أضواء على أديب حضرمي أهملته الأضواء .. علي محمد حميد
شخصيات
د. أحمد هادي باحارثة
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 82
رابط العدد 33 : اضغط هنا
ولد علي محمد حميد سنة 1943 في مدينة الشحر، على ساحل حضرموت بجنوب الجزيرة العربية، استأثرت به الهجرة في بلدان وسط الجزيرة والخليج العربي، فهاجر مبكرًا إلى الحجاز، حيث عاش شطرًا من عمره في مدينة جدة، على ساحل البحر الأحمر، ثم عاد إلى مدينة الشحر، حيث اختار شريكة حياته، وتزوج في صيف عام 1966.
لكن عنت له ظروف جعلتْه يغادر مرة أخرى، فانطلق إلى الكويت لحين من الزمان، ثم سافر إلى مدينة أبوظبي، واستقر به العيش هناك مع عائلته، واكتسب الجنسية الإماراتية العربية، ومكث في مدينة دبي يعمل في التجارة.
نبُه علي حميد ككاتب عربي حصيف في صحافة الستينيات من القرن المنصرم، امتازت كتاباته بقوة النقد الاجتماعي، ووضوح الرؤية الفكرية، وقد تنوعت مجالات الكتابة عنده من النقد الأدبي، إلى القصة القصيرة، إلى المقالة، التي عالج فيها شؤونًا اجتماعية وسياسية وقضايا عامة، وكان ينشر مقالاته باسمه الصريح غالبًا، لكنه عند معيشته المبكرة في الحجاز بمدينة جدة كان يرسل مقالاته إلى الصحف لتنشرها باسم مستعار هو (ابن الشاطئ)، وتخلى عنه بعد عودته للشحر، إذ استأنف الكتابة باسمه الصريح مجددًا.
وفي نهاية الستينيات انشغل عن الكتابة بأمور حياتية أخرى شغلته عن الاستمرار فيها، أي إن عطاءه في الكتابة كان في ما بين العقد الثاني والثالث من عمره، وهي التي تمثل لباب تاريخه الثقافي والأدبي، الذي وإن قصر زمانًا زخر عطاءً وإبداعًا، ولاسيما في كتابة المقالة.
أما الصحف التي وضع فيها حميد كتاباته فهي صحف الطليعة، والرائد، والرأي العام، وجميعها صدرت بمدينة المكلا في الفترة ما بين مايو 1959، وديسمبر 1967، كانت المكلا حينها عاصمة لسلطنة تدعى السلطنة القعيطية في حضرموت، وكان من مدنها مدينة الشحر مسقط رأس حميد ومثوى عائلته، وهي تعد من أقدم الموانئ العربية في جنوب جزيرة العرب، وأنجبت عددًا من المثقفين البارزين، الذين انطلقوا منها إلى مهاجر مختلفة في الخليج والبلاد العربية وجنوب شرق آسيا.
وأكثر صحيفة كتب بها هي الرأي العام، تليها الرائد، وكان له في هذه عمود تحت عنوان (مجرد رأي)، ثم اتخذ له في الرأي العام بابًا بعنوان (كلمات تمر)، غالبًا يكتب فيه عن أكثر من موضوع تحت عناوين فرعية، ولم يكن حميد متفرغًا للكتابة؛ إذ كانت له انشغالاته في طلب رزقه، ولم يكن يرى في نفسه كاتبًا محترفًا يلتزم لصحيفة بالكتابة؛ لذا قد يتعرض للوم محرريها على انقطاعه في الكتابة، فيقول حميد:
“يطالبني بالكتابة المستمرة الدائمة وكأنني محترف، أو كأنني أحد محرري الرأي العام، ناسيًا أو أخاله متجاهلًا ارتباطي الصميم بعمل أقضي سحابة نهاري كله منكبًا على إنجازه، وأحيانًا بعض ساعات ليلي، ومنه وحده أقتات، ومن ناتج جهدي في نطاقه أعيش، ومطالبته إياي بالكتابة ولومه أحيانًا بل وتقريعه أحيانًا أخرى لتقاعسي دليل حسن ظن لا أملك إزاءه إلا الثناء والتقدير”.كلمات، علي محمد حميد، الرأي العام ع 115 ، 13 / 7 / 1966م ، 6
ثم قال: “في ذات الوقت الذي تتعاظم فيه الحاجة عندي إلى وأد هذه الغرسة اللعينة، إلى قتلها، إلى الخلاص منها كليًا، إن ثمة وجود حقيقي لها”.نفسه
وهو ما صنعه حميد أخيرًا، فوأد عنده غرسة الكتابة، وتخلص منها كليًا، بعد رحلة مع الكتابة استمرت نحو ثماني سنوات، وذلك عند استقراره مواطنًا في دبي، حيث عكف على العمل التجاري منذ السبعينيات في مدينة انفتحت لها أبواب الرزق، وغدت قبلة للتجارة العالمية، وثاني مدن دولة الإمارات العربية المتحدة، فهو أشبه بمشروع كاتب وأديب كبير لم يكتمل، واستودع ما تقدم من حصاده الثقافي في ذمة أوراق الصحف.
