تأملات
ياسر سعيد دحي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 99
رابط العدد 3 : اضغط هنا
لقد امتلأ عقلك ولم تعد متاحاً ومنفتحاً كي تشرق عليك الشمس. فلكي تشرق عليك الشمس من جديد، على عقلك – الذي يحمل هويتك وما تسميه أنا – أن لا يكون : أن يختفي !
على الأمس أن يموت كي يُشرق يوم جديد. أمسك الذي تنوء بحمله هو غيابك وغيبوبتك وغياب شروقك ! وهو آلامك وبؤسك وجحيمك أيضاً، فلا يوجد جحيم أبعد من ذلك.
على الأوراق الهرمة أن تتساقط وتتحلل لتعيد دورتها، وعلى الأشجار أن تخلع أرديتها وتكون عارية من كل استعارة.
العقلي والحقيقي
في الوقت الذي تخلى فيه العلم عن وثوقيته والادعاء بامتلاك الحقيقة أو بأنه يمثل الصورة القريبة للحقيقة الكونية ، مازال العقل يمضي في بناء مصفوفاته المنظمة والمنطقية و”حقائقه” الخاصة به، فبدلاً أن يعقل الأشياء، ها هو يبني عالمه الخاص و”حقائقه” التي توازي الحياة ولا تتقاطع معها. فالعلم اليوم بات متواضعاً فهو يتحدث عن الاحتمالات أكثر من الحديث عن الحقائق ويتحدث عن النظريات أكثر من الحديث عن القوانين إنها السذاجة المتكبرة المطبوع عليها العقل والتي تجعله يقرر أنك ستجد الحقيقة لمجرد أنك تفكر إنها الوهم الذي يتلبس هذا الكائن المسمى الإنسان العاقل Homo sapiens والذي تجعله يستنتج أن التفكير يقود للحقيقة إن الإنسان العاقل لا يعدو أن يكون هو وتفكيره، سوى جزيرة صغيرة في محيط عظيم يموج بالحياة. فيمضي هذا الكائن قدماً في بناء عالم مواز للحياة، عالم من المفاهيم والأسماء والكلمات يدور حولها ويعبدها بوصفها الحقيقة.
لقد شيد الكائن المسمى الإنسان العاقل عالمه العقلي المعرفي والأخلاقي والقيمي في شبكة من المفاهيم تشمل “الحقيقة” و”العدل” و”الأخلاق” و”القيم”.. إلخ والتي تفسر الحياة وتصورها بدقة شديدة تثير الإعجاب، فلديه جواب عن كل شيء، وكل شيء موضع سؤال أيضاً، لكن نسي الحقيقي بالفعل، نسي أن يحيا!
ينظر العقل ويجادل بالفكر ويمد الجدال طولاً وعرضاً بفكرة تقابل فكرة. يل ويوهمك بتوسطه واعتداله ويقول فكرة تحتمل الصواب تقابل فكرة تحتمل الخطأ. وفي وسط هذا الجدال يتم حجب الحياة نفسها وبدلاً أن يكون العقل في خدمة الحياة، تصبح الحياة في خدمة العقل.
وسط هذا الجدال اللانهائي تعتم نظارات العقل إلى درجة أنها تعميه عن رؤية الحياة نفسها، ويُصبح القتل مبرراً منطقياً ويصبح تلويث الحياة مبرراً أيضاً. إن إسكات العقل قليلا لا يعتبر حجباً أو قمعاً، بل من أجل إنارة الحياة نفسها لأننا هنا لا نقمع الفكر لتكريس اللاعقل، كما يزعم العقل، وإنما لتكريس الحياة وهي أسمى وأجمل مقولات العقل كلها.
الحياة وحدها هي المقدسة والمتعالية على كل ما يقدسه العقل.
