أقبلت تمشي رويدًا .. أم أعرضت عني قليلا !!  رجاءً يأهل القرن دلّونا

كتابات

غالب صالح الحامد


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 106

رابط العدد 33 : اضغط هنا


سيئون عروسة الوادي معشوقتي، بل معشوقة الكثيرين من سيئون أو خارجها، يزين فيها الغزل والتغني، فهي مصدر إلهام الكثيرين، قرن سيئون ذا فصل يأهل القرن شلونا، واطرحونا حيث ما تبغون، هو المصيف برومانسيته الخلّابة، نخيله وأشجاره وزهوره ومسابحه، حيث تحاصر البيوت الدكك البيضاء، وتشم من عليها روائح الرياحين وأشجار الليم والتين والنيم والعلوب والنخيل، وأصوات الطيور وعجلة السناوة زمان، والجو العام المبعث للنشوة، اختمر الواقع الرومانسي السيئوني بعواطف ومشاعر حسّاسة معبّرة، أملاها صدق التجربة حُبًّا وعشقًا، فصنعت ذلك الحلم الموحى من الخيال، إذ سبح الشاعر بخياله منتشيًا، فنظم تلك المولودة القصيدة، التي برزت بالخمسينيات من القرن الماضي في نطاق ضيق، بواقع اجتماعي محافظ، يغمره الحياء، فكان يتهامس بذكرها الشباب، من كانوا يميلون لشعر الغزل والآداب، فأسرع الفنان الدكتور أبوبكر سالم بلفقيه بالتقاطها لحدسه الشعري والفني، مبادرًا فغنّاها بعد أن أبدع في تلحينها، وهو محتضن آلة الإيقاع، التي يجيدها حينها، فهي مولودة واقعٍ فرض نفسه على الشاعر، وهيمن على الخيال، فاضت به المشاعر؛ لتحكي واقعه، تألق الشاعرُ في وصف دواخلها كفلم سينمائي خيالي، لحكاية أقبلت تمشي رويدًا، فتخيَّلها شاعرنا ها هي أقبلتْ وهو مغمضٌ عينينه سابحًا، فخفق القلب وازدادت سرعة نبضه، كاد أن يغادر مكانه، وانشرح الصدر فهي تمشي رويدًا دون عجلة من أمرها، وبغنج في خطواتها، فقد أتت مُقبِلةً تنجز ما وعدت، كان الوعد كالرعد، خاصة وأنها غائبة عن خياله منذ وقت وفراق طويل، مما زاد الشوق والوجد، فكم كان متعلّقًا بها، مشتاقًا شوق الهيام، هنا ينضحُ بما يجيش به صدرُه، ويَبُوحُ بمشاعر، يتألق أيضًا بها مستوى الشاعر لغويًّا وأديبًا، فهو سليل عائلة علمٍ ودِينٍ وأدبٍ وثقافةٍ، فكانت هي القصيدة الوحيدة للشاعر، بل وحيدة لسيئون بأكملها، التي لم تشهد من قبل وصفًا لحكايةِ غرامٍ سيئونية بذلك المستوى وتلك الأوصاف الغرامية، ومن المفردات الراقية وجرأة الألفاظ وصراحة التخاطب.

    كُنَّا نحن صغارًا، لكن نقارنها بأغنية أخرى لأبي بكر سالم، كلماتها لأبي القاسم الشابي: اسكني ياجراح، واسكتي ياشجون، مع فارق واختلاف. عُرف عن منطقة قرن سيئون برودتها كبقعة زراعيه خضراء، لذا يغادرها بالشتاء من أتوها متصيفين، القرن مَصِيفُ سيئون، ياالقرن ياليتك تقع لي وطن، والقلب يتمنى في القرن ليلة.

    شاعرنا يقيم بالقرن بكل الفصول، حيث مكان اللقاء المتخيّل، الذي أقبلت فيه المحبوبة، وكان الطقس بردًا، إلا أنَّ دِفْءَ الأجساد استبدل حالةَ البُؤسِ إلى دفء اللقاء الساخن، إلى حالة من السعادة، التي غمرت تلك اللحظات المنتظرة، التي لم تأت إلا بعد تَمَادٍ في عذاب المحبوب.

    كم كان أبوبكر سالم يفاخر ويعتزُّ بأغنية (أقبلت)، ويشيدُ بكلماتها ونجاحه في تلحينها، ودورها في إبراز أبي بكر وشهرته.

    تلك الأغنية قد تجاوزت السبعين عامًا، ولا تزال محتفظة بعنفوان شبابها، نحفظها عن ظهر قلب، فنحن نفتخر بها أيضًا كسيئونيين..

 لو ترى حين تلاقينا وكان الطقس بردا

 دفئت أجسامنا واستبدلت بالبؤس سعدا

    الشاعر حسن بن سقاف بن محمد بن بصري السقاف، من مواليد صولو 1922م، وتوفي بالأحساء 1981م، متزوج من ابنة الحبيب عبد الرحمن بن جعفر السقاف، عادةً يُطلَق عليه ابن بصري، واشتهروا بالعلوم الدينية والأدب، وتميزوا بعيونهم الزرقاء، فهي عطاءات من رب العالمين، وكانت أغنية (أقبلت) مدعاة شهرتهم رغم تعدد تفسير المقاصد واختلافها من الكلمات، في نقاشاتنا مع ابن الشاعر محمد حسن، غير أنه كان يقول إن هناك قصيدة أخرى لوالده سمع عنها، يبدأ مطلعها بـ(أدبرت)، أي نقيضة لسابقتها (أقبلت). حتى تفاجأت اليوم وبعد عشرات السنين بخبر العثور عليها بين أوراق المرحوم، كما ورد برسالة حفيد الشاعر لي، الأستاذ علي محمد أن والده كان يبعثر بين الأوراق القديمة فإذا بقصاصة بها القصيدة المرفقة الرائعه مطلعها:

(أعرضت عنِّي قليلًا)، وهي على نسق (أقبلت تمشي رويدا) نفسه، وعلى البحر الشعري نفسه، لذا فلحن الأغنية ينطبق عليها إذا جاز القول.

