كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 113
رابط العدد 3 : اضغط هنا
في الأدب كما في السياسة، لا يراك الآخر إلا عندما يقرؤك كأنه يقول: (تحدث كي أراك)، والحديث منتج لغوي، كالأدب الذي تمثل اللغة حاملا له وحاضنا.
كنت وأحد الأصدقاء الهولنديين – السيد باول (٦٢ عاما) – نتجاذب أطراف الحديث في مكتبة أمستردام العامة، بعد أن اتخذنا لأنفسنا مقعدين أمام أحد كمبيوتراتها التي تؤثث صالاتها الواسعة، وكنا كلما استدعت إشارة ما بحثا عن كتاب ما أو معلومة، ندير محرك البحث في موقع المكتبة وروابطه حينا، وفي جوجل حينا آخر، ثم نستأنف حديث التفاصيل.
كان مدار حديثنا الأدب العربي وأعلامه عبر العصور من امرئ القيس والشعر الجاهلي والمتنبي والحلاج مرورا بألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وصولا إلى نجيب محفوظ والطيب صالح ومحمد شكري والسياب ودرويش والماغوط على سبيل المثال، ثم نماذج من وجوه الشعر والسرد ذات الحضور الإبداعي المميز الذي حظي بالترجمة إلى لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والصينية … إلخ.
لم يخف السيد باول اندهاشه مما أقترحه عليه من كتب ليقرأها في طبعتها الإنجليزية. كأولاد حارتنا، وموسم الهجرة إلى الشمال مثلا. لكن مما يلفت النظر في هذا السياق أن علي باكثير الغزير الإنتاج الروائي والمسرحي على سبيل المثال ليس مقدما للقارئ غير العربي على نحو جيد، فلم يحظ بالترجمة من أعماله سوى روايتين: “واإسلاماه” إلى الإنجليزية و”سلامة القس” إلى الإندونيسية، ويضع مسرحيات: “سر” شهرزاد” إلى الفرنسية و”مأساة أوديب” وثلاث مسرحيات قصيرة إلى الإنجليزية.
أما إذا بحثت عن أعمال مترجمة لعبد الله سالم باوزير مثلا أو أحمد محفوظ عمر أو حسين باصديق أو سعيد عولقي أو صالح باعامر أو سالم العبد، فلن تجد ما يدل القارئ غير العربي على أن في عدن مثلا أو حضرموت أدباء وشعراء صدر لبعضهم أعمال كاملة على أن المتصفح واجد لا محالة ترجمات لروايات يمنية كالرهينة لزيد مطيع دماج، واليهودي الحالي لعلي المقري مثلا.
لماذا يظل الاعتناء بترجمة النصوص الإبداعية إلى لغات أخرى هامشيا، ولا يوازي حالة الاعتناء بترجمة الكتابات الأجنبية ولاسيما التاريخية أو أدب الرحلات، بينما نوافذ القارئ الأجنبي مغلقة، فلا يرى المشهد الإبداعي، باعتباره التجلي المعاصر لحركة الحياة في مستوييها الفكري والجمالي ؟
لقد ألح علي هذا التساؤل متناسلا، على خلفية أن قراءة المشهد الإبداعي تغنيك عن الشرح والتفصيل في مسالك الجغرافيا والتاريخ والسياسة، فالقارئ يراك في الفته؛ فيدرك ما لا يدرك بالخطب والمقالات تماما مثلما ترى مؤلفا ما، في لغتك، فترى تكثيفا لتساؤلات متناثرة ومتزاحمة عن جغرافيا موطنه وتاريخه وسياسته.
ما زال خط الترجمة يسلك خطا واحدا غالبا، فمساره من اللغات الأخرى ولا سيما الإنجليزية والفرنسية والروسية، ولا يقابله خط مواز من العربية إلى تلك اللغات، سواء لأعمال مستقلة أم لنصوص مختارة لمجموعة مؤلفين، فضلا عن أن محرك البحث في الشبكة العنكبوتية غالبا ما يتيح مواد شائهة قد تصدم القارئ الأجنبي، أو أو تمنحه معلومات غير دقيقة، ولا تقدم المبدعين بصورة تعبر عن ماهية نتاجاتهم الأدبية، ما يقتضي أن تولى هذه الإشارة شيئا من الاهتمام وإعادة النظر ودراسة الكيفيات التي يستطاع من خلالها أن يرى الآخر من أنت. وليس أدل عليك وعلى مجتمعك من الإبداع بمستوياته الجمالية المتعددة وأجناسه المختلفة ومنها ، بطبيعة الحال، الأدب.
ما لعلي ألح على الإشارة إليه هنا وتوكيده أن هناك إهمالا وتجاهلا لأهمية ترجمة الأدب إلى القارئ الأجنبي، وهو ما يكرس صورة نمطية، يتم الدوران حولها، فإذا المجهولية هي الصفة اللازمة والأكيدة. فالترجمة حالة تفاعل بين الثقافات والآداب، وليست طرفا يتلقى أو يعنى بنقل ما قيل عن مجتمعاتنا وأحوالنا بعيون الخارج، كالمؤرخين والرحالة والباحثين في غير مجال، على ما لهذا كله من أهمية، يقدر بحجمها دور من نهضوا بالاشتغال عليها بصبر وأناة.
الحديث ذو شجون وشؤون كما يقال.
إنما حسبي هنا أن أشرت إلى حالة غياب شبه كلية تتشكل حولها صور نمطية عن أي مجتمع مجهول، في الأدب كما في السياسة، فمثلما تقدم نفسك للعالم ثقافيا، تستطيع أن توجه زوم الكاميرا إليك في المشهد السياسي أيضا، بموازاة واعية بين المعطى التاريخي والتجلي المعاصر .