أصالةُ التَّحديث في مسار الفكر القوميّ عند علي عقيل .. دراساته اللغوية والنقدية أنموذجًا .. قراءة في كتاب تريم بوابة الفكر القومي إلى اليمن (1 – 2)
دراسات
د. زهير برك الهويمل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 70
رابط العدد 33 : اضغط هنا
مهــــاد:
لقد أنصفَ المؤلفُ الدكتورُ صالح بن الشيخ أبو بكر عليَّ ابنَ عقيلٍ في الكتاب المدروس الذي نحن بصدده؛ حينما جعله شريكًا له في التأليف، باعتماد بعض فصولٍ من تأليف علي عقيل ذاتِهِ كمادة لهذا الكتاب الذي بين أيدينا دون أن يمسَّها بيد التدخل من قريبٍ أو من بعيد.
إنّ البدايات الأولى التي تشكلت فيها بواكير الوعي الفكري لعلي عقيل كانت علاماتٍ مضيئة، يمكن للقارئ أن يقرأ من خلالها موجّهات، أسهمت في صنع مسارات ذلك الوعي الفكري، الذي أخذت السنون تغذِّيه، والتجارب تنفخ في روحه حتى بدا جليًّا في مراحل متقدمة من عمر علي عقيل؛ لذا كان لا بد من الوقوف على تلك المراحل الطفولية، التي احتضنت هذه الشخصية، ورعتها حتى برزت على ما هي عليه من وعي مُتَّـقِـدٍ وذكاء حادٍّ، وغيرة على الأمة ومقدساتها، وقبل ذلك هويتها المسلوبة.
وقراءتنا إذ تستدعي طفولة علي عقيل لا تستدعي سرد تاريخها العام والخاص، بل تستدعي بعض المواقف التي مرَّت بها حياته، وكانت مسهمة في توجيه فكره القومي، ورسم ملامحه، وتغذية توجهاته، التي آمن بها واجتهد في سبيلها وناضل، وما ذلك بخفيٍّ على مُطّلع على سيرة الرجل، لكنَّ بحثنا سيمضي نحو وجهة محدّدة، يتتبع فيها مسار الوعي الفكري القومي، الذي بدا سبيلًا عامةً سلكها الرجل في حله، وأينعت في ترحاله؛ من خلال دراسة قضيتين محددتين، إحداهما تتعلق بالجهد اللغوي، والأخرى بالجهد النقدي عند علي عقيل. وقبل الولوج إلى مطلبَي البحث الرئيسين سيمر بحثنا بإيجاز على البدايات الأولى للبيئة، التي تشكَّل فيها الوعي الفكري لعلي عقيل عبر العنوانات الآتية.
أولًا: في قريته مسيلة آل شيخ:
في هذه القرية نمت شخصية علي عقيل في حضن أمٍّ رؤوم، كان لها الفضل الكبير في نمو شخصيته الحُرَّة، التي تمتلك قرارها من غير ما وصايةٍ أو رسم خارطة طريق فكرية مسبقة، على الرَّغم من أنها أمٌّ غير متعلّمة كما يشير علي عقيل نفسه، وأنهما يعيشان في مجتمع محافظ ومنغلق فكريًّا، إلا أنها كانت حادة الذكاء، تعي قيمة التعليم، فحرصت على حصول ابنها على التعليم اللائق به؛ هي (السيدة مريم بنت أبي بكر شهاب الدين) من سكان منطقة الغرف، القريبة من مسيلة آل شيخ، قرية علي عقيل. أما أبوه فكان شيخًا كفيفًا، فقد تزوج من أمه وهو يفوقها سنًّا بقرابة ثلاثين عامًا، لكن علي عقيل لا يعرف عن والده إلا طَيفًا من ذكريات شيخٍ كان يتحسَّس رأسه، فتوفي وابنه ما زال طفلًا، لا يتجاوز السنوات الأربع.
