز المخابرات السياسية منع العرض، زاعمين أن مضمون “فاطمة” مسيء إلى المجتمع العربي كله في المستعمرة. وكان من المعترضين نقيب العرب المحلي وممثلو الجمعيات العربية الإرشاد والخيرية والرابطة (رغم أن الأخيرة ليس لها فرع في سورابايا). وبعد التشاور بين المعترضين وقسم التحقيقات الجنائية، بقي قادة الإرشاد والرابطة فقط على موقفهم. لم يكن لدى المخابرات أي اعتراض على مضمون المسرحية، لكنها كانت تخشى أن تمتد الاضطرابات إلى أحياء عربية أخرى. ولذا شُكِّلت لجنة وساطة من أعضاء يمثلون مختلف الأطراف؛ لإزالة سوء الفهم، وعندئذٍ فقط سوف يكون العرض ممكنًا. لم يكن أمام الفرع المحلي من خيارٍ، حينئذٍ، سوى إلغاء العرض المزمَع، وتخييب أمل مَن اشتروا التذاكر بالفعل(23) ومع ذلك، فقد حدث، على أي حال، ما سعت السلطات للحيلولة دونه، إذ امتد لسان اللهب إلى مدن أخرى، في لحظة صار سكان المستعمرة العرب في حالة من الهيجان على “فاطمة”، ما يعيد إلى الأذهان صراعات سابقة، كتلك التي دارت عن امتيازات السادة، وعن تصنيف الحكومة الاستعمارية العربَ بأنهم شرقيون أجانب، ليسوا كالأوروبيين. وكما هو الحال دائمًا، لم تكن هناك ضرورة إلى المزيد؛ كي تتوتر العلاقات في المجتمع العربي الصغير نسبيًا(24) وكان العرب التوتوك هم الذين عارضوا عرض “فاطمة”. وتركزت انتقاداتهم بشكل أساسي على مشاهد الرِّبا، وتأثير المحسنين على مجالس إدارة المدارس، وتمثيل أسلوب حياة الشبان. لقد رأوا أن الصورة التي أثارتها المسرحية لا تتسق مع الواقع، وتمسّ شرفهم وسمعتهم الطيبة، ولم يستوعبوا ما يدعو إلى نشر الغسيل على الملأ. وألمح البعض إلى أن في المسرحية آراء مخالفة للإسلام، لكنها نادرًا ما تُحدَّد. وكان رد فعل عرب إندونيسيا منقسمًا؛ إذ شاطر كثيرون، من كبار السن، التوتوكَ الرأيَ. ولم يكن للشبان عمومًا أيُّ إشكال مع المضمون، لكن لم يجرؤْ أحد على الإفصاح عن ذلك. فقد كان جزء كبير من عرب إندونيسيا يعتمدون اقتصاديًا على التوتوك، ويخشون الطرد. ولم يعد الاحتجاج، كما بات واضحًا، ضد “فاطمة” فحسب، بل ضد اتحاد عرب إندونيسيا أيضًا. فالحزب منذ تأسيسه في عام 1934، كان يعارض هيمنة التوتوك الشاملة في الأوساط العربية.
ورغم أن هؤلاء هم الأقلُّون عددًا، فإنَّ لهم تأثيرًا غير متناسب في الحياة الاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية. وكانوا في الحركات والمنظمات، كالخيرية والإرشاد والرابطة، هم “الأكثر بروزًا، ويشغلون المناصب القيادية […]، ويحددون الاتجاهات، ويتخذون القرارات، ويمرِّرون التغييرات”(25). ومنذ حملة التحرر التي شنَّها اتحاد عرب إندونيسيا، ظهرت تصدعات في هذا النفوذ، فأنحوا عليه باللائمة. وقد هيأت المسرحية فرصة للثأر منه وكسب الجولة. ومثلما كان سابقاً، حاول التوتوك تحقيق هدفهم عبر التعليم، بالطريقة المغايرة بالضبط لمضمون “فاطمة”. في الواقع لم يكن غالب التوتوك على معرفة بمضمون المسرحية الدقيق. ولم يتمكن أغلبهم حتى من قراءة النص، واعتمدوا على الشائعات التي كانت متداولة، وزادت الطين بِلّة. عمومًا، وقف كل طرف منهما في وجه الآخر، ودقت الخصومة إسفينًا بين الأهل والجيران والأصدقاء والمعارف.
