لقاء العدد
د. عبده عبدالله بن بدر
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 78
رابط العدد 4 : اضغط هنا
هذه الصفحات من المتابعات عن ترجمة الشاعر حسين بن محمد البار، وهي تتناول بعد العشق في حياته، وقبل أن نمضي في متابعة هذا البعد سنلج بالقارئ إلى مدينة الشعر الباري، قاصدين السوح في منطقة العشق والهوى، دون المناطق التي تحتوي على المديح والهجاء، والتغني بالوطن.
إن هذا القصد من المتابعة يتغيا تحسس تضاريس هذه المدينة العاطفية والوجدانية ناظرين إلى الكيفية التي رسمها الباب بأصابع قلبه لمعشوقته ، وكيف تعامل مع هذه الصورة التخيلية التي تضيق بالواقع ولا تطيق احتماله وتلوذ باللغة وتقد من حساسية دوالها وبريق جمالها وسحر مفاتنها هذه الصورة، بعد أن تغذيها بحرارة التجربة الحية واشتعالها الصادر من بحيرات الوجدان الثائرة، والقارئ المتابع لن يتردد في إدراج هذه الصورة ضمن الأرشيف الرومانسي ، الذي امتاز شعراؤه بالعاطفة الملتهبة التي لا تحمد ، وبالنظر إلى هذه العاطفة بوصفها عاطفة مقدسة لا تخلو من سر إلهي أوبها قبس من نوره ، وحين يقلب القارئ هذه الصورة ويعثر على عناصر من الطبيعة كالطير أو النخيل أو الماء أو النار يدرك تماماً بأنها لا تذكر عبثاً، بل لإذكاء عاطفة الحب وتصاعد لهيبها، وفي مثل هذه الأجواء العامرة والغامرة بالعاطفة يتشكل خطاب شعري حماسي يحتفي بنفسه، ويعمق حقائقه الداخلية، ويغذي حقائقه بالانفلات من الواقع والإفراط في المبالغات الخيالية التي تعني لها مجداً وجدانياً على حساب الواقع الذي تضيق به ويضيق بها .
إن هذه الصورة الشعرية الرومانسية لها حضور جلي في شعر البار، الذي شرب من كأس الحب، ولم يكتف بشربة واحدة بل عاود الشرب، ولم يمنع قلبه من التدفق والخفقان لبيض الحسان. وليس هذا حسب بل إن تجربة الزواج لم تمنحه حصانة من فتك الحب ولواعجه؛ إذ ظلت هذه الحصانة منتهكة حتى بعد زواجه الثالث، الذي ذاق فيه طعم الهدوء والاستقرار والسكينة، كما أقرت بذلك الترجمة نفسها. ولعل هذه التجربة في الهوى والعشق تفرز من تلك الفكرة التي تلج أن جغرافيا الزواج ليست هي المناخ المناسب لأشجار العشق؛ اذ لا تجد هذه الأشجار مياه كافية من الود والتلقائية والحرارة التي لا يحيا العشق بدونها، ومع مرور الزمن تجفف ينابيع الهوى في جغرافيا الزواج، ولا حضور في الزواج إلا لتبعات الواجب وتحمل أعباء الحياة ونقلها الرتيب المضجر والملل، وعليه فإن الزوجة لا يمكن أن تكون معشوقة وزوجة في الوقت نفسه، فالمعشوقة منطقة جاذبة يستريح القلب فيها ولو اكتوى بنارها. وهذا ما ينطبق على البار الشاعر الذي لا يفرط في معشوقته حتى لو تمادت في صدها وهجرها يتمادى هو في عشقها حتى نارها ولهيبها لا يرى فيها إلا برداً وسلاماً. إن اللامنطق يصبح هو المنطق في هذه العلاقة، واللا معقول يصير هو المعقول، إن العاشق يستسلم استسلاماً تاماً لمعشوقته ويرضى بأن يكون عبداً لها وهي معبودة له، إنها عبودية الحب وليست عبودية السياسة التي تتأسس على القهر والعنف والقوة وليس على التراضي والاختيار مثلما هو الحــــــــال في الحب.