كسر رتابة التقليد الفكري:
منذ صغره لم يكن علي عقيل ممّن يدينون بالولاء التام للموروث الفكري في نمط التعليم، والطاعة العمياء للحياة الفكرية التي نشأ فيها، فهو كما روت عنه ابنتاه: «كان يكره التفكير التقليدي الضيِّق والتلقيني ويأنف منه»(1). وهو التفكير السائد في غالب مدارس حضرموت آنذاك، سواء كانت مدارسها التعليمية، أو حتى مدرسة الحياة المجتمعية اليومية المعيشة. تعدُّ هذه النقطة مرحلة انطلاق فكريٍّ متحرِّر ينطلق منها طموح ذلك الفتى نحو آفاق من المعرفة، المواكبة لتحرُّر العقل البشري، فاختار لهذا الأفق سقفًا لا يتجاوزه فيما بعد نحو الانجراف إلى اللا قيود، فجعل سماء العروبة بما تحمله اللفظة من أبعاد جغروفكرية، هي الحد الذي لا يتجاوزه مسار تحرُّره الفكري، وتفلته عن النسق التقليدي، المنمَّط بتداعيات ورواسب فكرية تليدة، تقيد من امتداد فضائه الفكري البعيد، الممتد إلى ما يقع تحت أديم سماء العروبة.
ثَمَّ مَلمَحٌ يجتلي فيه هذا المظهر الفكريُّ منذ طفولة علي عقيل، يبدو في سياق ابنتيه قائلتين: «ولمْ يخلُ الأمر أحيانًا من مناقشات مرحة مع جدَّتَيْنَا اللَّتَيْنِ كانتا تحفظان القرآن، دون فهمه؛ إذ كان يسألهما عن معنى ما يقرآن، ويحاول بعد ذلك وعن طيب خاطر شرح الآيات القرآنية لهن»(2).
من هذا السياق يقرأ المتأمل بعمقٍ انجرار علي عقيل نحو الدلالة للنّص المقروء والمحفوظ، في حين كان البسطاء في مجتمعه منجرّين إلى الحفظ والتبرُّك بتلاوة المحفوظ. فتلمح بونًا في الأولويات الفكرية لدى علي عقيل تنبئك ــ وهو الطفل ــ عن فكرٍ مغايرٍ يحمله ومفارق ما هو مطّرَد من نهجٍ تعليمي تلقيني، وكأنه يريد أن يرسِّخ في مُعلمتَيه التقليديتَيْنِ (جدَّتَيْهِ) أن إعجاز القرآن يكمن في تدبُّر دلالته، وفهم معانيه حق الفهم لكل مدَّكر. وهو بذلك يشير إلى منهجية تتيح للفكر أن يعمل في التلقي العلمي، حين حاول أن يشرح بعض دلالات النص القرآني باجتهادٍ لدُنّي.
كما تلمح تفتيشًا عن أسرار النّص القرآني في أسرار لغته العميقة، التي طالما فَتنتْ علي عقيل بروائع بديعها، وسحر بيانها، فكان إعجابه بجمال هذه اللغة وما تحمل من علومٍ، وأنظمة فكرية عميقة هو الدافع الأول والأبرز الذي غذّى مسارات الانبهار والانجذاب للهَمِّ العربي والقومي، حتى كبر معه في مراحل شبابه، وهو الأمر الذي سيحاول البحث بيانه في قادم الأسطر.
تيفَّعَ علي عقيل بفكر متفلِّت على رتابة الفكر التعليمي كما تنص على ذلك ابنتاه: «لم يكن رغم صغر سنه متلقيًا، وكان يسعى دائمًا إلى ما هو أفضل؛ لهذا خرج بعقليته إلى نطاق أوسع، مختلفًا جذريًّا عمّا هو سائد من فكر تقليدي، وقد ظهر عليه هذا الفكر المنفتح بشكل واقعي وملموس طوال حياته»(3).