ليس بالعدل والمساواة والحرية يحيا الإنسان
إذا ما نظرت وتمعنت جيداً سترى أن تقديسنا للعدل أدى إلى النهب، وأن تقديسنا للحرية أدى إلى القتل، وللمفارقة أيضا فإن تقديسنا للمساواة أدى إلى العنصرية. العدالة والمساواة والحرية قيم عقلية فاترة لا قيمة لها من غير حب ورحمة.
فليس عجبا أن كل الذين يطالبون بالعدل والحرية والمساواة عبر التاريخ البشري هم أكثر من يمارس الذهب والقتل والعنصرية لأنه ليس ثمة حب ورحمة قد سكنت قلوبهم.
وليس فقط الذين طالبوا وكانوا دعاة عدل وحرية ومساواة، بل وكل الذين نهضوا ضدهم كانوا دعاة المطالب نفسها. فالبنية النفسية لهؤلاء وأولئك هي نفسها ومطالب التغيير وشعاراته البراقة من عدل وحرية ومساواة هي نفسها، والنتيجة واحدة: نهب وقتل وعنصرية، لا لشيء ولكن لأنه ليس ثمة حب ورحمة في قلوبهم.
فمن غير حب ورحمة فإن كل الذي يُعرف أو يسمى بالقيم الإنسانية والمبادئ، هي أمراض وحروب ودمار وكراهية وجشع وطمع للسيطرة والإكراه والتسلط والغلبة ليس غير.
عرش نرجس
إن العقل لا يستطيع مقاربة الحياة إلا بتصنيفها وبالتالي تجزأة كليتها وفصل اتصالها. إن العقل يعرف البداية والنهاية لكن الحياة لا تعرف ذلك. إن العقل يعرف السبب والنتيجة لكن الحياة لا تعرف ذلك. الحياة هي دائما هنا والآن لكن العقل يقسم ذلك إلى هنا وهناك وإلى الآن وأمس وغداً. هذه القدرة على التصنيف هي المعرفة نفسها بل هي العقل نفسه الذي من خلالها “يتعقل” الحـ ياة ولكن يعتقلها أيضا في شبكته اللانهائية. ففي اللغة مثلاً، واللغة بالمناسبة هي المرادف الصوتي للعقل، نقول (ترى العين نور الشمس) فهي تضع أمامنا أربع مفردات أو عة مفاهيم الرؤية والعين والنور والشمس. وإن كان يسهل على العقل أن يجد الرؤية مثيلاً للعين وأن يجد النور مثيلاً للشمس، غير أن الحياة ترينا – وترينا بالفعل لا بالكلمات إن العين والنور شيء واحد فنحن نرى نور الشمس بالعين وما كان للشمس أن تُرى لولا العين لكن أيضاً ما كان للعين أن تكون لولا الشمس أيضاً. فالعين والشمس شيء واحد.
في الحياة ينهار منطق العقل، فالأضداد تتزاوج والمتناق ضات تتجاور والألوان تتناغم والكائنات تتناسل وتتوالد.
يقول حكماء الشرق أمرت الطيور فوق البحيرة عكست البحيرة الطيور على سطحها. لا الطيور أرادت أن تنعكس ولا البحيرة أرادت أن تعكسها! بهذا الصفاء يمكننا أن نصف مشهد الحياة، لا عاكس ولا معكوس لا فاضل ولا مفضول لا نمة ولا قاع. لكن العقل تصنع الصورة المنعكسة فيه شيئا آخر تماماً كقصة نرجس عندما رأى صورته المنعكسة على سطح البحيرة وبقي كذلك معجباً بنفسه الرؤية المباشرة للحياة لا تُرينا قمة وقاعاً، لكن العقل يفعل ذلك بتصنيف الأشياء حوله وإكسابها قيماً تفاضلية ولا ينسى طبعاً أن يضع نفسه على عرش هذا التفاضل التراتبي بين الأشياء والكائنات فهو بعد أن يوغل في تقسيمك إلى حواس وعاطفة وخيال وفكر، يضع العاطفة مثلاً في مرتبة أقل منه على الرغم من أن الحياة تدلك على أنهم جميعاً في جسد واحد يأكل الغذاء نفسه ويشرب الشراب نفسه. وجهك لا يحتاج لكل هذا لكي تراه جهرة ولا يحتاج لتصنيفات العقل وأسئلته المتشككة. فبإمكانك أن ترى وجهك حتى في بركة صغيرة ترتادها الحشرات والحيوانات.
