قصة قصيرة .. ستروميريا
إبداع
خالد لحمدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 109
رابط العدد 33 : اضغط هنا
منذُ أيام قلائل وأنا أشعر بانقباضة مفاجئة لمْ أعهَـدْها، وصِرتُ لا أنام إلَّا قليلًا، وأشعر بروح ريتا تحوم حولي وتطاردني، تقف على مضايق الطرقات، التي أمرُّ خلالها، تنتصب أمامي في كل وجهة أذهب إليها، تدعوني وتؤشر نحوي بيدها، وما إن أقترب نحوها تختفي مثل سراب.
ريتا العذبة الشهيّة لم تغادرني، ولا تزال تسكن أعماق روحي، ولم أتخلّص منها البتة، لا تزال مثل ما عرفتها أول مرّة، ولم يتغيّر فيها شيءٌ.
متوسطة القامة، بيضاء البشرة، ناحلة قليلًا، لها نظرة عذبة وآسرة، وعينان حارتان ومثيرتان، وشفتان طريّتان، تعض أوقاتًا بأسنانها ذات البياض الناصع على شفتها السفلى.
لا تُغطّي يديها، وتظهر أطراف أصبعيها النحيلين الأبيضين، اللذين يظهر دائمًا على أطرافهما المناكير ذات الحمرة الداكنة.
حديثُها لا يُمَل أبدًا، ووجهها لا تكشفه إلَّا أثناء عملها ودوامها الرسمي، وتُغطّيه بخمارٍ أسود حين تنوي مغادرة المستشفى إلى الخارج.
لها نهدان صغيران نافران، يكادان يتحدّيان عباءتها السوداء، وينتصبان أكثر حينما ترتدي البالطو الأبيض الخاص بالأطبّاء والمُمرِّضين.
تلبس حذاءً أسودَ، وينكشف ما فوق قدميها من بياض، وعلى ساقيها ينبت شعرٌ خفيف مائل إلى الاصفرار.
أو هلوسات روح نالها القلق والتعب أم تصدّعات المرحلة، ونتائج إفرازاتها الخاطئة قد ألقتْ بظلالها على الروح والذاكرة، أم تشظّيات العمر، وانزياحات الزمن البائس المهترئ؟
وما بين أطياف وتهاويم ريتا التي لم تَكُفَّ عن مطاردتي، ظلّتْ إلزا تلاحقني باتصالاتها شبه اليومية، ما جعل أمي تقول لي أكثر من مرّة:
– إذا أردْتَها تقدَّمْ لخِطبتها، أوْ دَعْها تَعِشْ حياتها كما تشاء.
وكانت أمي محقّة فيما ذهبت إليه، في حين ظلّ قلبي يرتجف شغفًا وتخوُّفًا، ولم أعد أدري بمناح خطوي ودروبي، وقد قُلت لها في آخر اتصال بيننا.
أمَا تدركين معنى أن يعيش قلب سنين من الجفاف والجدب في انتظار المطر، وما إن تتشكّل في الأفق سحب الوصل حتّى يتشظّى ويبتئس توجُّعًا؟
قالت لي توًّا بتساؤل وبلهفة:
– أوَ أنتَ لي وحدك أم …؟
– أم ماذا؟
– إلزا.
– نعم.
كيف تسألين سؤالًا كهذا، أو لم أؤكد لكِ مرّاتٍ أنني لستُ منشغلًا عنكِ وإن أخذني العمل وأبعدني كثيرًا، لكن لم يتغيّر بداخلي شيء، بل رُبّما تزايد شغفي وحنيني إليك.
وأضفت جازمًا:
فلتعلمي أن من ينتمي لهذه الأرض، محالٌ أن ينسى أو يتنكّر أو يخون، ومن شبَّ على الحُب حتمًا سيموت عليه.
أنا القلب المُفخّخ بالشوق، المُبلَّـل بالأماني والاشتهاءات المستحيلة.
أنا الجرح الذي يُبذّر ثروة اشتياقه وحُلمه، ويضع مواثيق تقي العُشّاق التعثّر والانزلاقات المفاجئة.
لذلك دعي عنكِ توجّسك وقلقك، ودعي ريتا وسخافاتها المستفزّة، ولا تظهري على ملامحك غضبًا أو توترًا.
هي تود أن تشعلك غَيرةً، وتشعُركِ أنني غير مبالٍ بكِ.
لقد أخبرتُـكِ عنها منذ الوهلة الأولى لعودتك من الاتحاد السوفييتي، واقتنعتِ بما قُلتُ لكِ، كيف الآن بدأت التوتّرات تزداد بداخلك؟
رغم ذلك أُطمئنكِ أنّه لن يحدث شيء يُغضبكِ، وسأخبرها بعدم ارتكاب أشياء كهذه مرّة أخرى.
منذ أيام وأنا أسعى للوصول إليكِ، بعد أن وعدْتِني بلقائي في آخر مرّة كنّا معًا داخل أروقة مكتبة ١٤ اكتوبر، أو تذكرين، أم نسيتِ كلماتك لي يومها:
– لن نتوقّف عمّا بدأناه وحلمْنا به.
