السلام في حضرموت .. (2-3) .. دبليو. أيتش. إنجرامز، أو.بي.إي .. ترجمة: نجيب سعيد باوزير- نورة نجيب باوزير
ترجمة
أ. نجيب سعيد باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 40
رابط العدد 33 : اضغط هنا
وأود هنا أن أقوم بالتعريف عن شخص آخر ممن قدموا عونًا كبيرًا، وهو ناصر عبد الله الكثيري. كنت أعرف ناصرًا منذ عدة سنوات في زنجبار، حيث جمعت بيننا صداقة وطيدة. ويقول أهل حضرموت إن ناصرا يملك قلبًا طيبًا ولكن لسانه يوقعه في المتاعب. وعلى أية حال، فقد تورط في مشكلة بعد مغادرتي لزنجبار وتم نفيه لمدة عشرين عامًا. وكان خارج البلاد عند زيارتي الأولى لحضرموت ولم ألتقِ به ثانيةً حتى عام 1936. وعاودنا صداقتنا القديمة، وعندما توطدت درجة من الألفة اقترح أن نذهب إلى بن عبدات، وهو صديق مقرب له، ونستعير 25 من العبيد الأشداء، ونستقل مركبًا شراعيًا نتجه به إلى زنجبار ونهجم على المكان- وكان ينوي أن يهجم على الشرطة بالتحديد- وأن نرجع إلى حضرموت قبل أن يستيقظوا.
وقد وجدت من الأسلم إحباط هذه الخطة، ولكن مع تطور مخططات السلام أثبت ناصر أنه نصير قوي للقضية، وبالرغم من أنه قد تجاوز الستين من العمر أخذ يجوب الوادي صعودًا وهبوطًا داعيًا إلى السلام وقائلًا إن ما أقوله يجب أن يطبّق. وكان شديد الإخلاص والطيبة إلى درجة أنه تخاصم لبعض الوقت مع بن عبدات حتى وافق الأخير على التوقيع؛ لم أر قط في حياتي رجلًا مثل ناصر يتنازعه الإخلاص لصديق قديم والشعور بالواجب نحو بلده ونحوي. لقد بدا عليه التقدم في السن بشكل ملحوظ، ولكن رغم إرهاقه الشديد كان يرفض أن يستريح، ودائمًا ما كان متقدمًا على جماعتنا السلامية مندفعًا في حملته التي فرضها على نفسه. ويسرني الآن أن أقول إن حكومة زنجبار قد تغاضت عن جرائمه في زنجبار وسمحت له بالعودة جراء عمله الخيّر لحضرموت. وأنا متأكد من أن تلك كانت خطوةً ذكيةً منهم بقدر ما هي سخية، ولا أظن أن ناصرا سيخون الثقة التي وضعت فيه. وأعترف أنني لم أبلغ عن العملية المقترحة من قِبَله!
ونظرا لأن آل بن يماني لم يذعنوا للشروط، سُلمَت لهم إخطارات، يدا بيد، مع بعض السادة ليوضحوها لهم، كما أُرسلَت لهم عن طريق الجو، مفادها أن مناطقهم سوف تقصف في الأول من فبراير. وكانت الإخطارات بالصيغة المعتادة، وفيها إنذار لهم بأنهم إما أن يسلموا قبل ذلك التاريخ أو يغادروا قراهم إلى الوقت الذي يسمح لهم فيه بالرجوع. كما قيل لهم إن آبار المياه في حرو ستكون آمنة من القصف، إذ لم تكن هناك نية لقطع المياه عنهم.
بدأ القصف في 1 فبراير، واستمرت الدعاية في جميع الاتجاهات. بعد مرور يومين أو ثلاثة من القصف قررنا أن نتوقف وأن نمنح آل بن يماني الذين تفرقوا في المناطق فرصةً ليتجمعوا وينظروا في الأمر. وكان حاضرًا هناك وقت إلقاء القنابل شخص طيب من الذين ساعدوني كثيرًا من أفراد تلك القبيلة يحاول إقناعهم بالدفع. وقال إنه عندما أتت الطائرات كان أهل المنطقة يحتفلون في عدة أعراس وكانوا مقتنعين تمامًا بأنه لن يحدث أي شيء باستثناء إلقاء الورق كالمعتاد. ولم تحرك القنابل الدخانية ولا القنابل الصغيرة فيهم ساكنًا، وكان إسقاط قنبلة ’ثقيلة’ في حقولهم هو الشيء الوحيد الذي أقنعهم بأن الإجراءات كانت جادة، ولاذوا بالفرار.
وقد اقتصر القصف في اليوم الأول على الحقول ولكن مع الأسف تناثرت الشظايا بعيدًا وسقط خمسة ضحايا. لا أستطيع أن أصف ما شعرت به عندما سمعت عن أولئك الضحايا في غرفة المجلس الخاصة بالسيد أبي بكر. حاولت التعبير عما شعرت به، ولكن زعيم الجابريين وغيره من القبيليين لم يستوعبوا أنه قد انتابني القلق. وقالوا: “تبًا لهم! وعلى كل حال ما نفع ذلك الآن؟” وعندما انفض الاجتماع وغادر الجميع، جاء إليّ السلطان علي ووضع يده على كتفي، وقال: “لا شيء يستدعي منك القلق. لعلك ترى الأمور على نحو مختلف عما نراها نحن. ماذا تهم أرواح قليلة ما دمنا سننعم جميعًا بالسلام، وعلى أية حال لست أنت المسؤول عن الأمر، ولكن الله هو من أراد ذلك”، وكان ذلك أفضل عزاء بالنسبة لي.