إن الشاعر مأمور بالحب من ربه ولا يعصي له أمراً، إن الحب ليس سلوكاً عابراً بلا غاية وبلا معنى، بل عبادة وفي هذا يقول الشاعر البار:
دعي شاعراً يعبد جمال عاكفاً
عبادة من يهوى كما أمر الربُ
إن الشاعر يفتخر بهذه العبادة وهي عبادة لا مشاحة فيها يسبح العاشق بحمد الجمال.
إن الشاعر لا يتحمل الأذى مهما صغر حين يكون صادراً من الآخرين ويواجه الأذى مواجهة عنيفة ولسوف يزلزل الأرض ومن عليها ليصد هذا الأذى، ولكن حين يكون من حبيبته فهو يحتمله ولو كان كبيراً. إن الشاعر يقلب صورة العشق، ولكن هذا التقليب محكوم بالإخلاص والتفاني في هوى المحبوب، فهو لا يحتمل الفراق ولا تسكب دموعه دمعاً مثل خلق الله، بل تسكب دماً لا يتوقف عن النزيف.
إن التعبير عن عشقه لا يصل إلى الذرى بالمجان، بل بالدخول في دنيا الموت ليحيا الحب ويكبر في عين معشوقته إنه لا ينسى تلك القبل التي استطعم مذاقها، وعلى الرغم من ذكره هذه المتعة الحسية فإنه لا يسـرف في ذكرها، إن فراق المعشوقة يعصر جسده وكيانه ككل إلى درجة النزيف، ومقابل هذا العشق العظيم يتوقع من معشوقته أن ترتفع معه إلى مستوى الشعوب بحرقة الفراق ولذا نراه يهمس معشوقته ويقول لها:
فإن فراقك مر المذاق
فبالله كيف وجدت الفراق
ان العاشق في لحظة الوجد الشديد تتنامى درجة الحساسية عنده وتصير غاية في الشفافية فيرى في معشوقته كياناً مقدساً منحته السماء، ومن الطبيعي أن يكشف المقدس عن مضمونه وتتجلى قدسيته.
فهو الروح المحلقة والضياء الذي يشعشع ويتلالاً. ومثل هذا الكيان المقدس يستحق الفداء والتضحية.
إن الشاعر لا يتعامل مع معشوقته بطريقة قاسية تقوم على ردود الأفعال ومواجهة الهجر بالهجر أو الصد بالصد، بل يتعامل معها وفق سياسة الاستسلام المطلق ، ولا يثنيه عن هذه السياسة جحودها ولاتفننها في تجريعه الويلات والآلام التي تجرف وديان قلبه وتقطع أوردته، كل هذا لا يبدل سنة الحب عنده ولأنه يدرك تماماً أن الأذى الذي يصدر منها هو نعمة منها ، ولو يعرف أن هذا الأذى صدر من مخلوق غيرها لزلزل الأرض بكل من عليها ، إنها المبالغة في التصوير والتعبير عن إخلاصه. هذه سمة من سمات الرومانسية، ويبدو أن هذه اللغة التي تمنح من المعجم القرآني في ديوان الشاعر مثل زلزلة الارض زلازلها، ربما هي التي أوحت لنص الترجمة الخاصة عن الشاعر حسين البار أن تختار عنواناً ينتمي إلى البنية اللغوية القرآنية مثل (هل أتاك حديث الهوى).