كان يومًا هادئًا وجميلًا، خاليًا من الشك والتخوّف وانتكاسات الروح الخائفة.
فكّرتُ طويلًا وأنا أبحث عن رقم هاتف بيتكم، ورفعتُ سمّاعة الهاتف مرّاتٍ عدّةً، وأدخلتُ رقمَكِ في الهاتف، ثم أعود وأطبق السماعة بكثير من الخوف والتردّد، ولا أدري حتى اللحظة كيف تغلّبتُ على حيائي وتردُّدي.
ليست الأمور كما تظنّين، أو كما تهيَّأتْ لكِ، فثمّة أشياء قد لا تخطر ببالك، بل رُبّما لا تتخيَّلين أن تحدث أو تصادفك يومًا.
لقد جفَّ حلقي ولساني، وأوشكت جسور روحي على الانهيار والسقوط، ولا وقتَ للتداعي والانحدار، فقد تبدّلت حولنا كثير من الأشياء، وتفتّقت المرحلة عن أمور تسير لصالحنا، فلنغتنمْ ذلك، ولا نعي التأرجحات وعبء الحاضر المنزلق أي نظرة أو اهتمام.
دعي الأمس وراءَنا، وانظري لمرآة العمر، ستخبرك عمّا يجب فعله بعد عصرٍ من الجدب والذبول.
ما أسعدني!
انسياب ضحكاتك تصلني وتهيّئُني لخوض المعركة بثقة وجدارة.
تُرى من سيبدأ الهجوم، كي نحدّد مواقع الدفاعات لصد الغزوات والارتجاعات المفاجئة؟
فلتعذريني عزيزتي، ذلك أن قلبي هو الذي يقودني إليكِ، لذلك رُبّما أخفق في بعض الأشياء، أنا الذي لم أعرف حُبًّا سواكِ.
فلتجيبي إذن.
لِمَ هذا الصمت السحيق؟ فليكفني حرائقَ واشتعالًا، ولتَكُفُّي عنّي انهمارات صمتك، كي لا تتوشَّح أرواحنا بالفتور والعطب، ولكي لا نُصاب بلوثة التراجع والانهزام.
فلتجيبي قبل أن أطبق سماعة الهاتف، حينها ستبحثين عنّي ولن تجديني، وقد أغادر القطن ولرُبّما لا أعود إليها، وسيجيئك خبر موتي بغتةً، فتعيشي العُمر في كمدٍ وتحسّرٍ شديدين.
– ما جعلكَ تقول هذا؟
– أخيرًا جاء صوتُكِ.
– أُحلّفكَ أن تخبرني الحقيقة.
– ههههههه.
– هكذا أنتُنَّ معشر النساء.
حين يخبركن أحد بالصدق تتغافلن، ولا تُعِـرْنَهُ اهتمامًا، وحين يحيد عن الواقع والحقيقة، ترتفع أصواتكن، وتنصتن لكل ما يقول.
– كااااه.
– سامي، أكُنتَ تضحك علي؟
– نعم.
– كي أجعلك تغادرين صمتَكِ المُمِلَّ.
– خوّفتني كثيرًا.
– هههههه.
أعرف قلبك وما يجيش بداخله، ولكن لا أعلم بما أصابكِ بعد لقائنا آخر مرّة.
– سأخبرك، ولكن ثق جيدًا أن ليس لي فيما سأقوله أيُّ يدٍ أو قرار.
– تكلّمي، أنا أسمعك.
– الحافةُ كُلُّها تتحدّث عن قصتنا، وبلغ ذلك مسامع عائلتي.
– أهاااا.
تعلمين جيدًا أنني أعشقك، ولكن قانون البلد لا يسمح للرجل بالزواج بأكثر من امرأة.
– أو هل لديك زوجة ولم أعرف بذلك؟
– ليس هكذا، ولكن ريتا تقف على الضفّة الأخرى تنتظر.
– ماالعمل إذًا؟
– سأضع لذلك حلًّا.
– ومن وضع هذا القانون؟
– الحكومة هي من وضعته، حفاظًا على كرامة المرأة وحقوقها، ولكن، ستتغيّر الأمور في الأيام القادمة.
– ساااامي.
– الله، أريد أن أسمعها مرّة أخرى.
– سمونتيييي.
– أشعر براحة الآن.
– أعلم ذلك.
– هذه القُبلة لك.
– وصلتْ.
– أيوووه.
– صوتك يتلاشى وينسحب:
– أمي تناديني.
– سنلتقي في وقت آخر.
وأغلقت الهاتف، وفي داخلي لهفة لامرأةٍ هاربة، ما جعلني أهجس بولهٍ وتمنٍّ:
ومض التذكّر مؤلمًا للقلب كثيرًا؛ إذ لم أنسَ أيامنا قبل سفرك للدراسة، ولم أنسَ أيضًا كيف قضيتُ خمس سنين في انتظارك. أنتِ لا تَعِينَ ذلك، في حين لا تزال روحي تذكر كل شيء.
أودُّ أن أصرخ بملء فمي، فأعود خائفًا من أن تنعتني أمي وسوسن وزميلتها صفيّة المحورق بالهبل والجنون.