وصلتني في اليوم نفسه رسالةٌ من بن عبدات يلتمس مني فيها أن أذهب لمقابلته ولو لخمس دقائق. فذهبت إلى الغرفة في عصر ذلك اليوم ووافق على قبول الهدنة وعلى مساعدتي في إقناع آخرين بأن يحذوا حذوه. وفي اليوم التالي (الأحد، 6 فبراير) حضرتُ الاجتماع الثاني للعشائر الكثيرية في بحيرة. وبحلول هذا الوقت انضم إلى الاجتماع معظم الذين تخلفوا عن الأول ولم يكن هناك معارضون. وقد كان هذا أكثر اجتماع مشجع حضرته على الإطلاق، إذ بدا أن هناك أملا جديدا حقيقيا في جميع أنحاء البلاد. في ذلك اليوم وقّع كل من بلفاس وبن عبدات، وحين غادرنا الاجتماع أتانا مبعوثون إلى بحيرة يخبروننا أن آل بن يماني قد جمعوا الغرامة المفروضة عليهم وأنهم مستعدون للمجيء إلى سيئون لدفعها.
بعد اجتماع بحيرة انتشر خبر الهدنة في كل البلاد، وتوافد زعماء الفخائذ والعشائر إلى سيئون يطلبون الهدنات، كما أتت وفود تشكرني أنا والسلطان والسادة على ما تم القيام به. وحتى بدو العوامر من الشمال أتوا يطلبون منا أن نضمهم إلى الهدنة. ثم أقيمت مراسم استسلام آل بن يماني بحضور السلطان علي بن صلاح والرؤساء والوجهاء من جميع أنحاء البلاد. وربما ما سيعطي الصورة الأفضل عن كمية الجموع التي حضرت أن “إن كل فنادق المكان كانت مكتظة”. كان الناس يأتون راجلين وعلى ظهور الجمال والحمير، وكانت تلك أول مرة تشهد سيئون ذلك العدد الكبير من السيارات. وكانت ترتيبات المناسبة بالطبع قد تم تخطيطها من قبل، وبعد أن سُلمت الغرامة قمنا أنا والسلطان بمصافحة آل بن يماني لنثبت أن ما مضى قد مضى، ولكن كانت هناك ثلاثة عناصر لم يتم إعدادها مسبقا، وهي: خطاب السلطان (موجود ضمن ملاحق هذه المقالة) وخطاب عن آل بن يماني، ثم قام منادٍ وأعلن ما يلي: “كما منح السلطان علي بن منصور بن غالب الكثيري السيد إنجرامز لقب ’صديق حضرموت‘، فعلى الجميع أن ينادوه بهذا اللقب.” ثم صاح ثلاث مرات: “يعيش ’صديق حضرموت‘”.
وفي الأيام القليلة التي تلت ذهبتُ إلى تريم، حيث وَقّع خلال يومين آل تميم كلهم، وفي الأيامٍ اللاحقة قدِم آل جابر، وآل بار، والعوامر، وآل الجوهي، وآل المعاري، وآل مدحي. وفي الحقيقة لقد أصبحت عدوى الهدنة أكثر انتشارًا من وباء الحصبة. ولكن الشيء الذي أثر في نفسي أكثر من غيره هو وصول وفد من آل علي كثير، من أقصى الشمال الشرقي ، حيث يعيشون بين المهرة. ففي وقت متأخر من الليل جاء الرجال الثلاثة لابسين قمصانًا بنية طويلة، وهو زي غير مألوف في حضرموت، وجثوا على ركبهم وهم يقولون: “لقد سمعنا عن السلام في هذه المنطقة، فمن فضلكم اجعلوا لنا نصيبًا منه”. وكان هؤلاء هم الذين قُتل منهم أربعة رجال بوحشية على يد العوامر قبل أشهر قليلة، وقد رجعوا إلى بلادهم بعد أن وقعوا على هدنة الثلاث سنوات، كما قدموا لي دعوةً لزيارتهم حتى أنشئ لهم مدارج هبوط في بلادهم، وأعطيهم وعدا بأن المحكمة سوف تحقق في قضيتهم.