لعله لذلك لم تطل فترة دراسته في بعض الكتاتيب والمدارس الفقهية القائمة على التلقين والحفظ والتلقي؛ سواء في الغرف، أو حتى في بعض مدارس تريم، فكان انتقاله إلى مدرسة جمعية الحق التريمية؛ كونها من الجمعيات لإصلاحية والتنويرية في حضرموت عمومًا وتريم خصوصًا، فانخرط فيها كثير من الشباب المثقفين(4).
مكتبة والدِه وأثرها في تنويره الفكري:
لا ينظر علي عقيل إلى اللغة العربية في مستواها التواصلي، والتخاطبي حسب، بل هي ــ عنده ــ بُعْدٌ حضاري وثقافي حيٌّ، يحكي هُوِيَّةَ قومٍ، ويتفاعل معهم في حياتهم اليومية، يتجدَّد ويتشكل كما يتجدد المجتمع ويتشكل في أبعاده الاجتماعية والأنثروبولوجية.
كان يناهز الثامنة من السنين حين طلعت به أمه إلى الطابق الثاني من البيت، وفتحت له غرفة صغيرة، كانت خزانة كتب والده، وقالت له: (أنت الآن تعرف ما هي هذه الكتب، فدونك هذه الغرفة وهذه الكتب، ولكن لا تخرجْ بكتاب منها خارجها(5). تشاء الأقدار أن يصاب علي عقيل بدماميل في قدمه، أقعدتْه عن الحركة إلى الخارج قرابة سنة كاملة، فكان يقضي غالب وقته خلال هذه العُزلة في غرفة الكتب، فشكلت هذه السنة في رصيده المعرفي زادًّا ثرًّا نهل من علوم العربية وآدابها، فكان أكثر ما شدّه من الكتب (مقامات الحريري/المُستطرف للأبشيهي/العقد الفريد/…)
من هنا تعلَّق شغفُه القرائي بعلوم العربية وآدابها لا حفظًا وقراءة حسب، بل نظر إلى اللغة العربية بعمقٍ إلى حيث الهُوِيَّة والانتماء، خوّله ذلك النظر أن يتحمّل شيئًا من هَمِّ العرب وأحوال العروبة، فأعجب بالقومية العربية ونداءاتها الثورية وهو الشاب اليافع في مجابهة الفكر الاستعماري الخارجي؛ سواء العثماني أو الأوروبي، فكانت علاقته باللغة العربية ومحبتها تتنامى وتنامي ذلك الشغف القومي، بل هي من كانت تُغذِّيه من خلال ما سيتجلَّى من أثرٍ بَلَغتْه منه.
مفاتيح مكتبة آل بن يحيى مفاتيح وعي جديد:
على الرغم من أن قريته كانت صغيرة (مسيلة آل شيخ) لكنها كانت تجسد النقطة المضيئة التي استقى فيها علي عقيل بذرة القومية العربية، والفكر التقدمي الطليعي(6)، فقد كانت قريته ملتقًى لمثقفين، ولأناس طافوا العالم، واختمرت تجاربهم بمجتمعات أخرى، وعادوا ينظرون بعين النقد والإصلاح للمجتمع الحضرمي، كابن عمَّته الصَّحفي الأديب محمد بن هاشم بن طاهر، وهو أحد رُوّاد التنوير في حضرموت، وأحمد بن عمر بن يحيى المثقَّف الثَّري؛ الذي أعطى علي عقيل مفاتيح مكتبة آل بن يحيى، فكان ذلك بمثابة نقلة فكرية أكثر نضجًا في حياته المعرفية، واتصاله بشخصياتٍ، أضافت إلى ثقافته؛ إذْ نقلتْ له الخارج وعيًا وفكرًا إلى قريته في الداخل، هيَّأتْ علاقته بأحمد بن عمر بن يحيى الذريعة في انتقاله المكاني إلى تريم، مع تلك النقلة المعرفية التي صاحبت ذلك.