إن الشاعر في قصيدة (رحماك) كرر فكرة الفداء، وهي فكرة يفرضها مطلب الواجب الديني نحو المقدس، فالمرء لا يقدم على الفداء اعتباطاً بل تفانياً وعشقاً لهذا المقدس، ولذا يعلن الشاعر :
أقدس إله الحسن دون تردد
وعبد حقيقته بلا إشراك
إن الشاعر حين يفصح عن عبادته لمعشوقته لا يرضى أن تنفصل هذه العبادة عنه ، وبما أن العبادة تقتضي أن يبني محراباً من أجل العبادة ، فيرى أن أفضل مكان لبناء هذا المحراب هو قلبه ، إن الشاعر يحمل معشوقته معه أينما حل وأينما ارتحل، ومن ثم ليس هناك مكان مناسب للحفاظ على سلامته وعافيته مثل القلب ويدفع به غيابها إلى أن يتعلق بأشيائها المفضلة لديها مثل عطرها الذي لامس أنفاسها وانتشر في كيانها، فيشكو إليه فراقها ويطلعه على حاله ، ويؤلمه أشد الألم أن تنسيه معشوقته ولو لثانية واحدة ، ليس هذا حسب بل ولو بمقدار غمضة عين، ولذا يلح على هذه المعشوقة أن تلهج بذكره على الدوام في غيابه قبل حضوره ، حتى يضمن استمرار هذا الذكر لا يربطه بالجسد الفاني، ويجعل محركه وحافظه الروح الأبدية ، ويقتضي شرع الهوى من العاشق أن يستميت على العهد، ويبذل كل طاقته من أجل إسعاد معشوقته بالفن الجميل والكلام المعسول حتى إذا وقع على قلب معشوقته يلصق بها ويتغلغل إلى كيانها ولذا يقول:
إني أنا الغريد في فنن الهوى
ولكم سقيتك من بديع فنوني
وأنا الحريص على الزمام وإن جنى
وأنا الذي شرع المحبة ديني
وحين يريد العاشق أن يؤكد عشقه لمعشوقته يذهب إلى المعجم المقدس ويصنع من دواله عب ادة أهل الهوى والعشق، ويضع نفسه عبادة العابد للمعبود ويرسم . لهذا المعبود صورة في القلب، ولكنه لا ينسى وهو في حضرة هذه العبادة أن يقدم اسم الخالق ويجعل له الأولوية في القلب.
ويصنع من دواله عبادة خاصه تحت عنوان الهوى والعشق، ويضع نفسه عابداً مخلصاً لمعبوده المرسوم اسمه في قلبه يهتف له النشيد تلقائي ينبع من القلب نفسه وعبر عن ذلك بقوله:
أمن الحق أن أعبد رسمك وخيالك
ما سوى اسم لك، ثم اسم لري يعبد فيه ينشد
إن هذا الشاعر الذي يتنفس برنة العشق والهوى يعلن أن كيانه برمته يذوب في محيط الحب ، وحواء الاسم الجامع لكل المعشوقات تعرف أنه قطرة في محيطها، وفعل العشق هنا يكسر سور الخصوصية وينطلق إلى فضاء العمومية، وهذا المعنى بلغة الشعر على النحو الآتي :
أين حواء؟ فاسألوها لم يفن
فؤادي في حبها اللهيب
وبمثل هذه المشاعر التي ترفع من لواء الحب لا تعجزه الحيلة حين تتعذر اللقيا فيلجأ إلى اللوذ بالأبدية، وهي أبدية لغوية بالتأكيد في الأبدية يكون التسامي والتجاوزات للعثرات إذ تسقط حسابات الزمن المتناهية وتنتصر حسابات العشق الابدية التي تتغلب على قهر الزمان وتطير روح العاشق لتحلق في فضاء الخلود إن قيمة الحب هي من قيمة الخلود وكل مادونها مسترذل .
ومن نافلة القول أن ينظر الشاعر البار إلى معشوقته ابنة الوادي بوصفها الولي الذي لا يصغي إلا إليه ولا يطيع سواه ولا يأتمر إلا بأمرها.
