إبداعات
خالد لحمدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 108
رابط العدد 3 : اضغط هنا
كنت أود أن أصطحبها إلى منطقة خلف الساحلية لقضاء لحظات ممتعة أمام البحر والأمواج والصخور الملونة والوجوه الناعمة المنتشرة على امتداد الساحل البحري . بعد أن أرسلت لي بطاقة دعوة لحضور مؤتمر طبي تنظمه صديقتها الدكتورة أمال .. لا أستطيع رفض الدعوة وعدم الحضور، سوف يغضبها ذلك، ولا أرغب أن أتسبب في إغضابها وقد صرنا مرتبطين ببعض وبوسعنا الظهور سوية في الأماكن العامة .. لم يعد شيء يخيفني سوى الألم الذي ربما أجلبه لغيري . وانعكاس ذلك على أحاسيسي ومشاعري في حين تعافت جراحي وصرت أخاف موت الحب بعد أن سالت به شعابي وأوديتي . … لا أعشق حياة الفقد والوحشة فلحظات البهجة عذبة وجميلة وإن أضعتها سأموت للتو وقد يقال مات عشقاً، وقد يهمس آخرون بموتي منتحراً وقد يصمني بعضهم بأشياء لم أعرف عنها شيئا ذات يوم .. عرفت الوحدة وتجرعت كؤوسها ومراراتها القاسية .
ولم أفكر أن أسلك دريا غير دربي . تأبى روحي الفحش وتعشق النور والفضيلة .. أن أتلفع بالصمت أهون من الهذيان دون إصغاء لصوتي … يكفي أنني أعلم الحق وأمسك به ، وليست المسالك واحدة وكل روح تعي خطواتها وتدرك كيف تخطو وأين تكون.
لم تأت الخيصة لترتمي في أحضاني بل ذهبت إليها لأعانق النور وأمسك عيون الياسمين .. تعبت شوقاً وتعلقاً .. حقيقة لا أستطيع دحضها أو نكرانها.. لم أنم مثل البارحة. فقد تسلل النعاس إلى عيني دون شعور مني، ولم أستفق إلا عند سماعي أذان الفجر.
صحوت بذهن صاف وأعصاب هادئة، وإن أثقلني ليلي بلحظات هوت بي نحو هوة بعيدة .. تظل كما هي ملكي وحدي أرتديها متى شئت وأخلعها كيفما أريد .. لهذا لن أرد دعوة كهذه وإن كانت لا تختص بالبحر ولا تعني بعوالمه … الرائع في الأمر أنها ستصادف يوم عطلتي من العمل في الميناء .. لا أسعى لشيء سوى رؤية شريفة .. سيدة المكلا الأولى، جبلها الشاهق الذي لم ينحن أو ينكسر .. وإن كنت لا أستسيغ ذكر اسم الدكتورة آمال لإحساسي أنها تسرق شريفة وتبعدها عني، ومع الوقت والزمن صار لها مكانة بيننا كفرد من العائلة .. ورغم كل هذا تظل غريبة عني، ومهما أحببت الذين حولي يظل حب شريفة داخل روحي شيئاً آخر، يتخطى الوصف والحدود .. البحر وشريفة يسكنانني . يعيشان في أعماق روحي . يندسان في القلب وأعيشهما بعزة وكبرياء، بدونهما تلفني قماشة بيضاء وينهال على روحي التراب الكثيف .
– أيها الحبيب أحمد بن محسن الهدار .. أيها المحجوب .. لا يفصل بين أرواحنا سوى جدار اسمنتي هش وواه .
أيتها الأرواح النائمة خلف هذا الجدار .. ما الأرض إلا فناء وشقاء ، تجلدنا بسياطها وتجزنا بفؤوسها بعنف وقسوة ، ونخطو ممسكين بالأمل والرجاء .. نرتشف الشاي في مقهى بانبوزي وأعيننا تخاطبكم ، تدعو لكم، تطمئنكم إننا إليكم قادمون .