لا أملك سوى الصبر والتأمل، ذلك أن الإنسان وحده من يصنع حياته، ووحده يدرك ما يفعل وما يريد، ويعلم كيف يتقدّم، ومتى يبقى منزويًا وحيدًا.
فلتدعني أيها الوقت أُفتّش عن حُلمي وملاذي، والإمساك ببعض أطيافي الهاربة، فلم يعد هناك متسع للجدل وضغائن المقت والافتراء.
المناحي والسُبُل واحدة، أما الأهداف فقد تنحو إلى مسالك ودروب أخرى متعـدّدة، ويجب على البلد، بعد هذه التجربة التي عاشها أن يمسك بدروب النصر وألَّا ينتكس أبدًا.
لقد تبدّى جليًّا مزاجية العقل حين يشحذ مديّة الموت، ويسقط المنطق مضرّجًا بالتبلّد دون نقاش أو رؤية صائبة.
تختلط حينها الحقائق بشعارات الثورة، التي تلتهم رجالها بنَهَمٍ دون تردُّدٍ أو تخوُّفٍ ومواربة.
يرتفع حينها صوت المأساة عاليًا:
– لا تصالح بعد اليوم، وليعش الحاضر كيفما يريد.
الأرض تطعن دواخلي، وتزيدني جرحًا ومقتًا، وبين حاضري وانزياغات غدي، أظل منغمسًا في حيرتي وتساؤلاتي العاتبة.
– كيف لجسور المجد أن تسقط بغتةً، أهو الخطاب التقدّمي أم هشاشة الثورة الوليدة؟
لقد خَفَتَ النور، ولجم عن الكلام، ولم تعد ثمّة دروب تنهض بخطى المعنى، ومسارات الفجيعة القاتلة، وأصبح العُشّاق قتلى ومفقودين، وحُرِقت جميع الأدلّة والخرائط، التي قد ترشدنا وتوصلنا إليهم، ما جعلني أصرخ حُزنًا وتحسُّرًا، ولا مجيب سوى جدران غرفتي العابسة.
أطلُّ من نافذتي على الخلاء المتّسع، فتدعوني أمي بصوت مضطرب، فذهبت نحوها فوجدتها ممسكة بسماعة الهاتف قائلة بصوت منسحب:
– رد على من يتصل بك.
وأردفت بامتعاض:
– اُخرج عن سجنك المُملّ.
وحدث ما لم أكن أتوقع أن يحدث يومًا؛ إذ أخبرتني الدكتورة إلزا أن ثمّة خبرًا، مفادُه أن الدكتورة ريتا قد غادرت القطن برفقة والدها وأمها، ولم أُصدّق ما سمعتُ، فقلت بحيرة وتوجُّسٍ:
– كيف حدث هذا؟
قالت إلزا بإسهاب ووضوح:
– لقد سمعت أنّه قام بتهريبها وأُسرتها أحد البدو ليلًا عبر الهضبة الشمالية، حتّى أوصلهم تخوم صنعاء.
– ولِمَ حدث ذلك؟
– قيل: إنّها خافت على أبيها من الملاحقة والمساءلة.
وأردفت بتساؤل ممض:
– أو لم تعلم باختفاء الكثيرين من رجال البلد وملاحقتهم، ممن ينتسبون للمرحلة السابقة؟
وأضافت ببرودٍ وتصنّع:
– ماذا ستصنع الآن؟
– فيمَ؟
– فيما كان ولا يزال بيننا.
قُلت للتو:
– نحنُ مكبَّلون بقيودٍ، لم نتحرّر منها بعد.
وأردفت بجدٍّ:
– ولا نزال نجرُّ خلفنا سلالات القهر والتبلّد، ولا أدري هل نقايض بقِيَمِنَا، أم نظل مُمسِكِينَ بعَجْزِنا وقداسة الكبت والاحتواء؟
بل نحنُ مهدَّدون بالانقراض والتلاشي، وقد يصعب تحرّرنا وانبعاثنا ثانية، ولن نعود كزمنٍ مضى، وسيبقى المستقبل ملفَّعًا بالنقص والهزائم المتلاحقة، وقد يعجّل ذلك بسقوطنا فنلقى حـتفَنا، ومؤكد ثمّة من ينتظرنا كي نذهب إليه.
ماذا حدث ويحدث؟
لمْ أَعُد اللحظةَ أُدرِكُ أو أعي شيئًا، أكنتُ في بيتي وبين جدران غرفتي، أم في مكان آخر لا أعرفه، شيء واحد فقط لم يغبْ عن ناظري، هو رؤيتي لإلزا التي لم تتركني وحيدًا، وظلّت تناولني العقاقير والأدوية، وقد تبدّت أكثر إشراقًا وجمالًا، ولم أعُدْ أرَها ترتدي البالطو الأبيضَ وقد كشفتْ عن شعرِها الكثيف، وظلّتْ جالسة إلى جواري، وإنْ بَدَتِ الأشياء تتراءى أمامي بضبابية وعتمة حالكة كالحة.