إن الحب الجارف والخوف على المحبوب من الأذى وغدر الزمان وعيون الحساد يرفع الشاعر إلى أن يذهب بمعشوقته إلى أماكن عصية، بل يريد أن يغيب عن الوجود المرئي ويضعه في الوجود المخفي فيقول:
كل من حب يطبق عليه الدف
يلقيه وسط العين والنون
يحسب لهذه السيرة الغيرية التي كتبها الدكتور عبد الله حسين البار بعنوان الشاعر حسين البار توجهها الذي اعتنى بالجانب العاطفي في سيرة الشاعر (حسين بن محمد البار) ، مما أعطى لهذه السيرة قيمة أدبية وفنيه لأن سيرة تهمل هذا البعد العاطفي ليست بسيرة بل يمكن للمرء أن يشكك في هويتها الإجناسية ولا يمنحها جواز مرور لإدراجها ضمن أدب الســيرة الغيرية إذ يعد البعد العاطفي بعداً أصيلاً في هذه السيرة رسخته بعد صراع مع التوجهات التقليدية التي تحمل هذا الجانب الإنساني الحي الذي من أجله يقيم المرء الدنيا ويقعدها في بعض الأحيان . إن المترجم بمثل هذا الفعل الشفاف يعد الجسور بينه وبين القارئ وينفتح عليه ويطلعه على هذه التفاصيل الخفية فيرفع عنها الغطاء، وبهذا الرفع يكسب ثقة القارئ ولا يتعالى عليه بما يعرفه عن الشاعر البار ويصطحبه إلى هذه التفاصيل الحية ، ويستعيدها معه ثانية من الماضي البعيد فيصبح لها معنى وطعم آخر ، يتذوقها القارئ وتثير عنده تداعيات وأسئلة ، ولعل السؤال الذي يبحث له القارئ عن جواب . هو لماذا كانت صورة العاشق المحروم في الشعر الوجداني للبار هي الصورة المهيمنة؟ ولعل هذا الجانب العاطفي من السيرة هو الذي يفسر هذه الصورة وعمقها كما سنرى في الصفحات اللاحقة.
إن التجربة العاطفية هي تجربة إنسانية لا تحدث للأشجار والأحجار، والإنسان من بين جميع الكائنات الحية هو الذي يعشق ويهوى ويختار من يهوى ويعشق ولا يفرض عليه الاختيار من خارجه، بل من داخله. ولقد وعي المترجم هذه الحاجة الإنسانية ورأى من الضرورة أن يفصح عنها بقدر ما حصل عليه من معلومات من هنا وهناك، ويبدو أن المترجم قد تردد في بداية الأمر في تضمين سيرة البار هذا الجانب العاطفي، لكنه حسم أمره ومضى غير مبال بالقيل والقال وانتصر للفن والحقيقة ونبض الحياة الإنسانية، ولعل المتأمل للغة المستخدمة في العنوان ربما يؤكد حدس القارئ بشأن تردد المترجم. والقارئ وهو يتأمل هذا العنوان الفرعي الذي ارتضاه المترجم يتهيأ تهيئة شعورية خاصة ويدرك أن المترجم سيتحدث عن أمر خطير وجلل ولذا أدرج هذا الحديث ضمن الكتلة اللغوية الجليلة، التي يقشعر لها البدن وترتجف لها الروح ويهتز لها الكيان البشري برمته حين يمضي في تقليب صفحات قصة العشق عند البار
يتضح له مدى مرارة هذه التجربـة الإنسانية وكيف هشمت التقاليد روحه ، وكم كان البار نفسه يمقت هذه التقاليد ويتعاطف القارئ معه ، ويرى أن تجربة قيس تتكرر بجوهرها وإن اختلفت في صورتها إذ إن المجتمع العربي كان ولازال يسحق اختيارات الفرد الحرة ويقرر مصيره وينتصر لعقلية القبيلة والعشيرة ، وإن تجربة الحرمان هي التجربة المهيمنة في تاريخ العشق العربي ، وأبطالها قيس وليلى ، وكثير وعزة ( والبار ورقوان) وغيرهم آخرون ، وهؤلاء حازوا البطولة على الرغم من أنهم خسروا مملكة العشق فإنهم فازوا بمملكة الشعر، وخارج هذه المملكة أولئك الذين لم يسـتطيعوا تدوين تجاربهم المرة والحلوة بالشعر الذي يمثل القول الحر الخالد في مقابل الضرورة الاجتماعية التي تحاول أن تجهض هذا القول الحر فامنحوا من ذاكرة
الزمن وأصبحوا نسيا منسياً .