لا تتغير، لا تقس على نفسك
إن الدعوات التي تملأ الأرجاء وتحثك حثاً على التغير والتي أصبحت كالمرض الجماعي تسري في هذا الكائن المسمى الانسان العاقل Homo Sapiens شعارها (أريد أن أتغير)، والتي تبدو كعبارة إيجابية رنانة، تُبطن عبارة موازية في أسفلها تمثل أساساً لها تقول (أنا غير راض). فأنت عندما تعلن رغبتك بأن تتغير فأنت رافض غير راض لما أنت عليه.
(أريد أن أتغير) هي قســوة على ما أنت عليه، ورفض وشجب وانشطار تُحدثه في ذاتك، بين ذات تريد التغيير وذات أخرى عليها أن تتغير. وتسمي هذه الذات التي عليها أن تتغير الايقو حينا أو الشيطان الذي يجري فيك مجرى الدم أو قد تسميها نقاط ضعفي حيناً آخر . هذه القسوة تتظاهر وتتقنع بشعار إيجابي معلَن لماع ومخادع (أريد أن أتغيرا، إن هذه الدعوة التي رافقت الإنسان منذ نشوء الأديان قديماً إلى دعاوى التنمية الذاتية حديثاً هي التي تجزؤه وتمنعه أن يكون كلياً، وبالتالي تمنعه من النمو الحر، فالكلية هي اسم آخر للحياة وهي اسم آخر للنمو. (أريد أن أتغير) تضمر مقاومة للحياة وفي أبعد ما تكون عليه الحياة من سريان وتكشف وبزوغ فأن تكون مثالياً هي أن تكون ما أنت عليه، هكذا تصل المثالية – بأن تتصرف بما أنت عليه الآن، أن ترضى وتتقبل.
أنت التلميذ والمعلم
لا يجاري انتاج البشر للحلول إلا ما ينتجونه من المشاكل فما أن تجد نفسك في مشكلة حتى تسعى إلى حلها، وربما يبدو ذلك منطقياً في مواجهة حياتك العملية لكن ما أن تبسـط هذه الآلية برمجتها على عالمك النفسي فإن المشكلة تصبح مضاعفة وتتمدد شبكتها فيك ولا تزيدك إلا ضعفاً. فأنت تبحث دائماً فيما وراء اضطرابك وقلقك وخوفك حيث الأمان الدائم أو الجنان الخالدة، لذلك تلجأ الى الكتب وتلجأ أيضاً إلى المصلحين والمعلمين. إنها الآلية نفسها التي تعيد أنت إنتاجها بشكل نكد منذ آلاف السنين البحث عن المساعدة! تستجيب كتب التنمية الذاتية اليوم، ودورات المدربين لهذا السؤال الملغوم اأريد أن أتغير فهل تساعدني؟)، لكن النتيجة دائماً لن تكون بأفضل مما كنت عليه منذ آلاف السنين. فإن كانت الحكمة الخالدة تقول (اعرف نفسك فعليك أن تتذكر أن لهذه الحكمة تكملة أساس ية فيها وهي أن معرفتك لنفسك لن تكون إلا بنفسك. في هذا الطريق لا يوجد مساعدة بل لا يوجد طريق فالخطوات التي ستخطوها أنت ستصنع طريقك! وحينها تكون النصيحة الذهبية إن كان ثمة نصائح في معرفة النفس فهي ما قاله الشاعر الألماني جوته (كن رجلاً ولا تتبعني وما قاله جدو كرشنامورتي أنت التلميذ والمعلم وما قـ اله جلال الدين الرومي (أنت اسطرلاب الحق) !