امتلك علي محمد حميد ناصية الكتابة الأدبية في سن مبكرة، مع ثقافة عميقة، وفهم واسع لأبعاد الصياغة الأدبية، وسبل نقدها، وإذا كان أول مقال له نراه منشورًا كان في عام 1959 بدا فيه رصينًا في مضمونه، محكمًا في صياغته، فإننا قد نشك في تاريخ ميلاده بسنة 1943، أي إن سنه لم يكن تجاوز السادسة عشرة، وهذا لا يتحقق إلا لشخصية فذة بحيث نشرت تلك الأفكار والآراء العميقة، والمتعددة الاتجاهات في سن قياسي، استوعب خلاله مقاليد الكتابة، وتفاعل فيه مع مقتضيات عصره، ومتطلبات مجتمعه.
ففي المقالة امتاز برشاقة الكلمات، وإحكام سبك العبارة، وعمق في التحليل، وانسيابية في الطرح ينبئ عن قلم ينتح من قلب صادق، وينضح بالغيرة على ما يتناوله، والإخلاص لقضاياه التي يتبناها، وفي القصة القصيرة نراه يكتبها عن وعي لشرائطها، وإدراك لمعالمها، وإن التزم في أسلوبها بناء واحدًا، فهذا دال على أنه وجده لصيقًا بنفسه، قادرًا عبره على إشباع رسائله المتوخاة من قصصه.
وقد هيمن الطابع الاجتماعي على كتاباته القصصية والمقالية على السواء، فهو منذ يفاعته وهو غير راض عن ما يعتمل في مجتمعه الذي عاش فيه، فقام بتسخير إبداعه في واجب النصح، والتوجيه عبر الكلمة الأدبية بفنَّي المقالة والقصة.
فمما عالجه في كتاباته قضايا التجار وتلاعبهم بالأسعار، واستغلال الآخرين في المعاملات الجائرة، وأشار لسوء تعامل بعض موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين مع مواطنيهم، وتطرَّق لموضوع مكانة المرأة في مجتمعها بين مَنْ يدعوها للانحلال، وبين من لا يرضى لها سوى الأغلال، وعرَّج على وظيفة الصحف ورسالتها التنويرية، وتعبيرها عن تطلعات المجتمع، وتناول قضايا أخرى متنوعة.
كما كتب علي حميد المقالة النقدية، فانتقد أربع قصص قصيرة، نشرت في صحف المكلا، لعددٍ من القصَّاص، وانتقد مسرحيتين، إحداهما اجتماعية بعنوان (آخر ربوع) نشرت في صحيفة الطليعة، والأخرى مسرحية تاريخية عن معركة القادسية، مثلت على خشبة المسرح بمدينة المكلا في حضرموت.
أما القصة القصيرة فكتب علي حميد أربعًا منها، عناوينها هي (صورة الطفل)، و(بقايا امرأة)، و(قمة الشقاء)، و(عمتي مع السلامة)، فولج عبرها إلى ما يحدث بين جدران البيوت من مآس، ناتجة عن غياب رب الأسرة بسبب وفاته أو هجرته، أو عن مكايد سيدة البيت مع زوجة ابنها، أو قسوتها مع بعض خدم البيت.
حتى إذا ما اطمأن حميد أنه قد قال كلمته في مجتمعه الكبير، واستعمل إبداعه في بذل نصحه، التفت لنفسه ولمجتمعه الصغير العائلي؛ فكما هي عادة العربي في الترحال عن الديار، والبحث عن بدائل للاستقرار، أعمل حميد إبداعه في سوق التجارة؛ ليضمن لأسرته العيش الرغيد والمقام الكريم، وقد بادلته دولة الإمارات المتحدة الوفاء بالوفاء، فحاز جنسيتها، ونال امتيازاتها، حتى أنه قد سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج على حسابها في آخر عمره، لكن واتته المنية التي لا تطيش سهامها سنة 1999، وحمل جثمانه إلى مدينته دبي؛ ليستقر في مقبرة القصيص. ولعل جهدًا يلم شتات هذا الأديب المجهول، ويسلط عليه دراسة وافية وعميقة.