إن هؤلاء الشعراء الأبطال يمثلون شاهد حال على تعنت العقلية القبلية التي تسيء للشعراء الأحرار من أمثال البار فعاش يكابد ويعاني من العنت الذي تكرر معه أكثر من مرة، إذ كان يقمع في كل مرة يسمح لنفسه فيها أن يدخل مدينة العشق (لقد تعرض الشاعر البار للهوى مرتين في إطار قريته وواديه، وثالثه حـ ين ثوى في المكلا واتخذها مستقراً له ومقاما) وفي المرة الأولى وقف أهله ((ضد رغبته في شراسة وأبوا عليه تحقيق تلك الرغبة فانكسر قلبه وانزوى في ضلوعه باكياً شاكياً يكثر من شعر الشكوى والأنين)) .
ولم يقتصر الامر على هذا الرفض، بل خُطبت لابن عمه من لحمه ودمه وكان هو الأولى بها (( وهاله أن الشيوخ والأمهات لم يعترضوا على ذلك ، بل باركوه فرفت الحبيبة إلى غير من أحبها وأرغمت الأيام عاشقها أن يكتب لابن عمه قصيدة تهنئة بهذه الزيجة ، كتبها (( وقلبه ينزف دماً .. ثم كان قراره بالرحيل من قريته )) . هذه هي المعشوقة الأولى التي حرم منها واسمها (رقوان) وحياتها لم تدم طويلاً إذ توفاها الله ورثاها الشاعر البار، أما معشوقته الثانية فلم تفصح الترجمة عن اسمها واكتفت بالاسم الشعري بدلاً عن اسمها الحقيقي، وصل إليها عن طريق أحد أخدانه وأترابه الذين يحبهم حباً جما فاتصل الهوى بينه وبينها في نقاء لا يشوبه قدر وسمو لا يعرف ابتذالاً. وامتدت العلاقة بينهما سنين عدداً حتى وإن تزوج مرتين وتزوجت هي بآخر.. لقد أحبها حباً عنيفاً جارفاً ملأ عليه جنانه … ففكر بجدية في الاقتران بها، لكن أمله في ذلك خاب كما خاب أمله في حبه الأول.
إن الترجمة كثفت الحب الجارف لهذه المعشوقة حين تأملت في شعره وسبرت وجدانه الذي احتفى بها في الوداع واللقاء فهو (( لم يدع أي حدث في حياته يمردون أن يجعلها بؤرته فإن بارح قريته جعل الوداع لها ، وإن عاد إليها جعل ابتهاجه بالعودة مخصوصاً بمرآها وإن اثقله الزمان بالامه وأوجاعه فزع إليها واستجار بها من الزمان، وإن خير في حياة اخرى يجتمع فيها بمن عرف من نساء فلا أحسبه يرضى بسواها )) .
وتبقى المعشوقة الثالثة التي تعاملت الترجمة معها بقدر من التحفظ ولم تعطها القدر نفسه من الاهتمام مثلما هو الحال مع المعشوقتين السابقتين وقد ذكرتها بوصفها ذكرى عابرة.