تخمة معرفية
يفرح الإنسان بما حصله من معرفة فتراه كثير الضجيج، ينتهز أي فرصة للحديث والتباهي بما لديه ونحن نسميه مجازاً إنساناً ذا عقل فارغ وهو ليس فارغاً تماماً لكنه يصدر ضجيجاً فينبننا بشساعة فراغه.
لكن رغبة ملء العقل نفسه بالمعرفة هي طريقة عمل العقل نفسه شيئاً فشيئاً يصبح عقلك تدريجياً مترهلاً بالمعلوم سلفا لا يريد أن يعرف المزيد يقل ضجيجه ولكن كعلامة على الخمول فقد تلاشى شغفه وصفاؤه.
لقد قام بتجميد الحياة على شكل معرفة ثابتة غير حية، أصبحت معرفته مرجعاً له لقد أصبح غير الحي مرجعاً له لحي من اليوم لن ترى شيئاً، بل سترى من خلال عقلك من خلال ذاكرتك، ومن خلال معرفتك المجمدة سلفاً، سترى الحي بعيون الميت فانى لك أن ترى؟! لن تدهشك الأشياء كما كانت تدهشك وأنت طفل نقي بريء، لأنك سرعان ما تقارن ما تراه بما لديك وتستجيب ليس لما تراه بل لما لديك.
فالرجل الأســود، كما علمتك هوليوود والمجتمع، هو متهم حتى تثبت براءته. المجتمع لديه نموذج الناجح لذا تقول علي أن أكون ناجحا وهكذا تصبح مجرد آلة من أجل الوصول للمعلوم سلفاً!
لا يوجد في الحياة شيء اسمه فشل أو نجاح الحياة محايدة جداً وتعطيك فقط نتائج. وهذه النتائج بالإمكان تحسينها دائماً. إن عقولنا التي اعتادت على تصنيف الأمور إلى أبيض وأسود، ناجح وفاشل وتوهمنا هي ذاتها بالتصديق أن ذلك هو المنطق. وحتى إذا امتلكت بعض العقول شيئاً من الانفتاح فإنها لا تتعدى في انفتاحها عدد الألوان المعروفة سلفاً. تصر عقولنا على وصفنا وتنميطنا ضمن قالب معين مثل أنا متأخر، أنا غضبان أنا حزين، أنا تعيس، وغيره والأمر في حقيقته كما يقول شكسبير على لسان هاملت (ليس ثمة جيد أو سيء لكن تفكيرنا ما يقوم بذلك. في طفولتك أحضروا لك زهرة واندهشت لرؤيتك إياها للمرة الأولى والآن أصبحت حتى لا تنظر لزهرة من الفصيلة نفسها لأن عقلك يقول إنك تعرفها، ولكنك لا تعرفها فأنت تعرف فقط صورتها المخزنة لديك. عندما كنت طفلاً في الرابعة من عمرك كنت تحدق في والدك وهو يمسك بموس الحلاقة بيده العملاقة ويحلق لحيته كان مشهداً يثير في نفسك الدهشة البالغة فقد كنت لا تعرف ما هي الحلاقة وقد صاحبتك هذه الدهشة في المرات الثانية والثالثة عندما كنت تراه يحلق لكن في الرابعة بدأت الدهشة تخفت وتضمحل وتتلاشى. لقد صرت تعرف ما هي الحلاقة ولا تريد أن تعرف المزيد عنها ولا تريد أن ترى أحدهم يحلق حتى لو كان والدك!
لكن عقل الطفل مازال فارغاً وهو يتوق للامتلاء دائماً. (كيف) و(لماذا) (أريد أن أعرف هكذا يقول عقل الطفل. بالطبع أصبحت تدهشك أمور أخرى لكن سرعان ما ينحسر حس الدهشة حال أن تعرفها يمتلئ عقل الطفل بالمعلوم والمعلومات ويتشكل ما يسمى الشخصية أو الهوية أو ما تسميه (أنا) فلقد أصبحت بالغاً!