موجع هو رحيل والد شريفة . أشعر الآن بخسارة رحيله ، وإن لم يسبق لي التعرف إليه .. مهما يكن الأمر .. فقد فقدت المكلا رجلاً من رجالها . وأما أموري مع شريفة تسير وفق ما أرغب وأشتهي، وقد أوشكت على الانتهاء من ترتيب أشيائي وما أحتاج إليه للأيام القادمة . بينما يظل حزن شريفة حزني . وألمها هو ألمي .. عزاني ما حظيت به من لطف لحظة لقاني بأسعد .. شعرت أنني أحادث رجلاً ناضجاً، وإن كان يصغر شريفة بكثير من السنوات .. كثيرون الذين نلتقي بهم وبعد فراقهم تضيع منا وجوههم وملامحهم . وآخرون تستشعرهم يودون إخبارك أنهم سيبقون في ذاكرتك ولن يغادروها ويصعب نسيانهم .. كنت أرغب ألا يجيء مبارك وبقية الأصدقاء حسب الموعد المتفق بيننا .. وأتمنى أيضاً أن لا يتأخروا كي لا أعتبرهم بالوعد مخلفين .. كيف كنت سأعمل حين تقف أمامي مثل هذه التوقعات المقلقة. ستنتكس روحي ويعاودني التوجس والقلق . في حين امتلكت أشياء عدة وأمسكتها بيدي . عمر عرفت خلاله كثيراً من الحق ائق والكثير من الأشياء .. بكيت واحمرت عيني لفقدي بعضاً منها .. كنت أحبها وأعشقها . ذهبت ولم أستطع الاحتفاظ بها وفقدتها للأبد .. تملصت من قبضتي تلاشت رغم إيماني برسوخها وثقتي في بقائها معي . . أشعلت بداخلي صراعاً لم أكن اعتقد لحظة بأن يحدث شيء مثله …
تعالت أصوات مراكبي وغمرتني الأمواج العاتية .. أتت وجوه وسمعت أصواتاً تتساءل بفضول ودهشة .. دفع بعضهم بقوارب النجاة تجاهي ، وبعض ذهب وتركني وحيداً .. مما يجعلني لا أرد لشريفة أي طلب . وهل ثمة من هو أهم منها لدي ..؟
استلمت دعوة الحضور .. قرأتها .. كانت مكتوبة باسمي .. غمرتني موجة من الحب واللذة . شممت عطرها على كرت الدعوة . أصابع يديها الناعمة موشومة على حوافه .. هي تعلم أنني لا تستهويني أشياء كهذه. وتثق جيدا من حضوري .. تعلم أن شغفي لرؤيتها سيجعلني آتي .. وكنت أكثر دهشة حين وصلت إلى موقع انعقاد المؤتمر ووجدتها واقفة على المدخل تنتظرني . أخذتني إلى الصف الأول وجلست بجانبي . سمعت ورأيت وعرفت كثيرا من الأطباء المشاركين والمدعوين لحضور المؤتمر .. أذهلني مناقشة الدكتورة آمال لبعض القضايا الخاصة بالطب وعلومه . كنت أول مرة ألتقيها .. جذابة ورقيقة . تتحدث وتناقش بإسلوب شائق وعفوي . لم أفهم بعض المصطلحات والجمل التي ترددت على السنة بعضهم .. كان وقتاً ممتعاً. انقضت ساعاته دون أن أشعر بها .. لم يقلقنا شيء سوى دوي انفجار عنيف اهتزت له كل أركان القاعة .. كان أكثر الحضور قد غادروا المكان ، ولم يبق سواي وشريفة والدكتورة آمال وامرأة أخرى كاشفة وجهها شديد البياض . أدركت من لهجتها أنها من مدينة عدن . تقف مواجهة للدكتورة آمال في حديث جانبي بينهما .. ومع دوي صوت الانفجار ارتبكن جميعهن بمن فيهن شريفة التي كانت تقف إلى جانبي .. لحظت الخوف في أعينهن . حاولت تهدئتهن.
– لا تخفن .. إن شاء الله لن يحدث شيء .
أحاول أن أبدي لهن عدم اكتراثي وتخوفي وفي داخلي جبل من الخوف والتوتر.
– كيف ستعبر كل هذه المسافة الفاصلة بين منطقة فوة والمكلا بأمان وسلام ..؟
غادرنا المكان بخطى مرتبكة ، ولحسن الحظ كان تأكسي أجرة يرتكن على الرصيف وحيداً … توجهت نحوه .. أخذ يساومني كثيراً برفعه أجرة توصيلنا .. متعذرا بخطورة الطريق .. رضخت لطلبه .. فأخذنا جميعنا .. وانطلق صوب المكلا … كنت جالساً بجانبه . وشريفة والدكتورة آمال وصديقتها يقبعن في الكرسي الخلفي للسيارة .. أشعل سيجارة وراح ينفثها بشدة . كمن يخرج من داخله شيئا من الضجر والسام . سألته بفضول ودهشة …
– ماذا يحدث ..؟
– قاطعني للتو.. ثمة انفجار سيارة مفخخة في الستين .
