تراث
د. عبدالباسط سعيد الغرابي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 34
رابط العدد 4 : اضغط هنا
حضرموت مهد الحضارات القديمة وقد انعكس تاريخها على ثراء تراثها وفي إبداعات مبدعيها وذلك من خلال تراثهم العملاق الذي نال إعجاب واستحسان كل من تعرف على هذا التراث الحضرمي لاسيما أن الحضارم أضافوا إلى تراثهم ما تعرفوا عليه من مواطن اغترابهم من تراث الشعوب الأخرى ثم نقلوا تلك الإبداعات ومنحوها الصبغة الحضرمية حتى انسلخت من جلدتها الأصلية واكتست بحلة حضرمية واندمجت في تراثهم الحضرمي الأصيل حتى أصبحت جزءاً من هذا التراث الجميل ، ومن هذه الإبداعات صوت دان جيبوتي :
يُعرف الدان أو الصوت (ألايا دان يادانة إلى آخره) وبأنه الميزان الشعري الذي يضع عليه الشعراء كلماتهم.
مقام الحجاز وصوت جيبوتي
لحن دان جيبوتي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقام الحجاز الذي فيه شجن وروحانية تسمو بالروح و ترتقي بالنفس البشرية وقد اعتمد المتصوفة على هذا المقام كثيراً في ترتيل أناشيدهم ومواويلهم غالباً على الحجاز لما له من تأثير روحاني في طقوسهم التعبدية.
وهذه الميزة في دان صوت جيبوتي غير موجودة في أنواع الدان الحضرمية الأخرى التي تتنوع فيها المقامات وقد ذكر الناقد والأديب صلاح الحوثري (٢٠٠١) أن دان جيبوتي صوفي لحجي المنشأ ديسي الممارسة والتطوير.
التسمية:
لماذا سميي بدان جيبوتي؟ يجيب عن هذا السؤال الأستاذ أحمد الحداد (۲۰۰۹) كانت البداية من مدينة عدن وبالأخص من معلا دكة و من دكان الشيخ عبيد علي اليزيدي شقيق الشاعر عوض علي بن الطلي بدأت رحلة الدان المكوكية من مستودع الدكان أو ما يسمى البخار حيث يتجمع النواخيذ والبحارة من أبناء حضرموت ومن بين هؤلاء الحاضرين الشعراء ابن الطلي وعوض السبيتي وعبد الله سعيد باعمرو وابن عبود العامري وعوض سلم وغيرهم . وفي ذلك الوقت كانت عدن مقصد كل أبناء الوطن بشماله وجنوبه وقد ارتبط هؤلاء بعلاقات حميمة مع بعضهم بعضاً، حيث تحي ليالي سمر، يتم فيها الغناء والسجال الشعري، وقد أثمرت هذه العلاقة عن ولادة دان جديد أسموه فيما بعد بدان جيبوتي ووجدوا في هذا الدان سهولة وسلاسة أفضل من دان الهبيش وخصوصاً في مناطق اغترابهم ومهجرهم .
وأول مغني لهذا الدان (علي عوض العقربي ) من أبناء منطقة الوهط اللحجية وهو أخ لصاحب محل عطارة يتزود منه البحارة عند سفرهم . وبعد تعرفه عليهم وارتباطه بهم ، سافر معهم على متن السفن الشراعية وكانت أول رحلة لهم إلى جيبوتي، وأهدوها هذا الدان وأسموه باسمها (دان صوت جيبوتي ).
جيبوتي واغتراب شعراء حضرموت
فقد كانت جيبوتي موطن اغتراب مجموعة من شعراء حضرموت منهم الشاعر عوض عبد الله سبيتي و الشاعر خميس الكندي كما أن بعضهم ظل يتردد عليها بين حين وآخر، من أمثال ابن الطلي وعلوي المقدي وعبد الله باعمرو، إلا أن ابن السبيتي قضى معظم سنوات شبابه فيها، ومن المساجلات التي كانت تروى أنه كان ينصح بالعودة إلى مسقط رأسه عبر السجال كقول الشاعر باعمرو ناصحاً:
لجئت با تنصح الإنسان في ذا الزمن
يعطيك في الظاهرة زينة
وان غبت عنه
يطعم كلامك صبر في الفم ما ينذاق
أجابه ابن السبيتي :
نصحنا وانا بانتصح
والرأس عادل ميازينه
كردح جبل
في الكفف باعدله بالواق
كما أن الشاعر الناخوذة ابن الطلي عندما عاتبته أحد المعجبات عن سرعة سفره فأجابها قائلاً:
إن غبت في غبت قلبي عندك مطروح
لايا عسل في جبوح
لايا دواء كل مجروح
مميزات دان جيبوتي
دان يعتمد على مقام واحد كما ذكرنا سلفاً مقام الحجاز.
كما أن له أوزاناً أو تفعيلات ثابتة لا تتغير.
يتكون كل بيت من ثلاثة أشطر كقول الشاعر سعيد بامطرف ابن طيور:
ياريتنا طير باعلي وودي فر
بجني خيار الثمر
بطرحه في خور مكسر
وقد ذكر المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف (۱۹۸۱) في كتابه الميزان بأن دان جيبوتي شطره الأول من بحر المربوع وشطران بعده على البحر المثني .