في 25 يناير غادر فريق الصلح الذي كان يتكون مني شخصيا ومن السلطان علي بن صلاح، والسادة آل الكاف، ومناصب نهد إلى قعوظة، التي هي عاصمة نهد. كانت نهد وجعدة هما أكبر العوائق المتبقية. ولنهد ماضٍ من الحروب المستمرة لمدة واحد وعشرين عامًا، وعندهم منظومة من الخنادق تشابه في إتقانها منظومة الخنادق في الغرفة. وتبعد المنازل المجاورة عن العشائر المتحاربة الرئيسية بمسافة خمس عشرة ياردة فقط، وهناك أشخاص في تلك المنازل لم يغادروها حقيقةً لسنوات عديدة. والجعدة في وادي عمد لديهم ثلاثون ثأرًا كبيرا على الأقل، ولكن أهالي المنطقة في مجموعهم وقعوا خلال يومين بالنسبة لنهد روضان، وثلاثة أيام في حريضة بالنسبة للجعدة، ويوم واحد في هينن لبقية نهد. وبعد أن تم ذلك عدنا إلى سيئون، بعد أن أرسلنا نسخة من وثيقة الهدنة إلى دوعن لكي يقوم حكام ذلك الإقليم بأخذ توقيعات القبائل في تلك المنطقة، وكنا قد رتبنا للمناهيل بأن يتم التوقيع عنهم من قبل علي بن صلاح في تريم.
وانهالت علينا الوفود وخطابات الشكر، التي أوردنا منها مقاطع في ملحق خاص. وأعربت النساء عن امتنانهن للأمان الذي أصبح أزواجهن ينعمون به. وعندما وقّع الجعدة في حريضة كان من النساء من أخذن يبكين في الشوارع من الفرحة.
وكان انخفاض مبيعات الأسلحة أحد أبرز المؤشرات اللافتة على السلوك المتغير في البلاد؛ فقد أعيد دون أن يتم بيعه الكثير مما أرسل منها من اليمن، والبنادق التي كانت تبلغ أسعارها قبل مدة قصيرة من 400 إلى 700 ريال ماريا تيريزا أصبحت تباع الآن بأقل من 150 ريالا. والعلامة الأخرى على تغير المزاج كانت المضاربة الخفيفة التي بدأت في الأملاك السكنية، إذ ساد هناك اعتقاد بأن الكثير من الناس سيعودون من جاوة وأن الأسعار سترتفع بشكل كبير. وقد تم تحويل ملكية أحد المنازل الضخمة بمبلغ 15 ألف ريال، وأكد لي المشتري أنه لن يواجه صعوبة في أن يبيعه بمئة ألف دولار في المستقبل القريب.
وقد كنت لبعض الوقت متحفزا للعودة إلى المكلا لأن السلطان صالح كان قد غادر إلى الهند قبل ذلك بمدة، ولكن قبل ذهابي رتبت لأن يبدأ مجلس الصلح في عقد اجتماعات أخرى لتسوية النزاعات اعتبارًا من الأول من محرم (14 مارس) وأشرت على الأعضاء مُشدِّدا بأن يعجلوا بالشروع في العمل وأن يجتهدوا فيه.
كان آل بن يماني قد وجهوا لنا دعوة أنا وزوجتي لكي ننزل عندهم في رسِب، فغادرنا سيئون إلى المكلا في 6 مارس، وعلى الطريق في رسب أكرم القوم وفادتنا غاية الإكرام. لقد وصل هؤلاء البدو الآن إلى درجة من حسن الخلق والانصياع ليس لها مثيل. وأظهر لنا المودةَ الرجالُ والنساءُ على السواء ولم يكونوا يضمرون نحونا أية نقمة؛ بل إن (العُقال) وأتباعهم شكرونا على القصف. وقالوا لنا: “حسنًا فعلتم. لو لم يتم قصفنا لسخر الجميع منا، ولقالوا إننا جبناء وإن الحكومة تكذب، وإننا لم نكن لنتعرض للقصف لو أننا لم ندفع”. وقد قدموا لنا عشاءً بدائيًا، ولكنهم شملونا بضيافتهم الدافئة، وإنني أرغب حقًا في أن أكون قادرًا على مساعدتهم في مسألة إيصال المياه إلى منطقتهم. ولم يكن لديهم من مخزون في حوض المياه الخاص بهم سوى ما يكفي ليوم واحد، وكانوا سيرحلون بما لديهم من زاد في اليوم التالي بحثا عن الماء والكلأ. وطلبنا منهم أن يصطحبونا في جولة في رسِب لنشاهد آثار القصف، ولكننا دُهشنا حين رأينا أن الأضرار التي لحقت بالمنطقة كانت طفيفةً رغم ما وُجِّه من ضربات مباشرة على المنازل. وقد رممت بالطبع بعض الأبنية، ولكن لم يخطر ببالي مطلقًا أن قنابل تزن 250 رطلا ستحدث ذلك القدر الضئيل من التخريب في بيوت بنيت من الحجر المرصوص رصا. والمنزل الوحيد الذي ظننت أنه تضرر كثيرا بالقصف تبين لنا أنه مبنى خَرِبٌ من الأصل ولم يُضرب.
في ريدة المعارة في اليوم التالي كانت هناك المزيد من التوقيعات، ولدى وصولنا إلى المعدي – حيث تنتهي طريق السيارات – سمعت أن علي بن حبريش كان في عرف، التي تستغرق الرحلة إليها من الشحر يومًا واحدًا. وفي اليوم العاشر ذهبت لزيارته، وعلى الرغم من أنه الأكثر مهابةً من بين شيوخ البدو في حضرموت، أقنعه المناصب الذين كانوا برفقتي بأن يوقع، كما أقنعوه في الوقت ذاته بأن يمنح هدنة ثلاث سنوات إضافية للقعيطيين الذين كانوا قد أبرموا معه هدنة مدتها سنة واحدة مقابل مبلغ يزيد عن ألفي ريال ماريا تيريزا.