لقد غاب حس الدهشة، وذلك التوق لاجتراح المجهول والغياب في حضرته. لقد أصبح عقلاً ممتلئاً ثقيلاً بالمعلوم والمعلومات متخماً بها! لقد أصبح تكرارياً ونمطيا يعيد إنتاج نفسه، لقد أصبح بليداً وغبياً.
لا تحمل الجثث فوق ظهرك مهما كانت جميلة
يبدو العقل كسلة نفايات أو مكباً للنفايات ومن الممكن هنا سحب ذلك المفهوم على كل التاريخ البشري وأمجاده ، فكلاهما نفاية، التاريخ والعقل، وليس ثمة استقلال نسبي فيما بينهما ، فالعقل هو التاريخ والتاريخ هو العقل.
ويبدو أيضاً أن العقل يعتمد على غبائك في تلقي دعايته وتبنيها، وقد تكون هذه الدعاية سياسية أو دينية أو علمية … إلخ . وقد تكون قيمة أو أخلاقاً ما ، وقد تكون أيضاً عادة أو تقليداً.
فالهوية على سبيل المثال تعتمد على درجة تبلدك وتبلد حواسك حيث إنك ستجدها تعتمد التكرار والاجترار مبدأ لها للحفاظ على حضورها الدائم في “سوق” عقلك وتاريخك ودنيا الناس والذي أنت وأنا واحد منهم. فالتاريخ حملة دعائية، لا أكثر ولا أقل، لذلك من يتناقله ويتداوله كحكم وقائد وفيصل هم الحمقى والأغبياء. إن كل ما يعرف بالماضي هو قبر جماعي لجثث لا أكثر ولا أقل، فلا تحمل الجثث فوق ظهرك مهما كانت جميلة. وإجرائياً، عليك أن تميز بين الذاكرة العملية وخبرات التجارب والتي تستفيد منها في حياتك العملية، كأن تتذكر مكان شيء فقدت مكانه أو طريقة جيدة للتعامل مع وضع معين، وبين الذاكرة النفسية والتي تتوغل في كيانك وتتوغل فيه أنت تحتاج فقط لزيارات قصيرة لذاكرتك زيارات عملية، وليس الإقامة فيها.
أنت عندما تكون جزءاً من ثقافة مجتمع ما، تكون في الحقيقة عاملاً في ضمن مجموعة عمال في حديقة مبادئها وقيمها، أنت هنا لست أنت حقيقة بل هذه الثقافة في هذا المجتمع، إنك محض مستحلك لها، إنك مستخدم وخادم ولست سيد أمرك، لذلك نحن أنا وأنت وغيرنا) ظهورنا وهياكلنا العظمية مقوسة بفعل ذلك، قردانيتك هنا ممحوة تماماً، وحتى هذا الهامش الذي تتحرك فيه ظناً منك أنه وفق إرادتك، هو ظن ليس إلا، أما الحقيقة فهي أنك مقوس
الظهر.
مقوس الظهر بفعل هذه الحقيبة الكبيرة من الآلام والتاريخ والأمراض والصراعات البينية والتي تحملها كالحطاب فوق ظهرك. إنك عالق في شبكتها ومتعلق بها، لذلك منزلك الداخلي الذي هو أنت مهجور يعلوه الغبار والكآبة والاحتقان.
إذا فما عليك إلا أن تختار بين أن تظل حاملاً لهذه الحقيبة حتى ينكسر عظم هيكلك أو أن تختار حديقة الحياة، فأنت في المنتهى ليس المجتمع بل الحياة بأسرها.