كاد الاحتفال السنوي بيوم الوعي (يوم هاري كيساداران) في باتافيا – الذي يحيي فيه مناصرو اتحاد عرب إندونيسيا ذكرى اليوم الذي أعربوا فيه علنًا عن هويتهم الإندونيسية – أن يخرج عن السيطرة، بوجود شبان مسلَّحين مناهضين للحزب. وعلى الرغم من أنه لم يتطور في نهاية المطاف إلى عراك، فإنَّ المشاعر غدت متحفِّـزة إلى درجة أن عرض “فاطمة” لم يعد، من بَعْـدُ، ممكنًا في أماكن أخرى غير سورابايا.
فوجئ الاتحاد بالضجة التي أحدثتْها المسرحية، لكنها لمْ تُثْنِهِ. بل، على العكس، شنَّ حملةً مضادَّةً في عددٍ من المجلات، مثل مجلة إنصاف، وأليران بارو. وأشار باسويدان في “أليران بارو” إلى أن المسرحية الأولى “قربان عادات” التي عُرضت في مؤتمر الاتحاد الثاني، أحدثت هي الأخرى ضجةً، غير أنها لا تُقارَن بالضجَّة المثارة حول “فاطمة”(26)، وآخذ التوتوك بجهلهم فنَّ المسرح وقصورهم عن تقدير مزاياه. وأقرَّ بأن المسرحية سلّطت الضوء على الانتهاكات في المجتمع العربي، لكنه نفى أن تكون موجهة ضد التوتوك، رغم أنهم غالبًا ما كانوا يعيقون التغييرات. إلى جانب ذلك، أشار إلى أن ثمة دلائل متزايدة من أنحاء البلاد كافة على أن أعضاء المنظمات العربية ينأون بأنفسهم عن المناصب الحكومية الرسمية؛ لأنها تتعارض مع مصالح المجتمع العربي. في واقع الأمر سعت الأطراف كلُّها من أجل تنمية المجتمع العربي، ولم يكن من المفيد النأيُ عنها لأسباب تنافسية. وآخذ كتابٌ آخرون التوتوك بتضخيم الذات والافتقار إلى النقد الذاتي، وأنهم يرون كل شيء من منظور عربي، وكل ما يشذ عنه فهو مرفوض.
وحث اتحادُ عرب إندونيسيا على التزام الهدوء، ودعا إلى دراسة نص المسرحية برويّة. عندئذٍ، سيتضح أنَّ منتقديها كانوا مخطئين، وأن من شأن عدم عرض “فاطمة” بل حظرها، كما زعموا، أن يؤدي إلى اضطرابات مستمرة في دائرتهم.
في منتصف عام 1939 حاول فرع اتحاد عرب إندونيسيا في تشيريبون عرض المسرحية، فَـدُقَّ ناقوس الخطر مجدَّدًا من سورابايا (800 كيلومتر شرقاً)، بأن أي عرض محتمل سيواجهه المناوئون بـ”المسدسات والسيوف، والمناجل، والخناجر” (27)؛ فأُلغيَ عرض المسرحية للمرة الثانية. كما أن خطط عرضها في باتافيا لاحقًـا من ذلك العام لم تُسفِـرْ عن شيء مبدئيًا. حتى أن كبار التوتوك اتصلوا بالقنصل البريطاني في العاصمة لإقناعه بتقديم اعتراض إلى الحكومة الهولندية، باسم بريطانيا العظمى، اعتقادًا منهم أن بادرةً كهذه من حقهم، باعتبارهم من أهالي حضرموت، التي كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية آنذاك. غير أن القنصل أبلغهم بأن الأمر شأن داخلي، كما يرى.
في غضون ذلك، بدأ عدد من القادة والمثقفين ينأون بأنفسهم، عن محاولات منع عرض “فاطمة”. فقد أدركوا أن المعضلات المعالَجة في المسرحية جديرة باهتمام الجميع، وينبغي، على أيّ حال، أن تكون موضوعًا للنقاش. ونفى كلٌّ من العرقوبي نقيب العرب في باتافيا، وباجري عضو مجلس إدارة جمعية الإرشاد علنًا أنهما تحدَّثا سلبيًا عن المسرحية، وزعما أنهما من ضحايا الشائعات، ولا يسعيان إلى الفتنة. وأفتى أحمد السركتي، الزعيم الإسلامي التقدمي المذكور آنفًا، ناصحًا التوتوك، أمام مؤتمرٍ إرشادي بــ”ألَّا يَشغَبوا في اتحاد عرب إندونيسيا، فما هم إلا عيالهم”(28)، هذه وغيرها من التصريحات المحفِّـزة منحت الاتحاد الدفعة التي كان يحتاجها.