وفي اليوم الخامس عشر قابلت آل باحسن التانبوليين سكان المعدي في حبس. ووقعوا هم أيضًا على الهدنة، وكذلك الشعاملة في اليوم نفسه. وبعد أيام قليلة تلقيت رسالة من علي بن صلاح تفيد بأن عشائر الصيعر الرئيسية قد وقعت، وأيضا وقعت بعض العشائر في وادي رخية على الطريق إلى شبوة. كما أتتنا الأخبار من دوعن أن قبائل دوعن قد وقعت.
استُقبلتُ بمظاهر الحفاوة والتكريم في الشحر والمكلا، ومن أجمل الأخبار التي سمعتها أنه بفضل الأمن زادت كثيرًا البضائع المستوردة التي حملتها السفن الثلاث الأخيرة، وأن أجور النقل على الطرق انخفضت في بعض الحالات بمقدار 50 في المئة.
وفي المكلا وصلت إلى ترتيب مع القعيطيين فيما يخص الهدنة مع علي بن حبريش. كما أنني عقدت العزم على أن أبذل الجهد للتخلص من رواسب العداوة المزمنة ودفعت القعيطيين لأن يوافقوا على استقبال علي في الشحر، واستطعت –وهو ما تطلب مني جهدًا أكبر- أن أقنع عليًا بالموافقة. وفي الخامس من أبريل سقت سيارتي إلى خارج الشحر لمقابلته، وقد قدم مع خمسين مرافقا وحظي باستقبال كبير وعباءة شرف.
حاليًا تشمل هدنة الثلاث سنوات بالطبع كامل أراضي القعيطي والكثيري من البحر إلى الصحراء، بالإضافة إلى جزء من بلاد الواحدي. وإجمالاً، هناك ما بين 1300 و1400 من التوقيعات مما يدل على مدى التشظي التي كانت عليه البلاد، إذ إن الكثير من الموقعين لا يمثلون إلا عشائر صغيرة. والخطاب التالي من أحد (السادة) من ذوي الخلفية التاريخية يظهر الوضع غير المسبوق الذي أصبحوا فيه الآن.
“لقد درست التاريخ الحضرمي من عام 500 للهجرة حتى الوقت الحاضر، وقرأت العديد من الكتب واستفسرت من علماء ومثقفين عن السلام العام في حضرموت، ومن التحريات الدقيقة التي تم إجراؤها لم أجد ما يثبت أن حضرموت –من الحدود إلى الحدود- كانت تنعم بسلام شامل في أي فترة من الفترات سواءً في العصور القديمة أو الحديثة.
“سلاطين حضرموت العظماء والأقوياء والعادلون، عبد الله بن راشد، الذي توفي في عام 615 ه وبدر بو طويرق، الذي توفي في عام 977 ه أجبروا الجميع على الخضوع لهم، ولكن القبائل استمرت في المشاكل فيما بينها.
“وبالنسبة للأزمنة الأخيرة، فقد استفسرت من بعض المثقفين حول ترتيبات السلام التي كانت تُبرم بين القبائل ووجدت نقطة مهمة واحدة، وهي أن حضرموت لم تعرف أبدًا معنى (السلام الشامل) لقرون عديدة. كانت هناك هدنات بين عشيرتين أو ثلاث، ولكن العشائر الأخرى كانت تستمر في نزاعاتها.
“عندما كان يموت أحد الكبراء من آل العطاس كانت تبرم هدنة لسنة واحدة، أو أقل، بين الجعدة ونهد فقط. وعنما يموت أحد كبراء آل الحبشي أو آل عبد الله بن علوي العيدروس كانت تتم هدنة بين آل كثير والعوامر فقط، وإذا مات أحد عظماء الرجال من آل العيدروس أو آل شيخ أبو بكر كانت تعقد هدنة بين آل تميم، وهكذا.
“وفي عام 1320ه في أثناء حياة المنصب عبد القادر بن سالم العيدروس، ظل لمدة شهر يسعى لترتيب هدنة، وبعد معاناة كبيرة توصل إلى هدنة لمدة عام واحد. وخلاصة القول، فإن السلام الشامل على الطرق وبين القبائل في الإقليم لم يُعرف في حضرموت على مدى عدة قرون.
“وقد سجلت ملاحظة في نهاية تاريخي مفادها أنه يجب على المؤرخين الذين قد يأتون من بعدنا أن يعلنوا فرحتهم وبضربوا طبولهم أمام حدث إرساء السلام في البلاد”.