كما يفضل أن يتميز مغني دان جيبوتي بطبقة صوت جواب حتى يعطي شجنا أكثر وإحساس بالمقام وقد ذكر المايسترو نديم عمر المضي (في اتصال شخصي) بأن دان جيبوتي يتجه فيه الغناء إلى الركوز على النوى (الصول ) فيعطي أحساس واضحاً بمقام الحجاز.
تعددت أغراض دان جيبوتي إلا أن أغلب مساجلاته تطرق باب الغزل كقول الشاعر سعيد بامطرف :
العشق أثره ملك والمبتلي مملوك
ومن يريد الملوك
يصبر على غزة الشوك
ابن سبيتي :
باب الهوى مشتبك وابن الهوى مشبوك
كيف الخبر يا ابن بوك
لمان ساروا وخلوك
المعلم حميدان :
ع يشيدوا في البناء من قبل ما يبنوك
دفعت عليه البنوك
صاح الورق لي في البوك
انتشار دان جيبوتي
عمل شعراء حضر موت وخصوصاً شعراء الديس الشرقية على تبني هذا النوع من الدان و عملوا على نشره وتطويره من خلال المساجلات والأسمار وخصوصاً التي تقام على ظهور السفن الشراعية وقد حدثنا الراوية عوض بايعشوت بأن سفينتهم رست في ميناء الشحر مع بزوغ الفجر وكان من بين البحارة الشاعر عوض بن سلم السباعي والمغني يشدو بصوت
جيبوتي فقال بن سلم:
يا أهل الرواشين يهناكم محلة سعاد
الأمر له والمراد
شيبه ومداد العماد
لي شيدوها مسوا في ضيقات اللحاد
أهل الطفا والفساد
أقوام شداد بن عاد
ثم أخذوا هذا الدان إلى مسقط رأسهم حضرموت ( الديس الشرقية) وانتشر كثيراً واستوطن بها وأصبح من أهم أنواع الغناء التي تمارس فيها وبرز العديد من شعراء دان جيبوتي من أمثال : ابن سبيتي وسيد علوي وباعمرو وابن الطلي و ابن عبود وعوض عبد الصمد وعبد الله محمد بن سلم و المعلم عوض حميدان وكذلك حسين المحضار وغيرهم ومن مغني هذا الدان من الرعيل الأول الشيخ أبوبكر محمد بن سلم شقيق الشاعر عبد الله محمد والفنان محفوظ مبارك با غويطة وشقيقه علي باغويطة، والفنان عوض سالم باوزير، وأحمد فرج باخبازي وسعيد النقش الغرابي وكذلك سالم عبيد بن عمرون الذي قال فيه ابن السبيتي :
نسنس وقل دان یا عمرون سدك نا
أنا نسد العناء
نخرج كلامي بمعنى
دان جيبوتى اليوم
لازال أبناء وادي عمر يمارسوا غناء دان صوت جيبوتي بشكل محدود وقد برز فيه عدد من الشعراء من أمثال طالب حسين المقدي (أبوظبي )، مد محمد عوض السباعي، وسعيد سبيتي و عبد الصمد باوزير و غيرهم ومن أبرز مغنييي دان جيبوتي المعاصرين حسن باوزير الكحل وسعيد مبارك باوزير. وفائز سعيد الغرابي، وعمر سالم باعامر المعروف بالنجار وغيرهم.
دان جيبوتي وتطويعه للموسيقى
استطاع الفنان محفوظ مبارك باغويطة الشهير بالبعوض أن يدخل دان جيبوتي قبل شروعه في أغنية الشاعر سالم محمد أبوراشد (المساهن يا عذابه ) في سبعينات القرن الماضي ثم الفنان محمد سعيد بن زغيو العامري بصوته القوي أن يبدأ بدان جيبوتي قبل أن يدخل في أغنية الشاعر علي صالح السباعي (صوبتنا سهام المحبة ) وهي من ألحان الفنان سالم جبران ثم تبعه سعيد نصيب بأغنية المعلم حميدان ( يا من تجافيني) ألحان عبد الله حسين الطفي . كما أن الفنانة بلقيس فتحي قدمت رائعة الفنان محمد سعد عبد الله اذا فصل ساعة خطر مسبوقة بدان جيبوتي بالرغم من تحفظي على أدائها للدان إلا أنها نسبته بالخطأ إلى الدان اللحجي . وهناك بعض الأغاني من دان جيبوتي مثل أغنية الشاعر مبارك بن عبود العامري التي تغنى بها الفنان صالح باعيسى ثم عاد تسجليها الفنان علي بن محمد :
الماء بجنبي وانا ساكن بجنب الماء
عاطش وهالك ظماء
وأنا تفرج على الماء
وكذلك قصيدة ابن سبيتي التي غناها الفنان فيصل علوي يقول فيها:
حبيب حبك محبة وانت ماترحم
تسمع كلام الظلم
لي يخربوا كل ما تم
لي قصدهم بالبناء يخرب ويتهدم
ذولا آوادم لئام
ما شيء يبوا الدار يسلم
مالك ومال الشواني حط يوهم ثم
يا زين داوي الألم
ذي في فؤادي تحكم
بنيت لك دار في قلبي حجارة صم
والساس حقه نشم
وأصبح حجاره مرجم