الدراسات اللغوية في وعي علي عقيل:
سبق أنَّ للغةِ العربية دورًا بارزًا في توجيه مسار علي عقيل الفكري؛ لأنه وعاها وعيًا عميقًا، ولم يكن يتخذها وسيلةً تواصليةً مع الآخر حسب، بل تعمّق في سبر أغوارها مذ كان طفلًا صغيرًا، يشرح معاني سور القرآن لجدَّتَيْهِ، وها نحن اليوم نتناول دراساتٍ لغويةً كتبها علي عقيل في الدرس اللغوي، ارتضى الدكتور صالح بن الشيخ أبو بكر أن يكون فيها علي عقيل شريكًا في تأليف كتابه الذي بين أيدينا، فكانت له فيه فصول، وإن كانت متقدمة في زمانها التأليفي على زمن الكتاب فإنها كانت فصولًا ذات مستوى راقٍ من المعرفة والفكر استطاع المؤلف (ابن الشيخ أبو بكر) أن يسبك تأليفها مع ما قدَّمه من محتوى الكتاب بأسلوب علمي رصين، بدا عليه المنحى الأيبيستيمولوجي جليًّا، في منطقية الطرح، وعقلانية النقاش.
لقد عاب الحداثيون على أنصار المدّ القومي العربي رفضهم مواكبة الحداثة الوافدة من أوروبا، واتُّهِمُوا بالتقوقع والركون إلى مآثر الماضي التليد، المطوَّق جغرافيًا بحدود الأمة العربية. ومرَّ معنا مُسبَـقًا منذ نشأة الوعي الفكري عند علي عقيل جنوحه إلى كسر طوق الرتابة التقليدية في التعلُّم والفكر، والتطلُّع إلى التحرر الفكري من خلال المثاقفة العربية الواسعة ولا سيما في بلاد الشام؛ ومن هذا المنطلق كانت محدَّدات الوعي الفكري لديه تنشدُّ نحو وجهتينِ متقابلتين؛ وجهة الأصالة بوصفها وجهةً مجابهة للغزو الفكري الاستعماري من جهة، ورغبتها في التحرُّر من موروثات الفكر المحلي التقليدي، القائم على التلقين والحفظ من جهةٍ أخرى، هذه المغالبة الفكرية شكَّلت لديه مسارًا وسطيًّا، يقوم على قبول التحديث والتغيير ومواكبة العصر، شريطة أن ينطلق هذا التحديث من عمق الأصالة العربية، حين يعيش الواقع العربي أزمة تفاعل وتثاقف حقيقية، تفرضها اللحظة المعيشة، ولا تكون حداثة مفصَّلة جاهزة، يلبسها الأصيل دونما اندغام حياتيٍّ، ومعايشة فعلية لأزمات الواقع المعيش فكريًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
يمكن جلاء هذه الوجهة التحديثية الخاصة عند علي عقيل من خلال قراءة نماذج من مجهوده في الدراسات اللغوية، والأبحاث النقدية، التي كتبها واحتلت فصلين ــ دون مساس من يد المؤلف ــ في كتاب الدكتور صالح بن الشيخ أبو بكر؛ على النحو الآتي:
أولًا: أصالة التحديث في الدراسات اللغوية:
أوضح بحثُنا مدى تعلُّق علي عقيل باللغة العربية؛ وأنها الباعث الأكبر على اعتناقه الفكر القومي، إضافة إلى رفض الدخيل الأجنبي، سواءً العثماني أو الأوروبي لغزو البلاد العربية، وهي منهجية قامت القومية العربية على أساسها(7)؛ لذا كتب علي عقيل أبحاثًا عميقة، تتناول اللغة العربية وواقعها، والمَخاطر التي مرّت بها إبَّان حركة النهضة العربية وموجات التغريب. سنقف على قضيتين منها بما يسمح به نطاق البحث؛ بهدف إجلاء منهجية الرجل التي ذكرناها في هذا العنوان.