وفي 28 مارس بدأت الأمطار تنزل في جميع أنحاء البلاد، وقبل أن يتوقف نزول المطر بمدة طويلة قيل على نطاق واسع إنها أغزر مطر شهدتها البلاد على مدى خمسة عشر عامًا، ولاحقًا شهد الجميع بأنها كانت أغزر الأمطار التي عرفها الإنسان على مدى عصور طويلة. وانتشر اعتقاد عام بأن نعمة المطر هي مكافأة من الله على حلول السلام، وقد عبرت الرسالة التالية عن مزاج مشترك:
“إلى صديق حضرموت: لقد عمت حضرموت أمطار نافعة، وروتها السيول من شرقها إلى غربها دون أن تتسبب بأي ضرر أو خراب. وكل الناس سعداء بهذا، ويقولون إنه نتيجة للأمن والسلام، وهم يتذكرونك ويقولون إن السلام الآن سائد والرحمة كذلك سائدة ببركة إنجرامس”.
وعندما أتيت إلى الساحل وجدت رأيا مختلفًا تمامًا ومعظم الناس كانوا يعبرون بصراحة عن لهفتهم إلى المساعدة. وكان السلطان قد وافق على أن أبقى هناك في أثناء غيابه في الهند، وبعد ذلك في حفل التتويج، وبعد أن كنا في خضم المشاغل القبلية انتقلنا لبعض الوقت إلى الانشغال بتلقي عدد هائل من الشكاوى من الظلم كتابيا وشفويا من سكان المدن الساحلية. وكانت ساعات عملنا من الساعة 7:30 صباحًا حتى الساعة 8:30 مساءً، مع استراحة ساعة لتناول الغداء، وساعتين ونصف من الرابعة مساءً للاستماع إلى الإذاعة. وفي أثناء ذلك بدأنا في تهيئة الخدمات الحكومية على أسس أفضل، ولكن الأمر كان صعبًا نظرًا لقلة الخبرة المحلية، على الرغم من توفر الكثير من النية الصادقة، وكان طاقمي الخاص الوحيد من الموظفين يتألف من زوجتي، وعامل متطوع، وثلاثة من الكتبة العرب كان واحدٌ منهم فقط يمتلك من الخبرة ما يكفي ليجعله شخصًا يعتمد عليه.
وبدئ في تنظيم القوات المسلحة. كان الكابتن هاميلتون، ضابط الحرس القبلي من عدن، قد أمضى شهرًا في سيئون لإعطاء الحرس القبلي الكثيري، الذين تم تسميتهم لاحقًا الشرطة الكثيرية المسلحة، بدايةً جيدة، وفي أبريل جاء العقيد روبنسون –قائد قوات محمية عدن- لتقديم المشورة بشأن إعادة تنظيم جيش المكلا النظامي. وتبعه لمدة قصيرة الكابتن هوبكنز، الذي تم تفريغه لمدة ستة أشهر في وقت لاحق من العام ليشرف على إعادة التنظيم والتدريب.
وقد حثثتُ أيضًا على أن يُشرع في العمل على طريق السيارات الجديد المؤدي إلى شبام عن طريق دوعن، الذي كان السلطان متحمسًا جدًا له، وأحضرت معي من تريم مهندسًا بارعًا جدا اسمه عبيد، كانت مهارته في إنشاء الطرق ومدرجات الهبوط قد أكسبته لقب (الإنجليز). وقد أكمل هو وعماله طريق الكاف في ثلاثة أشهر، وفي يوليو جاء معالي السير بيرنارد رايلي برفقة العميد الجوي ماكلاوري إلى حضرموت وافتتحوا الطريق رسميًا في المعدي في بلاد البحسني. ومن هناك سافر السير بيرنارد بسيارته على تلك الطريق إلى تريم، ومن ثم قطع حضرموت الداخل إلى حريضة، وعاد إلى عدن مارًا بدوعن بعد رحلة استمرت لعشرة أيام. وكالعادة، فإن المساعدة والتشجيع اللذين بالغ في تقديمهما لنا جميعًا عوضا بشكلٍ كبيرٍ عن العمل الشاق والإضافي الذي كنا ملزمين بالقيام به.
أصبح طريق الكاف الآن طريقًا برسوم مرور يديره مجلس إدارة، ويتم توفير نصف إيراداته للأعمال الأساسية والتحسينات، ويصرف النصف الآخر في أعمال الصيانة. وأخذت نفقات الصيانة الآن تتضاعف لأن الحافلات اليومية تتسبب بالكثير من الأضرار. وتم وضع رسوم استخدام الطريق ليس فقط لكسب الربح ولكن يرتبط ذلك باستيفاء أقل ما يمكن من الأجور لحماية طريق جمال البدو. وفي واقع الأمر فإن البضائع لا يسمح بنقلها على طريق السيارات إلا إذا كانت عرضة للتلف، أو أثقل من طاقة الجمال على حملها أو عاجلة، وفي كل هذه الحالات فإن أجور الشحن يجب أن تكون أعلى من تلك التي تدفع للنقل بواسطة الجمال.