وفضلت الترجمة أن تذكر اسمها الحركي الغنائي على طريقة الأحزاب السرية الخفية ( مدلهتي ) وهذا الاسم الفني ذاع صيته ورفعها درجات وأصبحت تتوهج كالكوكب الدري في سماء الأغنية الحضرمية، ورغم هذه السرية التي أحيطت بالمعشوقة الثالثة فإن الترجمة تفضلت على القارئ بقطرة من البحيرة وحجبت عنه مياهها كلها وسربت للقارئ بعض المعلومات
التي تكشف أن هذه المعشوقة مازالت تستطعم العشق إلى اليوم وحريصة على ذكرى معشوقها وهي لاتزال حيه ترزق وإن علاها الكبر وخط الشيب رأسها ، ولكنها لم تزل على وفاء لذكرى هواها وفي أضابيرها بعض هداياه لها ، ومنها صورة فوتوغرافية له، وخلفها قصيدة وجهها لها خاصة مكتوبة بخط يده ولقد ذاعت القصيدة .. منذ شدا بها الفنان الخالد مد جمعة خان، وهي قصيدة ((مدلهتي)) واستطاع الشاعر البار أن يفلت بمعشوقاته من الزمن الواقعي ويحملهن بشعره إلى عالم سببه الخلود، وحتى ينتزعهن إلى الأبد من هذا العالم البائس اختار لهن أسماء شعرية مثل حواء، وابنة الوادي ومدلهتي، فمرة يبني لهن محراباً في قلبه ومرة أخرى يطبق عليهن (الدف والنون) حتى يحفظهن من الأذى ويحملهن معه أينما ذهب. إن الشعر لآية من آيات الخلق والإبداع لقد خرجت من بين أصابعه كائنات غاية في الفتنة والجمال لن نقول عنها ورقية، بل كائنات فنية شعرية وبالتعبير الرومانسي جنيات
إنسيات لا يمل المرء من النظر إليهن والإصغاء لهن طول الدهر، بل تصبح العلاقة معهن علاقة مقدسة، ولذا نرى الشاعر الباريتمادى في عشقهن حتى ولو تمادين في الصد والهجران
إن معشوقات ( الشاعر البار) كن ثلاثاً اثنتان محسوبتان على الوادي وتخصيصاً القرين وهي قرية صغيرة رابضة في جغرافيا دوعن، والثالثة محسوبة على المكلا المدينة ، ولذا مس حبها شيء من وهج الحداثة إذ احتفظت بصورة عاشقها الفوتوغرافية إلى يومنا هذا ، وهذه الطريقة لحفظ الذكريات لم تتوافر للمعشوقتين السابقتين في ذلك الزمن الذي مضى واللافت أن الحداثة خصتها بصوت محمد جمعة خان بأن يحتفى بها غنائياً وطار أسمها في مدينة المكلا وربما تعيد تذوق هذا العشق دائماً بحرارة كلما اس تمعت إلى أغنية ( مدلهتي والترجمة نفسها التقطت هذه اللحظة الاحتفائية بالعشق بعد أن صرحت بأن قصيدة مدلهتي ذاعت ورددتها الشفاه منذ شدا بها الفنان محمد جمعة خان .
أن البار في عشقه لم يكتف بواحدة، بل تنقل قلبه من واحدة إلى أخرى، وقد يجد المتابع العذر له في عشقه الأول والثاني، فالعشق الاول قبل الزواج والثاني بعد الطلاق، والثالث في أثناء الزواج بل إن العشق الثاني الخاص بابنة لوادي تقول عنه الترجمة وامتدت العلاقة بينهما سنين عدداً حتى وإن تزوج مرتين وتزوجت هي بآخر. لكن زواجه وزواجها لم يكونا بمانعين العاشق ومعشوقته من احتساء لذات الهوى ما استطاعاء الى ذلك سبيلاً)) والترجمة حرصت على أن تنقل لنا صورة هذا العشق بلغة غاية في التسامي ومكللة بالحشمة والوقار فاتصل ((الهوى بينه وبينها – يقصد هنا في نقاء لا يشوبه قدر وسمو لا يعرف ابتذالاً رغم أن الشاعر حظي منها بقبلة في حياته أنسته الدنيا ومن عليها. بل إن الشاعر اختزل كيانها كله في قبلة أوما أنت إلا قبلة منذ دقتها سكرت ولما زلت في نشوة السكر) وليس بالضرورة في مثل هذا البيت الشعري أن يكون شاهداً حياً على الملامسة الجسدية مع معشوقته، وبلغة واضحة لا يوجد تطابق بين الفعل الشعري والفعل الجسدي، ولو صح الأمر لخربت الدنيا وهلك البشر وأصبحت الحياة لا معقولة لأن الحجر سينطق والزهر سيضحك وسنتزلزل الأرض زلزالها كما قال الشاعر البار.