    لماذا كانت نقيضًا لسابقتها؟ لقد أعرضت في مخيلة شاعرنا المحبوبة، وما عادت تنجزُ وعدَها، وتحوَّلت الأحلام والتخيُّلات والتهيُّؤات بجنة اللقاءات إلى صدود، وقد أعرضت عن اللقاء فساءت حالة المحبوب، وكاد أن يسقط قتيل حبه لها، إلا أنه – ولله الحمد – لم يمت إلا بعد أن أنجب السيد محمدًا ومحسنًا وأربعَ بنات، متميزين بأشكالهم، كان أبوعلي متميزًا بشكله، تجده بمسجد الروش، وله أربعة من الأبناء، هم: الموجِّه والإداريُّ التربويُّ علي،  والأستاذ سقاف وقد تعرَّض لحادث مروري أعاق حركته نسبيًّا، وعبدالرحمن، وحامد ، أما ابن الشاعر الأصغر فهو الشاعر محسن حسن بن سقاف بن بصري، وقد توفي بالسعودية، وله ابن شاعر أيضًا اسمه حسن، نحن أخوال أولاده، ولنا به معرفة وعلاقة، كان يتبادل الأشعار مع أخي محمد، فزوجتُه ابنتُنا شقيقة الأميرة السيئونية، التي اقتحمت قصورَ تريم، زوجة المرحوم عمر بن شيخ الكاف.

    وحتى لاتتفاجأ بمشاهدة عيون زرقاء بآخرين من سيئون، فللحبيب الشاعر حسن بن بصري أربع بناتٍ أيضًا، متزوجات من كلٍ من السيد حسن عبدالله السقاف بن حسين، وأبي بكر بن شيخ المساوى، والمرحوم أبي بكر علي بن محمد بن هادي، والمرحوم علوي بن أحمد السقاف (آل الطعام) زميلي بالدراسة منذ مدرسة النهضة.

    شاعِرُنا ابن بصري وقد دارت الأيام بقرن سيئون عاد يشكو ويبكي، إذ لمْ يدمْ حال أيامٍ، إقبالُها في سكون الليل في مخيلته، ولم يطلب فيه غير قبلات التهاني بُودِلَتْ خَدًّا فخَدًّا، قائلًا متأسّيًا: لم تعد أقبلتْ كعادتها إنما هي أعرضت عني قليلًا، منفعلًا قائلًا: ويحَ مَنْ أقبلتْ زمانًا ماذا دهاها وللصد والهجران بلغتْ منتهاها، هل هو سوءُ ظنٍّ ؟! أو شكوك، أو اعتقدتْ أني ملول! لماذا الصد لماذا الإعراض عني لماذا أدبرتْ عني؟ لا أرتضي عنها بديلًا!!

أعرضت عني قليلًا ** فغدا جسمي عليلًا

كيف لو زادت نفورًا ** سوف ترديني قتيلًا

عوَّدَتْني دائمًا من ** طبعِها الوصل الجميلا

وصفاء الودِّ كمْ ** أعهده فيها أصيلا

وَيْحَها ماذا دهاها **أرأَتْ مِنِّي عذولا

ربما ظنت بأني  ** صِرتُ في عشقي ملولا

(إن بعض الظن إثم)** يُورِثُ الوِزرَ الثَقِيلا

 وأنا الصِبُّ الذي لا ** أرتضي عنها بديلا

فهو لا يدري إلى غير ** التي يهوى سبيلا

فهي نجم في سمائي** لا أرى منه أُفُولا

    تلك الكلمات الرائعة هل تجد مِنْ مُلحِّنٍ لها، يرتقي إلى مستواها، فهي ستشق له طريقًا مُعَبَّدًا مَكْسُوًّا بالزهور، كما كان عليه حالُ شقيقتِها (أقبلتْ).

    لايزالون يُقِيمُونَ بقرن سيئون، وستجد مَنْ يَدُلُّكَ عليهم إذا سألتَه عن أهل أغنية (أقبلتْ)، واليوم أضِفْ إليها شقيقتها (أعرضتْ عنِّي قليلًا).

رجاءً يأهل القرن دلّونا.

أقبلت تمشي رويدا

ودنت تنجز وعدا

وأتت بعد فراق

زادني شوقًا ووجدا

كم تمادتْ في عذاب

أكثرت صدًّا وبعدا

وقست حتى كأني

خِلْتُها تُضمِرُ حِقدا

لو ترى حين تلاقينا

وكان الطقسُ بردا

دفئت أجسامنا

واستبدلت بالبؤس سعدا

التقينا في سكون الليل

لا نطلب قصدا

غير قبلة التهاني

بدلت خدا فخدا