في أغسطس عاد عظمة السلطان من التتويج. لقد كان كريم النفس بما يكفي ليشعر بالامتنان للخدمة التي تسنى لي تقديمها لدولته وطلب مني أن أُعَيَّن مستشارًا له. وكتب السلطان الكثيري أيضًا إلى الحكومة وقدم طلبًا مشابهًا. وفي 13 أغسطس، وقع معالي الحاكم، نيابةً عن حكومة جلالته، وعظمة السلطان القعيطي معاهدة على غرار المعاهدات التي عقدت مع السلاطين الماليزيين، والتي وافقت فيها حكومة جلالته على تعيين مستشار، وقد وافق السلطان على أن يقبل مشورة المستشار في جميع الأمور باستثناء تلك التي تخص الدين الإسلامي والعادات. وبعد ذلك تم تعييني مستشارًا لكلا السلطانين، كما تم تكليفي بالمسؤولية السياسية عن السلطنات الثلاث الأخرى لمحمية عدن الشرقية- وهي سلطنتا الواحدي في بئر علي وبلحاف والسلطنة المهرية في قشن وسقطرى. وكانت قد نشأت صداقة من قبل بيني وبين سلطان بلحاف، ولديه ابن يدرس في كلية محمية عدن لأبناء الرؤساء (وبالمناسبة فقد أرسل كذلك السلطان الكثيري والأخوان باصرة، حكام دوعن، ثمانية من أبنائهم إلى الكلية)، ثم قام سلطان بلحاف بعد بضعة أشهر بإقناع عدد من عشائر الواحدي للتوقيع على المعاهدة. كما وعدت حكومة جلالته في سخاء كبير بقرض قدره 20000 جنيه إسترليني للمساعدة في تطوير المخططات التي كان عظمته متطلعًا جدًا لها، وفي تحسين الزراعة في وادي حضرموت الرئيسي.
عاد عظمته إلى الهند في سبتمبر ليزور والدته التي اشتد عليها المرض، ثم تولدت بعد ذلك بعض المشاكل مع بعض المرتزقة من اليافعيين الغرباء. وربما نتذكر أن السلالة القعيطية هي نفسها يافعية، وأن اليافعيين جاؤوا إلى البلاد قبل حوالي 400 عام. وقد أصبحت العائلات التي استقرت هناك لفترة طويلة حضرمية مثلها كمثل الحضارم الأصليين أنفسهم، ولكن البعض الآخر اعتادوا على القدوم لعدد من السنوات من جبال يافع، ثم يتم تسجيلهم بوصفهم مرتزقة. وكانوا يتقاضون ثمانية ريالات في الشهر، ولكونهم كجميع أفراد قبيلتهم ماهرون في كسب المال، فقد بنوا حياتهم على أخذ الأموال من السكان المحليين بالاحتيال وبطرق لا تتطلب عناءً كبيرًا. ورأى بعض الزعماء منهم أنه ما دام النظام والحكومة في سبيلها إلى أن ترسي قواعدها، فإنهم يتوقعون أن تقصقص أجنحتهم، وبدأوا في المؤامرات التي تسببت لاحقًا في كثير من المشاكل وسط قبيلة الحموم.
وأتت المشاكل أيضا من الصيعر، تلك القبيلة الهمجية التي تسكن في الشمال الغربي، إذ نهبوا حوالي 40 جملًا من المناهيل. وقد امتنع المناهيل عن التوقيع على الهدنة بسبب مشاكلهم مع الصيعر. والمناهيل جميعهم بدو ولكنهم متحدون تمامًا في اتباع قائدهم الشاب، عيضة بن طنّاف، وهو فتى رائعٌ للغاية يبلغ من العمر حوالي خمسة وعشرين عاما. وقد منعهم بطريقة مثيرة جدًا للإعجاب من الرد على الصيعر، ووعدتهم بأن أفعل ما بوسعي لأساعدهم في استعادة جمالهم إن هم وقعوا على الهدنة. وفعلوا ذلك على الرغم من أنهم انتظروا بصبر لمدة أشهر بينما كنتُ أتفاوض مع الصيعر.
كانت حضرموت كلها مهتمة بمسألة الصيعر، وعندما كنا نجوب البلاد لنحصل على تواقيع للهدنة، كان ينتهى الأمر بكل قبيلة حضرمية تقريبا، من الذين يسألون من الذي وقع ومع من بإمكانهم أن يعتبروا أنفسهم في سلام، بأن تسأل: “والصيعر؟”
بعد أن قام الصيعر بغارتهم تلك، اتفقت حضرموت كلها على منعهم من دخول مناطقهم، مع أنهم أصروا على ضرورة الإتيان بحل ما لأنهم سيواجهون صعوبات كبيرة إن هم اضطروا لأن يثأروا في حالة أن هاجمهم الصيعر. وأخيرا تمت دعوة الزعماء الرئيسيين الأربعة للحضور مع أتباعهم ومناقشة الأمر. ورد جميعهم بأنهم سوف يحضرون، ولكن في النهاية امتنع زعيمان عن المجيء، مع أنهما قدما إلى وادي حضرموت، وأتى واحد منهما إلى سيئون نفسها، ومنها هرب عائدًا إلى منطقته الجبلية بعد أن عومل معاملةً كريمةً. وفر المتخلف الآخر في الليل من إحدى القرى المجاورة. وكان مرافقوهما محرجين بشدة من تصرفهما، وعرضوا علينا أن يقوموا بقتلهما، وقالوا إنه سيتم خلعهما كيفما كان الأمر. وبما أن واحدًا من الزعماء كان هو المسؤول الأساسي عن نهب الجمال، إذ كان المغيرون على صلةٍ به، فقد تم هدم منزله بعد التحذيرات المعتادة. وكان ذلك درسًا عمليًا بليغا، وسلّمت به حضرموت بأسرها وبقية الصيعر أنفسهم.