في أوائل أكتوبر، بعد مرور أكثر من عام على محاولة سورابايا، عُرضت “فاطمة” في حديقة برينسنبارك في باتافيا تحت حراسة مشدَّدة من الشرطة بحضور السلطات المحلية، وأعضاء إندونيسيين وعرب في مجلس الشعب، وممثلي التجمعات الوطنية، وأعضاء من الجمعيات العربية، بينهم عدد من التوتوك وعشرات الصحفيين. حقَّـق العرض المسرحي نجاحًا كبيرًا، وتأثر به المناوئون، الذين لم يقرؤوا النص شخصيًا من قبل، واعتذروا عن مناوأتهم. لقد أدركوا أنهم كانوا متأثرين ببلبلة مثيري الشغب في دائرتهم الخاصة. وشدَّد محمـد العطاس، المرشَّح لعضوية مجلس الشعب، بقوة على أن يكون هناك مجال للنقد(29). وعاد ممثلو الرابطة إلى موقفهم الطبيعي وتحدَّثوا بصوت عالٍ عن “السلام” بدلًا من “الحرب”(30). وفي الشهر نفسه عُرضت المسرحية في سولو وبيكالونجان، حيث قوبلت بالحفاوة نفسها. ومع ذلك، ظلت سورابايا منطقة محرّمة مؤقتًـا.
وكانت ردود فعل الصحافة مشجعة أيضًا؛ إذ رأت مجلة “كينغ بو” الإندو- صينية أن “فاطمة” رسم دقيق لأخلاق العرب وعاداتهم في إندونيسيا، بما في ذلك عيوبهم، التي تعاني منها كل جماعة سكانية، على أي حال. ونوّهت بالرسائل التي تضمَّنتْها المسرحية لتعزيز التحرر، ومواجهة الانتهاكات الداخلية، ودعوتها عربَ إندونيسيا إلى اعتبار إندونيسيا وطنهم. وأعرب بوارتا أومون عن أسفه لتخصيص عرض وحيد فقط لكل مكان. فالمسرحية جديرة بالعرض مراتٍ للجمهور. ولم يرَ تياتانج تيمور، الذي كان دائم العداء للحزب الإسلامي التقدمي، أيَّ سبب للنظر إلى “فاطمة” بوصفها إساءةً للجماعة العربية، “على الرغم من أنها تحتوي على تشريح حاد للانتهاكات في المجتمع العربي، فإنَّ معالجتها تتم بطريقة لائقة ومحترمة وملائمة، ويتم التعبير عنها بحكمة”(31)، بل إن الناقد الفني بارادا هارابان نوّهَ بوجهات النظر المعبَّر عنها في المسرحية، على الرغم من أنه لا يتفق معها جميعًا. وأشاد، كالصحفيين الآخرين، بالحبكة والمشهد والإخراج، فضلًا عن أداء الممثلين الذي لم يكن أدنى مستوى من أداء المحترفين. ووفقًا له، مازال بإمكان الإندونيسيين الأصليين، الذين يتحدثون اللغة، على ما يبدو، بمستوى أقل من العرب، أن يتعلموا شيئًا من لغة الملايو الجميلة، التي تحدث بها الممثلون على المسرح.
ورأى بيمادانجان أنه من الذكاء الإشارة إلى أن فاطمة كانت حاضرة دائمًا، رغم أنها لم تظهر شخصيًا. حتى لقد ذهب إلى أنه لن يمر وقت طويل قبل أن يسمح اتحاد عرب إندونيسيا فعليًا للمرأة بالتمثيل على الخشبة، وهو أمر كان محظورًا تمامًا حتى ذلك الحين(32).
حظيت “فاطمة” بشعبية واسعة بين عرب إندونيسيا، لدرجة أن الشركات والمحلات التجارية والمنتجات كالسمن والعطور وكريم الشعر سُمِّيَتْ باسمها. وأطلق أحد أعضاء اتحاد عرب إندونيسيا البارزين اسمها على الفيلّا الجديدة، التي يملكها في تريتيس بالقرب من مالانج. وحقق المطرب الإندونيسي العربي الشهير عبد الله نجاحًا كبيرًا بأغنية خاصة عن المرابين، أُعِدَّتْ خصيصاً للمسرحية (33)، وأطلقت دار للأيتام في باتافيا على إحدى اللقيطات اسم فاطمة، وأُرسلت إليها الألعاب والملابس المحلية الصنع من جميع أنحاء البلاد(34). لقد أصبحت فاطمة رمزًا لعملية تحرير العرب الإندونيسيين.