زادني تخوفاً وقلقاً … – أمتأكد من ذلك ..؟
نظر حولي وعلى شفتيه ابتسامة باردة قائلاً: – ليس غريباً . يحدث دائماً كهذا، ثم سألني بتهكم. – وااااااه .. أولست أنت من هنا ..؟
أجبته للتو…
– نعم .. ولكن هناك أصوات أعيرة نارية مازال صوتها يصل إلينا .
أطلق حينها ضحكة عالية ، ثم قال بصوت ضاحك:
– لن نمر بشارع الستين وسنسلك طريقاً آخر…
وذهبت يده صوب جهاز التسجيل .. وأداره .
انبعث من خلاله الفنان أبو بكر سالم . بصوت عذب مليء بالشجن :
إللي أسر قلبي بخف دمه وأخلاقه وبالرضا والود لي يطعمه من ذاقه من العسل أحلى لمن هو مثلنا ذواق آه من نار حبه نوبت قلب مشتاق
شعرت حينها بلذة تبلغ أقاصي روحي وتتسربل في دمي .. صرت ممتلناً بـ فيض من اللهفة وعناق أسر وجميل .. شيء يخفق في أعماقي . أنساني خوفي خفف ثقل اضطرابي وتخوفي بعد أن كان الموت يرقص في داخلي . غير مدرك ماذا ينتظرنا .. وماذا سيحدث لنا .. تعبر الجبال والأشجار والبيوت أمامي مسرعة .. نظرت إلى الكرسي الخلفي كانت شريفة والدكتورة آمال وزميلتها في صمت سحيق ..
يردد السائق بصوت مبحوح خلف صوت أبوبكر سالم:
ما الحب إلا الود وغيره إيش في الدنيا ما دريت أنا من لا عشق حد كيف بس يحيا يعيش في الدنيا هبا من لا عشقاً وذاق أه من نارحيه ذوبت قلب مشتاق يغرقني في بحر من الحيرة والدهشة .. عاصفة تقذف بي في عمق البحر .. لم أدر أن شيئاً مثل هذا سيحدث . ولم أشعر بشيء يوحي بحدوث شيء كهذا توقفت كثير من المركبات ، وأطبق الخوف والتوجس على الشوارع والأزقة.
في منتصف الجسر الصيني تجاوزتنا سيارتا إسعاف وانعطفت صوب منطقة الديس . بقينا ممسكين بطريقنا إذ مررنا بجولة بن عزون متقدمين صوب المكلا . على يميننا شرج باسالم وعلى امتداد الطريق الأسفلتي المحاذي للخور كثير من الأطقم العسكرية يملؤها الجنود والعسكر. تهمس شريفة من الخلف في أذني :
– ماذا يحدث في البلد ..؟ فأطمئنها قائلاً :
– لا تقلقي هانحن على وشك الوصول …
تقطع السيارة الطريق بنهم، وبلفقيه يغني بهنك ويسترسل شدوا وغناء .. كل شيء ضبابي
ومبهم والمكلا تخبئ خوفها داخل أبنيتها وأزقتها الضيقة .. توقف بلفقيه فجأة كمن أحس بشيء لم نشعر به أو ندرك تفاصيله جيداً .. كنا حينها نمر من أمام مستشفى باشراحيل ثم ولجنا منعطفين نحو الشارع المؤدي إلى حي السلام وبالقرب من بيت شريفة أمرت السائق بالتوقف .. نحى جانبا .. ناولته أجرته . أخذها مني وغادر مسرعاً. وقفت شريفة تحادث الدكتورة آمال ثم استأذنتها .. فذهبت رفقة صديقتها صوب بيتها . بينما رافقت شريفة إلى أن وصلنا تحت بيتها .. نظرت إلي بخوف قائلة : – اصعد معي إلى أن تهدأ الأوضاع …
قاطعتها …
– لا تخافي واهدني .
– كيف أهدأ في حالة كهذه، لن أغمض عيني
حتى أطمئن عليك .
فقلت لها :
– حين أصل شقتي سأبعث لك – مسجا – لأطمئنك بوصولي …
ثم ودعتها وروحي على وشك الانهيار والبكاء، لا أطيق وداعها وتركها وحيدة ، لا أود مفارقتها لحظة واحدة .. في الطريق أحاول أن أقاوم دموعي وحواسي تفيض شوقاً لروح تحتل أعماقي وتعيش في روحي ودمي . غادرتها وأنفاسها حولي وصوتها يهمس … – أعتن بروحك ونم باكراً . وكلمة أخرى استشعرتها تتسلل نحو أذني… حبيبي لا تغادر الشقة إلا بعد أن تشعر بزوال الخطر من حولك .