وبعد مدة وجيزة ذهبت إلى حصن العبر، حيث كان يوجد المغيرون، وسلمونا المكان والجمال دون أية مشاكل؛ وفي الواقع لقد تقبل الصيعر برحابة صدر كبيرة وجود حامية هناك، وأخبرتني النساء البدويات، من بين آخرين، أن الترتيبات السلمية قد نالت تقدير البدو جميعًا. وقد وصفت كيف قمنا باحتلال حصن العبر في محاضرة منذ مدة وجيزة ولا حاجة لقول المزيد عن ذلك هنا، باستثناء القول إنه بإحلال السلام هناك على حدود الصحراء، فإن الصحراء نفسها بدأت تصبح أكثر أمانًا، وأصبح القبيليون يأتون إلى العبر من غير بنادق. وأظن شخصيًا أنه لن يمر وقت طويل حتى تنشأ بلدة هناك لأنه توجد بها وفرة في إمدادات المياه، وتشكل سوقًا مثالية متقدمة لحضرموت.
وفي الوقت الذي كانت مسألة الصيعر توشك أن تُسوّى، تم أيضًا احتواء شكوى طويلة الأمد لأهل تريم ضد قبيلة التميمي. فأهل تريم لديهم أشجار نخيل في بلاد التميمي التي تحيط بالمدينة، وكان التميميون لسنوات يزيدون في انتزاع المال منهم في ما كانوا يسمونه “رسوم الحماية”. ونظمت تلك العملية التجارية على غرار ابتزاز شيكاغو تمامًا، وفي كثير من الحالات فإن نسبة 75 في المئة من محصول التمور كانت تؤخذ في رسوم الحماية، وهذه كان الملاك يدفعونها شاؤوا أم أبوا. والآن تم التوصل إلى اتفاقات جديدة تعطي جزاءً معقولا على الحماية الحقيقية.
وبينما كنت منشغلًا بحل مشاكل التميميين والصيعر في حضرموت الداخل، وردت أنباء عن سلسلة من الاعتداءات قامت بها عشائر مختلفة من الحموم على طريق الكاف. وقد وقعت خمس حالات إطلاق نار على السيارات وسلب، وجريمتا قتل، إحداهما قتل فيها قائم الدولة القعيطية في غيل باوزير. وفي الوقت نفسه تم أيضًا نهب قافلتي جمال من قبل الحموم.
وقد استبدت بي الحيرة في فهم ذلك لأنني كنت على علاقة ممتازة مع زعيم الحموم، ولم يكن هناك داعٍ لأن يشاغبوا حركة المرور على الطريق لأنه قد تم، كما أوضحت، اتخاذ كل العناية الممكنة لحماية حركة السير الخاصة بهم. وكتبت مباشرةً لعلي بن حبريش أطلب منه المجيء لمقابلتي لكي نقوم بتسوية المسألة على الفور قبل أن تزداد تعقيدًا، ولكن لسوء الحظ تمت إثارة المشكلة بواسطة اليافعيين ومحرضين آخرين: فاليافعيون كانوا يأملون أيضًا، كما في الماضي، أن يطلب تدخلهم وأن تسلم لهم نقدًا مبالغ طائلة من المال وأسلحة لتسوّى المسألة.
كان ذلك اعتداءً خطيرا لا بد أن يواجَه، وقد تم استدعاء زعماء الحموم حتى يردوا على التهم الموجهة لهم. لكنهم امتنعوا عن الحضور، فباشرنا العمليات الجوية، بعد التحذيرات المعتادة، وكان إرسالها في منتهى الصعوبة إذ إن القوم جميعهم تقريبا بدو وليس لهم قرى. وذهبت بنفسي في أحد أيام القصف إلى وادٍ خالٍ في المنطقة كان من المعروف أنه يوجد حوله حموم من العشائر المتورطة في الجريمة، وشبهت ما شعرت به هناك بما عايشته في هازبروك عندما قُصفت في أثناء الحرب. بدا لي من الصعب أن قصفا كقصف الشرطة هذا سيكون له ذلك الأثر. ألقيت قنبلة صغيرة في البداية في الوادي، الذي كان خاليًا كما قلت، ولم أر هناك شيئًا تدب فيه الحياة إلا القليل من المعزى. وبعد أن أعطينا كل من قد يكون في تلك المنطقة الوقت الكافي ليبتعدوا بعيدا، ظلت خمس طائرات تقذف القنابل لمدة نصف ساعة على قاع الوادي الرملي. وكان الدوي مروعًا، ولا شك أنه كان في التلال المرجعة للصدى مروعًا أكثر على الأرض، إلا أنه لم يحدث أي ضرر في تلك الغارة على الأقل، وعندما ناقشنا الأمر مع القبيليين الذين تم قصفهم فإن حقيقة الأمر هي أن الدوي فقط، أو الأثر المعنوي، هو الذي جعلهم يستسلمون، لأنهم يدركون كيف سيكون الحال لو سقطت القنابل عليهم.