الخاتمة
أدت مسرحية “فاطمة” دورًا مهمًّا في إنهاء عزلة العرب النسبية في جزر الهند الشرقية الهولندية. وما يزال السكان ذوو الأصل العربي المولودون قبل الحرب العالمية الثانية، والذين التقيت بهم على مر الزمن يتذكرون المسرحية، وكثيرًا ما سمع عنها جيل الشباب.
من خلال معالجة المشاكل الداخلية علنًا – على خشبة المسرح – تم الترويج لتحرر الأقلية المنعزلة، بطريقة فريدة في نوعها. وكان مضمون المسرحية يتمحور بشكل رئيس حول الانقسامات بين التقليديين والتقدميين، وهو الانقسام الذي يوازي إلى حد كبير الانقسام بين العرب التوتوك (الولايتي) وعرب إندونيسيا المولدين. رأى التوتوك في “فاطمة” تعدِّيًا على مكانتهم المؤثرة في المجتمع العربي، وتقويضًا للأخلاق والعادات التي نشأوا عليها في حضرموت. من ناحية أخرى، رأى عرب إندونيسيا في المسرحية توكيدًا لوجهة النظر القائلة إن أسلوب حياة الوافدين الجدد لا يتوافق مع أسلوب حياة البلد الذي ولدوا فيه. لقد بصَّرتْهم “فاطمة” بتغير موقفهم في جزر الهند، وشجَّعهم مضمونُها على تحرير أنفسهم من الهيمنة الشاملة للتوتوك ذوي التوجه المحافظ، والدفاع أكثر عن مصالحهم الخاصة.
ذات مرة، أخبرني أسد شهاب، وهو صحفي إندونيسي عربي بارز، شهد شخصيًا الضجَّة المحيطة بـ”فاطمة” أن الدراما الفنية حالتْ دون اندلاع دراما اجتماعية. وعلى الرغم مما قد يبدو من مبالغة في قوله، فقد أصاب كبد الحقيقة. فلقد أسهمت المسرحية بلا شك في الوعي بأن عرب إندونيسيا غير متناغمين مع مجتمع يتطور بسرعة مطّردة، وكان عليهم بذل جهد للتكيف.
إحالات:
**هذه الدراسة تحرير هولندي لـ: ” In the Name of Fatimah: Staging the Emancipation of the Hadhramis in the Netherlands East Indies” المنشورة في: Abushouk, A.I. & H.A. Ibrahim (eds.), The Hadhrami Diaspora in Southeast Asia. Identity Maintenance or Assimilation? Leiden Brill, 2009, p. 245-262
1- يشير مصطلح totok في هذه الدراسة دائماً إلى العرب الأصليين.
2 – De Jonge 1993
3 – Bafagieh 1938 ، لم أتمكن من العثور على نص (قربان عادات).
4 – فاطمة هو أيضاً اسم بنت النبي محمـد.
5 – Bafagieh 1938, p.15
6 – المرجع نفسه، ص. 51.
7 – المرجع نفسه، ص. 57
8 – De Jonge 2004, p.380
9 – 30Bafagieh 1938, p.
10 – المرجع نفسه.
11- Bafagieh 1938, p.15
12 – للاطلاع على هذه الاقتباسات الثلاثة، أنظر : Bafagieh 1938, p.32
13 – أعيد نشره في مجلة الإنصاف Insaf ، أنظر : Baswedan,1940
14 – Baswedan 1940, p.6
15 – Bafagieh 1938, p.14
16 – تعدد الزوجات كان في البلد المضيف أكثر انتشاراً من حضرموت. أنظر: Van den Berg 1887, p. 41
17- Bafagieh 1938, p.14
18- أنظر المخطوطة 885 لــ B.J. O Schrieke ، مجموعة المخطوطات، KITLV، لايدن,
19- Bafagieh 1938, p.41، والترجمة الهولندية لـ J.H. Kramers 1965, p. 40
20- RIBA هي كلمة الربا بالعربية.
21- معلومات م. أسد شهاب ، جاكرتا. راجع: Maskatie 1938 و A.S. 1941.
22- للاطلاع على كلا الاقتباسين انظر: Bafagieh 1938, p. 23
23- Baswedan 1940, p.21. ذكر لي ياب إركيلنس Jaap Erkelens أن احتجاج الجمعيات تم الاهتمام به في صحيفة Het Vaderland الهولندية
19-08-1938 ربما لأن العطاس، وهو عضو عربي في مجلس الشعب (Volksraad)، اضطر للسفر إلى مدينة التماسيح ” krokodillenstad ” للتوسط.