أثاث مستعمل :
الكل يتنفس إلا العقل يختنق، إنه لا يحتفل لا لشيء ولكن لأن الاحتفال يلغيه وكيف له أن يحتفل وهو القائم على التفسير والتبرير والتحليل وعلى المنطق والذي هو ضد الاحتفال ؟! لذا فالعقل ليس حفلاً بل ماتماً، فليس ثمة في العقل إلا البرك الأسنة الهوية الطائفة، المذهب … إلخ )، وهذا هو المعنى الحقيقي للتعفن والتبلد والركود، لذا ستجد العقل ينسج شباكه الأسنة المنسوجة من الذاكرة والزمن وتراكم معارفه بينهما ويقتات منهما ويعيد تدويرهما. فالذاكرة والزمن عشبتاه الأثيرتان، إنهما المعبد والقلعة المصونة، لذلك لا يمكن للعقل أن يعيش من غير ذاكرة أو من غير زمن لأن ذلك يلغيه. فالعقل يخشى حديث (الآن) وحديث (هنا)، لان حديث (الآن) وحديث (هنا) يشل حركته، لذلك العقل مهما ادعى من جدة أو تجدد فهو في العمل يظل دائماً مستعملاً، أفكاره وحياته الاجتماعية مستعملة وكذلك حياته الثقافية والدينية مستعملة هي الأخرى، فكل مجد العقل أثاث مستعمل” في العمق الهوية الطائفة، المذهب … إلخ). ولن تجد في هذا الأثاث جديداً سوى عدد القتلى الذي تراكم عبر حروب هذا الأثاث المستعمل.
إن العقل ردة فعل مرتدة عليك كاللطمة أو الكف، العقل دوما استجابته قديمة ومعروفة : لفاً وأنى يكون له علاقة مباشرة مع الجديد والمتجدد دوماً والأبدي : مع الحياة؟ وكأن العقل مرض عضال أصاب الإنسان ولكي تتحرر وعليك وزر أن تغادر هذا المرض الآن وفوراً كي ما تكتب لك الحياة.
اخلع عقلك فهو سبب شيخوختك
لا تلوث جسدك بهذا الرداء البالي الذي أنهكك وأثقلك اخلع عقلك، وحينها ستكتشف روحك نقية طاهرة ومبتسمة دائماً فقط ما عليك إلا أن تخلع عقلك هذا (الداتا الميتة سلفاً) واسكن جسدك فالعقل لو تأملته : ستجده دائماً جاداً وعابساً ومتجهماً ومتحفزاً لأمر ما، ونقولها لك حقيقة ومن الأعماق: بعدد ابتساماتك وضحكاتك تكتب لك الحياة، تكون عندها أنت الحياة، اضحك ثم اضحك ثم اضحك حينها غباء أغبى منظومة فكرية (آيديولوجيا) وأحمقها على وجه الأرض لن تؤثر عليك. العقل لا يضحك ولا يبتسم وكيف له ذلك وهو كينونة تعيش في الاضطراب والفوضى وتجاهد سلفاً من أجل إصلاح قد يأتي ولا يأتي.
إن صمت العقل كفيل ببزوغ جوهرك الحقيقي، ووعد بفرح الروح وإطالة عمر الشباب الذي فيك، إنه وعد – ليس له علاقة بالمستقبل – لجسد شاب دون تجاعيد وشيب.
كل ما تحتاج إليه عقل صغير صغير جداً، عقل عملي فقط، بحجم عقل نملة كي ينعم جسدك وتنعم روحك بفرح غامر وديمومة من الصحة والشباب. فالعقل بما هو محض أفكار (داتا ميتة ومعلومات بالية ميتة) سبب شيخوختك.
اخلع عقلك فهو سبب شيخوختك. اسكن جسدك، فسترى الفرق. كن منتبها لهذا عقلك ثوب بال لذلك أنت تبلى، ولذلك جسدك يبلى ويتعفن. اخلع عقلك الآن وفورا واجعل من جسدك رداءك، حينها سيكون جسدك بحجم ابتسامة تضحك حتى الصباح ، بحجم ابتسامة أبدية.
