توقيع قلم .. ” لو نشبت يا فصيح لا تصيح “

توقيع قلم

أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 114

رابط العدد 33 : اضغط هنا


     تزخر الثقافة الشفاهية الشعبية بالكثير من الأمثلة والمقولات (النصايحية) الاستباقية التي تحث على التريث قبل الدخول في أمور غير واضحة العواقب من ذلك قولهم: ” أحسب للدخول مرة وللخروج عشر ” و ” قايس عشر واقطع مرة ” و”باب يجي منه الريح سده واستريح” وغالبًا تصاغ  هذه المقولات بأسلوب مباشر لتفعل فعلها الإيجابي المنبه بوصفها من الكوابح الثقافية الضابطة لحركة الأفراد الجامحة، لكن في مواقف وظروف ممكن وصفها بالاستثنائية تتطلب بعض المقولات أساليب مغايرة تتسم بالطرح التحذيري الحاد المشوب أحيانًا بالألفاظ الساخرة من ذلك مقولة عنوان هذا المقال، وهي  في الأصل نصيحة استباقية من ناصح أو  ناصحين إلى منصوح وأحيانًا تختصر إلى :  (يا فصيح لا تصيح) لاسيما عندما يسقط (الفصيح) في المحذور، وتقع الفأس في الرأس.

   والمقولة في نصها الكامل عبارة عن جملة شرطية تامة أو متكاملة الأطراف لكنها قابلة للتحريك فلفظة (نشبت) قد تحضر في محلها مفردات مثل : (حنبت) أو ( وقعت) أما الثابت  فهو جواب الشرط (لا تصيح) الذي إذا جمعناه مع المنادى (يا فصيح ) يكونان جملة  قابلة لتصير مقولة مستقلة كاملة السيادة. وتحيل لفظة يا فصيح إلى مشهد متخيل لجدال اجتهد فيه (الفصيح) في إثبات سلامة فكرته لكنه لم يجد لكلماته آذانًا صاغية عند (الناصحين) الذين رموه بتهمة (الفصاحة) التي تشير إلى السخرية بحسب سياقها المتداول عند عامة الناس، ويشبه ذلك تلبيسهم لتهمة (التفلسف) الساخرة لمن اشتهر باللباقة في الكلام لهذا كثيرًا ما يقطع العامة أو أشباه المتعلمين حديثه بقولهم : ” خل الفلسفة حقك” أي تكلم بوضوح، ودع عنك الكلام غير المفهوم.      

   ولو نُظر إلى دلالات ألفاظ المقولة من زوايا نظر متعددة ستفتح مسارات افتراضية لتصنيفها إلى ثنائيتين غير متسقتين، ومثيرتين للجدل بين فريقين هما:   أصحاب (التحذير) الذين يشتغلون من داخل المقولة على فرضية الفشل الاستباقية فيرون أنفسهم في موقع الناصح الأمين الواضح في أطروحاته التي تحمّل (الفصيح) كل التبعات بعد (النشبة) بل يلمّحون بأنهم سيكونون غير مكترثين لحال (الفصيح) عندما ينادي مناديه. أما أصحاب (التشجيع) فيرون في المقولة مفسدة كبيرة تقتل روح المغامرة عند الأفراد، وتحبط الرغبة في الاكتشاف، وتحطّم شرف التجربة بوصفها من أفضل السبل للتعلم، والإبداع، وتحقيق الذات.

     وأحيانًا لا يكتفي أصحاب (التحذير) بمقولتهم الرادعة خاصة بعد أن يصرّ (الفصيح) على موقفه فيعززون حجتهم بمقولات ذات مآلات مؤلمة، وربما مخيفة نحو: “الحصاة من القاع والدم من كورك [رأسك]” لتكون خاتمة الجدال  وبهذا يكون أمام (الفصيح) خياران لا ثالث لهما إما أن يمضي نحو الأهداف التي رسمها لنفسه وحلم بها، واقتنع بسلامة دروبها نحو صناعة ذاته، وتطوير مجتمعه ، أو يخضع للأفكار المثبطة التي تجعله يراوح حول نفسه لاسيما عندما يتخيل أنه مستنفر لوقف نزيف الدماء المنهمرة من رأسه كسيل قادم من علٍ،  أو وهو  يسمع صيحاته القادمة من بعيد بصدى قهقهة فريق التحذير الشامتة.