أثر ازدهار اللغة العربية في بناء الدولة وحضاراتها:
ثمة رؤية عميقة الأبعاد، ممتدة الأثر، يكشف عنها علي عقيل في عنوان من عنواناته في دراساته اللغوية قائلًا: «أطوار نشوء العامية وعلاقة ازدهار اللغة العربية بقدرات العرب في بناء دولتهم وحضارتها»(8).
يلحظ قارئ هذا العنوان وعيًا عميقًا ليس باللغة العربية حسب، بل بأثرها العميق حتى في تشكيل الملامح الحضارية للدولة، الأمر الذي جعل دراسة اللغة تمتدُّ على النِّطاق الأفقي بعد الغوص رأسيًا في عمقها، لتصل إلى المسار السياسي.
تلحظ هذا التحوُّلَ من المسار اللغوي إلى السياسي في فهم أبعاد اللغة العربية حين قال علي عقيل: «بدأ اللحن يفشو بين العرب عندما اختلط العجم بالعرب في تخوم الجزيرة العربية والبلاد التي فتحها المسلمون؛ كالعراق والشام ومصر، ولم يكن هناك معدى من ذلك أمام الموجات اللسانية المتلاقية، وإسراف العرب أنفسهم في الاختلاط بالأسر الأعجمية في حياتهم الداخلية عن طريق التسرّي والاستخدام ودخول الأعاجم هؤلاء في أعمال الدولة…»(9).
هنا يقرأ القارئ امتعاضًا عند علي عقيل من الأعاجم وأثرهم، ليس اللغوي حسب، بل والسياسي، الذي جاء نتيجة اللحن اللغوي؛ وهو ما يُجليهِ تمامُ الفقرة السابقة: «فقد كتب أحدهم (يقصد الأعاجم) من كُتّاب أبي موسى الأشعري كتابًا فيه (من أبو موسى)، فكتب عمر بن الخطّاب إذا أتاك كتابي هذا فاجلد حامله سوطًا واعزله عن عملك»(10).
موقف علي عقيل من اللغة الدارجة:
لقد كان علي عقيل من أنصار اللغة العربية الفصحى، والحفاظ عليها من موجات التغريب، وكان من مجابِهي الدعوة إلى استخدام اللهجات الدارجة للتخاطب بديلًا عن اللغة المشتركة (الفصحى)، التي صمدت وظلت شامخة في وجه الاستعمار الأوروبي قديمًا وحديثًا، بل ظلت هي الحصن الحصين، الذي لاذ به العرب والمسلمون خلال هجمات الصليبيين والمغول والإسبان والأتراك؛ كما يرى على عقيل بأنها اللغة لتي حَفظت للأمة العربية هُوِيَّتَها وشخصيتها كلما حافظ العرب عليها؛ لأنها اللغة القومية الموحِّدة لهم(11).
إنَّ دراستنا تقرأ ثمَّ مكانًا وسطًا يقف فيه رأي علي عقيل الفكري نحو هذه القضية؛ وهو قبول دراسة المستشرقين للغات الدارجة للبلدان العربية التي تحكمها بلدانهم الاستعمارية آنذاك، وبعض الكُتَّاب العرب الذين نَحَوْا نحوهم؛ فهو يقول: «ليس ثمة ما يحول دون دراسة اللغات الدارجة إذا تحدَّد هدفها الإيجابي، فالدراسة العلمية التي تحاول البحث في تطور ظهور هذه اللغة الدارجة وأسبابه، وربما ما تتضمنه من روح شعبية أو تسجيل أحداث تاريخية، وتحاول أن تتقصّى بقايا الكلمات الجاهلية أو المفردات ذات الأصل الفصيح، إن هذا النمط من الدراسة مطلوب؛ لأنه يفيد اللغة العربية الأم، وهذه مهمة من مهام خدمة التراث العربي، وآداب العربية نفسها… لكن الجانب السلبي الذي نهجه بعض المستشرقين في دراستهم للغة الدارجة هو الميل لتكريسها، وهو هدف مدمِّر للثقافة العربية»(12).