عقل للزيارة وليس للمبيت
لكي يكون العقل مفيداً، عليه العمل ضمن نطاقه فقط: أن يُستخدم متى طلب منه ذلك. لكن طبيعة عمل العقل هي غير ذلك وخصوصاً إذا سلمت ذاتك له، وهذا ما تفعله أنت والبشرية جمعاء لقد توغل دور عقلك فيك، فأنت تأكل بعقلك لاغياً جهازك الهضمي، وتنظر بعق لك فترى ما يريد عقلك وتتعامى عما لا يُريد بل أصبح عقلك يقوم بدور جهازك التناسلي أيضاً حيث تتوالى صور الذاكرة المطبوعة في عقلك حتى وأنت تمارس الجنس!
العقل أداة رائعة مهمتها التفكير والشك ومساءلة الأشياء والتفكير والشك جزء موجود
منك وليس سبباً لوجودك، فأنت . ليس لأنك تفكر أو تشك فأناك موجودة وليست بحاجة إلى أي تبرير أو تفسير لوجودها. ففي عالم من المرايا اللانهائية وهي المرايا التي يصطنعها عقلك، يصبح تغول العقل خارج نطاق السيطرة. فهو يُسائل كل ما يضع يده عليها لذا فإن مساءلة العقل الآن، ووضع علامة استفهام بعد علامات الاستفهام اللانهائية التي يضعها
تصبح مشروعة فنتساءل هل بإمكان العقل أن يكون نافذة للرؤية وليس جداراً بيننا وبين الحياة؟ عقل كنظارات مثلاً؟ نلبسها ونخلعها متى أردنا ذلك عقل تزوره إن أردت زيارته وتغادره متى أردت ذلك؟ عقل ليس برسم المبيت والإقامة ولكن برسم الجوار والزيارة؟ عقل نراقبه ونراقب اعتامه حين يعتم؟
طلائع المجهول
هل بإمكان العقل المتخم بالبيانات الميتة أن يعود طفلاً، بريئاً تقياً، فطرياً شفافاً، مجنحاً، ومحلقاً، وراقصاً؟ هل بالإمكان التخلص من كل المعلوم دفعة واحدة، من غير أسف، أو مرجع نستند إليه؟ أي نتخلص من المعلوم ونتكئ على الفراغ لابد أنها ستكون عملية صعبة وقاسية ومريرة، فكيف للمرء أن يتخلص من شخصيته أو هويته أو ببساطة مما يسميه (أنا)؟
كيف ننظر للأشياء من غير العقل؟ من غير المعلوم؟ أي تنظر لها كما ننظر للأشياء للمرة الأولى، كما كنا ننظر إليها ونحن أطفال؟ إنها عملية مخيفة حقاً، ربما تجعلنا نبكي بكاء هستيرياً، فهي ستطلق كل الامنا التي نتشبث بها دفعة واحدة أو ربما تجعلنا نضحك ضحكاً هستيرياً أيضاً أو ربما تجعلنا نرقص وندور فقد أصبحنا في غاية الخفة فقد تخلصنا من كل المعلوم وأصبحنا كالأطفال وجها لوجه أمام المجهول وجها لوجه أمام الحب!
إن كل ما تعرفه عن الحب هو ما يحجبك عن الحب! إن عقلك يجعلك دائم الرجوع إليه للمقارنة. الأب والأم لا يقارنان طفلهم بأي طفل آخر، هذا هو الحب في اللحظة التي تقارن فيها يحتجب الحب لأنك لا ترى الأشياء مباشرة بطزاجتها ولكن بمرجعية معرفتك الميتة والموجودة في عقلك .. لم تعد ترى الأشياء بعيني طفل لم تعد تشم عبير الحياة الذي هو الحب.
” مقتطفات من فصل “خريف العقل”، لكتاب قيد الطبع يحمل عنوان (الربيع الممكن).