24 – De Jonge 1993 en1997
25- Fataljaum 1938, p18
26 – Baswedan 1938. أنظر: Bafagieh 1940
27- Bafagieh 1939, p. 2
28- Bafagieh 1939
29- . Bafagieh 1939, p. 4
30 – المرجع نفسه.
31- Charraat 1939, p. 12
32 – Charraat l940, p. 17.
33 – Abdullah 1940.
34 – أنظر:”فيلّا فاطمة” في: Aliran Baroe 3 (1940), 20, p. 20، وعن الطفل اليتيم الذي مات بعد أشهر قليلة. أنظر: Aliran Baroe 3 (1940), 19, p. 12 en Aliran Baroe 3 (1940), 26, p. 17.
ببليوغرافيا:
A.S., ‘“Akalnja kaoem” Linta darat’. In: Aliran Baroe 4 (1941), 32, p. 16-17.
A.S., ‘“Linta darat” di pidatoekan di zender P.P.R.K.’ In: Aliran Baroe 4 (1941), 32, p. 17.
Abdullah, S., ‘Lintah darat! Oh Riba….!’ In: Aliran Baroe 3 (1940), 1, p. 14.
Bafagih, Hoesin, Toneel tjerita: ‘Fatimah’. Soerabaja, Agil’s, 1938.
Bafagieh, Hoesin, ‘Sekeliling toneel Fatimah! Sebelum dan sesoedahnja toneel dimainkan’. In: Aliran Baroe 2 (1939), 15, p. 1-4.
Bafagieh, Hoesin, ‘“Korban Adat” Tjerita toneel-uitvoering jang pertama’. In: Aliran Baroe 3 (1940), 1, p. 5.
Baswedan, Abdul Rahman, ‘Keterangan officieel dari P.B.P.A.I. Kegemparan di sekeliling Toneel Fatimah’. In: Aliran Baroe 1 (1938), 1, p. 21-22.
Baswedan, Abdul Rahman, ‘Peranakan dan totoknja’. In: Insaf 4 (1940), 2/3, p. 8-12.
Berg, L.C.W. van den, Hadhramout and the Arab Colonies in the Indian Archipelago. Bombay: Government Central Prees, 1887.
Charraat, ‘“Fatimah” dalam teropong journalisten’. In: Aliran Baroe 2 (1939), 15, p. 11-15 en 16, p. 13; Aliran Baroe 3 (1940), 1. p. 17-18.
Fataljaum. ‘Sekeliling toneel “Fatimah” Salah Zet’. In: Aliran Baroe 1 (1938), 1, p. 17-20.
Jonge, Huub de, ‘Discord and Solidarity among the Arabs in the Netherlands East Indies, 1900-1942’. In: Indonesia, 55 (1993), p. 73-90.
Jonge, Huub de, ‘Dutch Colonial Policy Pertaining to Hadhrami Immigrants’. In: U. Freitag & W.G. Clarence-Smith (eds.), Hadhrami Traders, Scholars and Statesmen in the Indian Ocean, 1750s-1960s. Leiden: Brill, 1997, p. 94-111.
Jonge, Huub de, ‘Abdul Rahman Baswedan and the Emancipation of the Hadhramis in Indonesia’. In: Asian Journal of Social Science 32 (2004), 3, p. 373-400.
Kramers, J.H., De Koran. Amsterdam/Brussel, Agon Elsevier, 1965.
Maskatie, S., ‘Habis akal, agama ditarik tarik’. In: Aliran Baroe 1 (1938), 2, p. 37-39.
*مصدر الدراسة:
Tijdschrift Indische Letteren, Jaargang 25, (2010), Fatimah Een controversieel Indo-Arabisch toneelstuk,Huub de Jonge, p.20-38
**هوب دي يونج: عالم أنثروبولوجيا اقتصادية في جامعة رادبود في نايميخن الهولندية. مجالات اهتمامه الرئيسية الثقافة والاقتصاد: أنماط الحياة والهوية الاجتماعية والثقافية؛ وريادة الأعمال. وقد نشر عدة دراسات عن الأقلية العربية الإندونيسية في إندونيسيا. وهو محرر مشارك ( مع نيكو كابتين) لكتاب تجاوز الحدود: العرب والسياسة والتجارة والإسلام في جنوب شرق آسيا،(KITLV 2002)