امرأة رائعة، عشقت الحياة لأجلها . ببساطتها وتواضعها وبقلبها الذي لا يكذب ولا يخادع … نورها يضيء ضبابية وسواد نهاري القائم. فأجد نفسي أمام بوابة العمارة فأتسلل الدرج مسرعاً. أصوات مرتفعة تأتيني من الشقة المواجهة لشقتي . لم أفقه لشيء . ولجت شقتي وأغلقت بابي وللتو كتبت – مسجا – لشريفة . – شرووووفتي .. لا تقلقي لقد وصلت الآن إلى شقتي .. ثم وضعت هاتفي الخلوي على طاولة صغيرة بجانبي .. الآن أدركت أن قلبي لم يخدعني وإن قسوت عليه وأتعبته بجنوني وشططي . لم أشك أو أتوجس لحظة في شعوري تجاه شريفة ، وما جاءتني به سماؤها من حب غمر قفار روحي وبعث فيها الأمل والحياة . صرت أرى من شرفتي عالماً آخر .. عمر استثنائي أعيشه لا يمل أبداً .. رغم ساعات نهاري المليئة بالتوتر والقلق ، أشعر بقوة في داخلي . طاقة مكتنزة من البهجة والفرح . أود لو أطوف أمكنة الحب ومضائق العشاق وأنثر فيها العبير والورد وألقي التحايا والسلام .. أسقي العطاشى كؤوس الدهشة وينابيع النور وشراب الينين ، تحت سماء تتسع للحلم وإن لم تعد تتشابه أيامها وأوشك ليلها أن يخنق الصباح .. لم أتوقع أن يأتي الموت ويعبث بمسالكي ودربي ، فأسمع صراخ اليتامى وأرى الطفولة تروي الأرض وتخضبها بالبكاء .. نحت حينها قدمي بحثا عن مسالك أكثر فرحاً، غير عابئة بالقلق وانزلاقات الخوف والسواد . وقد أبى الموت أن يترك أرضي تعيش مواسم اخضرارها وخصبها ، مستلذا بقذائف قبيحة حين يتصاعد دويها وتهتز لها كل أرجاء المدينة ويلفها بهالة من السحب والضباب .. صارت الأرواح تتدرب على مواءمة الخوف والغوص في خضم الغبار تستحضرني جملة الدكتورة آمال أثناء كلمتها في المؤتمر الطبي .
– لولا حبي لمهنتي لما تحملت كثيراً من المشقة والعناء .
هاهي تفسر حب الروح وتعلقها في شيء ذاته، وتتقبل لأجله المصاعب والمخاوف المميتة .. تعيش ممسكة بما تحب وتعشق، لا تفلته من يديها، وإن ظل قناص الموت يتربص بها في كل المناحي والسبل . يظل الحب يشق دربه ويخترق السنة الحرائق واللهب دون أن يرتجف أو ينكسر .. أدرك الحرج الذي يملا روح الدكتورة آمال بعد أن نقلت التلفزات الفضائية الخبر بكل حيثياته وتفاصيله .. سيؤلمها أن يحدث في مدينتها شيء كهذا ، في حين أتي إليها بعض الأطباء للمرة الأولى ، ورغم الخوف لابد أن نعيش حياتنا بخساراتها ومكاسبها بأحزانها وأفراحها بكل شيء هو فيها . ذلك أننا إذا ارتكنا إلى ما حدث ويحدث، سنغلق أمامنا دروب البهجة ونفتح مضائق التعاسات القاتلة وقد تنكسر حينها وتنطفئ في أعيننا أحلام وسعادات كثيرة .. فلنتواطأ مع الخوف و الألم وندع للبحر التخلق وولادة الزرقة والأمواج الجديدة ، وننام بأمان تحت هذا الجبل المنكفئ داخل كبريائه وصمته، ونبتهج أن البحر لازال يمنحنا الحب ويملؤنا بفيوض عشقه التي لا تنتهي .. لا أدري كيف تمدد القلق فينا وصارت أرواحنا تتوجس من كل شيء .. أو لأننا لم نعهد شيئاً كهذا، وقد أغرقنا في التخوف والألم ، فضاقت بنا الأرواح واشتعلت بداخلنا العزلة والغربة ومتنا أحياء على أرض الوطن .
قلت لنفسي وأنا أقوم بتنظيف شقتي وترتيب أشيائي :
– كنت روحاً هشة أول ما وطئت قدمي المدينة جنتها باحثاً عن نور يحتويني، وفي داخلي كسر وروح متعبة .