وقد أثمرت العملية عن النتيجة المرجوة، ولكن من المؤسف أنه وردت أنباء عن سقوط ثلاثة ضحايا، وقد جاء زعماء الحموم جميعهم ودفعوا ما عليهم من غرامات، وتصالحوا، معترفين بأنهم قد ضُلّلوا، وأقروا تماما بعدالة ما تم القيام به. وكان من بين الأشياء التي تضمنتها الغرامة مئة بندقية، ولكن الرائع أنه تم تسليم أكثر من 270 بندقية إذ قال القوم إنهم لن يكونوا في حاجة إلى البنادق طالما سيكون هناك أمن.
وكانت إحدى السمات المثيرة للاهتمام في عمليات الحموم هي كما في السابق التعاون الصادق بين القبيليين وسكان المدن ضد المعتدين، وكان الحصار الاقتصادي ضدهم، الذي طبقه طواعيةً أهل الشحر وحضرموت الداخل والقبائل المجاورة، عاملًا فعالًا في إجبارهم على الرضوخ السريع.
لعلكم تتذكرون أنني في محاضرات وتقارير سابقة قد قلت شيئًا عن العبيد في حضرموت. وهناك تقريبًا 4000 أو 5000 شخص في البلاد في حالة من العبودية حسب الاصطلاح المتعارف عليه، ومعظمهم من أصل إفريقي. فيما يتعلق بمعظم الحالات، فإن وضع العبيد اصطلاحي بحت: فهؤلاء في حقيقة الأمر أحرار في أن يفعلوا ما يشاؤون. وفي كثير من الحالات، مثل العبيد التابعين للسلطان الكثيري، كثيرا ما مارسوا الظهور بمظهر القوة والجبروت بحيث لا يمكن السيطرة عليهم، وكانوا يسببون مشاكل كبيرة بين الحين والآخر، تمامًا مثلما فعل عبيد الزنج في العراق في العصور الوسطى.
ويصل كثير من العبيد إلى مراكز عالية: فلدينا من التابعين لحكومة المكلا من أصبحوا حكاما في مناطق معينة، وعبيد السلطان القعيطي في المجمل لديهم ولاء شديد للسلطان، ووجدت أن (مقادمة) العبيد في الغالب مفيدون بشكل كبير. ومع ذلك، هناك عدد من الحالات التي يتعرض فيها العبيد المملوكون للقبائل البدوية، مثل الجعدة والمهرة والواحدي، لمعاملة قاسية جدًا. والرأي العام في الدوائر ذات المسؤولية الأعلى معارض بشدة لهذا النوع من الممارسات، بل إنني حصلت على فتوى من العلماء تقول إنه على الأرجح لا يوجد عبيد في البلاد مملوكون بشكل قانوني.
ويقوم رجال مثل السيد أبي بكر بفعل الكثير سعيا نحو التحرير الشامل للعبيد: فهو، على سبيل المثال، أنفق مبالغ كبيرة من المال لشراء العبيد الذين يعامَلون معاملة سيئة وتحريرهم، أو لشراء العائلات وتحريرها لأنه لا يحب أن يرى العائلات مقطعة الأوصال.
لقد أحرزنا تقدمًا ملحوظًا في العام الماضي، ولكن التحرير الشامل يبدو بعيد المنال لأن العبيد أنفسهم سيقاومونه بمثل ما يقاومه الآخرون. ولكن لدينا الآن اتفاقيات موقعة من العديد من الزعماء- بمن فيهم سلاطين حضرموت – تعلن بأن تجارة الرقيق غير قانونية، كما أقر سلاطين حضرموت أيضا أن أي عبد يطالب بحريته سوف تعطى له. وقد مُنحتُ صلاحيات الإعتاق، وقمنا بتحرير عدد لا بأس به، لأن الذين يرغبون في العتق بإمكانهم أن يأتوا إليّ بسهولة، إذا كانوا يخشون الذهاب إلى الحكام المحليين. وبهذه الطريقة أصبح بإمكان أي عبد يتعرض للاضطهاد أن يحظى بالإنصاف، كما تم إيقاف بعض حالات القسوة. وهناك أيضًا خطة قيد التنفيذ وفقًا لها سيتمكن العبيد الذين يريدون مغادرة البلاد من القيام بذلك والاستقرار في بلد آخر.
وقد تسببت أولوية القيام بعمل سياسي من هذا القبيل في عرقلة العمل الإداري إلى حد ما، ولا سيما في جانب إعادة التنظيم السريع للمالية لحكومتي المكلا وسيئون، ولكن أصبح من الممكن أخيرًا أن يتم تزويدي بمزيد من المساعدين، فانضم إليّ في المكلا السيد فيجيس، من شمال نيجيريا، بصفته مساعد مستشار مقيم، والسيد كينيدي، من موريشيوس، سكرتيرا، كما ازداد أيضًا عدد الكتبة. وتم انتداب مشرف جمارك متمرس من الصومال، وابتدأ العمل في تحسين الجمارك.