إذن مما تقدَّم نعي أن منهجية علي عقيل لا تتصادى مع صيحات دعاة إحياء اللغات الدارجة، وتكريسها لتحل مع المشتركة الفصحى، وهو في المقابل أيضًا ليس مجابهًا لدراسة سياقات نشوء هذه اللغات، وقراءة الحضارات المصاحبة لتشكّلها، ومدى اتصالها باللغة الأم وافتراقها عنها.
تلك معطيات تضعنا أمام منهجية واعية منفتحة على التحديث ومواكبة دعاة قراءة اللغات الدارجة، لكنها في الوقت نفسه حذرة كلَّ الحذر من محاولات دسِّ السُّم في العسل من لدن المستشرقين؛ بمحاولة تكريس اللغات أو اللهجات الدارجة لتكون بديلة عن الفصحى؛ لأن هذا الأمر كفيل بأن يصيب اللغة المشتركة (الفصحى) في مقتل.
كما يبيّن علي عقيل بوعي عميقٍ خطرَ تكريسِ اللغات الدارجة، ووقوعها تحت هيمنة الثقافة الأوروبية، وإحلالها بديلًا عن الفصحى، في عزل العقل العربي عن تراثه وحضارته وثقافته؛ قائلًا: «الإبقاء على اللغة العامية وهي لغة الأمية تعني الحيلولة ألّا يقرأ الإنسان العربي أيَّ شيء عن ذخائر تراثه وحضارته وجهله بهذه الذخائر، حتى لو عرف العربية تجعله يعتقد أن المعرفة والعلم والثقافة تبدأ من أمة أخرى غير الأمة العربية، وفي تاريخ معيّن لا علاقة له بعصور الحضارة العربية…»(13).
ومّما يؤكد وسطية الرؤية لدى علي عقيل فيما يتعلق بالصراع بين اللغة الدارجة والفصحى، مدحه ظهور لغة وسطى بين الفصحى التي يُتكلَّفُ فيها، والعامية الأمية؛ ويعني باللغة الوسطى لغة الإعلاميين والمثقفين في المؤتمرات والندوات، التي تجمع مشاركين من مختلف الأقطار العربية؛ حيث يتحدثون لغة وسطى: «ليست بالعامية الخاصة بأقطارهم، وليست الفصحى المُعرّبة التي يظهر فيها التصنُّع والتكلُّف حتى يحين تطبيعها نهائيًّا، وربما بالشكل المعرب دون ملاحظة أي تقعّر، وهذه خطوة واسعة إلى الأمام ولو لم تكن للمؤتمرات جدوى كثيرة إلا إشاعة هذه اللغة لكان ذلك في حد ذاته مفيدًا»(14).
من هنا نعي أن منهجية علي عقيل الفكرية ليست عقلية متحجرة متصلبة عند حدود الموروث التليد، بل هي عقلية منفتحة على التحديث، لكن شريطة أن يكون هذا التحديث منطلقًا من عمق الأصالة، ولا يكون ارتماءةً في أحضان الوافد الدخيل بالقول: (هيتَ لك) من دون أن نشقَّ عنه جيوب التفتيش والبحث والتحليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ تريم بوابة الفكر القومي إلى اليمن، علي عقيل أنموذجًا: ص: 7.
2ـ السابق: 7.
3ـ السابق: 6.
4ـ ينظر، السابق: 54.
5ـ السابق: 49.
6ـ السابق: 6.
7ـ ينظر، القومية العربية والوحدة الكبرى: أنور الجندي، الدار القومية للطباعة والنشر، ص3.
8ـ تريم بوابة الفكر القومي إلى اليمن: 279.
9ـ السابق: 270.
10ـ السابق نفسه.
11ـ ينظر، السابق: 278.
12ـ السابق نفسه.
13ـ السابق: 281.
14ـ السابق: 284.