ولانريد هنا أن نذهب من الترجمة إلى الشعر ومن الشعر إلى الترجمة حتى نتحرى عن واقعة مثل هذه الواقعة التي لا تكمن اهميتها في حسمها. بل في تراوحها بين الجسم واللا حسم ولأنها مرتبطة بفعل العشق والهوى وما أتاك عن حديث الهوى على حد تعبير المترجم، فإن الصفحات اللاحقة ستتناول منا مناقشة طبيعة الهوى، وهل هو غريزة تلقائية من الصعب قتلها أو هو داء يصيب الجميع بلا استثناء وغيرها من الأسئلة التي يبتهج العقل حينما يجيب عنها، وسنخضع تجربة الشاعر البار إلى هذه المساءلة وسنيداً من قول الشاعر البار نفسه عن الهوى فهو من وجهة نظره (ذلك الداء القديم الذي قل من بني الإنسان من لم يتعرض له ويصب بإحدى شظاياه).
إن الحب مرض يصيب الجميع بلا استثناء لا أحد يسلم من زخات طلقاته القاتلة للقلوب وفكرة مثل هذه الفكرة ليست بالجديدة فهي ذائعة في أدبيات العشق ويمكن مقارب تها مع ذلك الرأي الذي يطابق بين الحب والمرض على غرار ما يذهب إليه جانيه فالحب عنده انفعال يتولد في لحظة هبوط نفسي تكون مواتية بصفة خاصة للتقبل المرضي أو الاستقبال الشاذ، وفي مثل هذه اللحظة يستطيع أي موضوع كائناً ما كان أن يجئ فيحدث تأثيره على الدماغ المريض، أو يترك انطباعه في تلك العقلية المختلة والسؤال الآن هو هل كان العاشق البار قبل تغريده أغنية العشق مصاباً بحمى الهوى أو الهبوط النفسي واندفع بدون إرادة لشرك الحب. لقد وقع شاعرنا في الحب قبل الزواج وبعده وفي أثناء الزواج الثالث . وباختصار كل حياته تغلغل فيها العشق ولم يصمت قلبه أبداً عن النطق بالحب. وإذا ما أخذنا بهذا الرأي النفسي سنجرد عاشقنا من الاختيار وسنضعه في مربع الإجبار، وفي هذا الحال يصبح الحب لعبة مرضية يمكن أن يلعبها مع أي كان ومن كان ويصبح الحال مع العاشق البار ومعشوقاته لا معنى له، إذ بالإمكان أن يلعبها مع أي كان من نساء الأرض، وفي هذه الحالة يصطف البار مع تلك الشخصيات التي شكلها (بروست) على صورة كائنات خاوية لا إرادة لها أوجميعها بلا استثناء تشعر بالحاجة إلى الحب وليس المهم عندها كيف يحدث الحب؟ المهم أن يحدث وليس بالضرورة أن يذهب القارئ لتأييد هذا التفسير في كليته، فإذا كان يمكن للقارئ أن ينساق مع هذا الرأي في جزئيته التي ترى أن الحب داء حتمي يصيب الجميع، فربما يقف بالضد من تلك الجزئية التي تذهب إلى أن أي امرأة في العالم يمكن أن تمثل الداء، وليس بالضرورة أن تكون امرأة محددة، ولعل تجربة البار الحية تتجاوز هذا العمى في الحب وتجربته الأولى التي عشق فيه ( رقـوان ) وحين أجبرته الأسرة على أن يختار امرأة أخرى لتحل محلها فرفض بحزم وصرح لأسرته بأنه لا مكان لامرأة أخرى يمكن أن تحل محل ( رقوان ) وكان ماكان من فرار من قريته بعد أن أجبر على الزواج بأخرى . ولعل لحظة الحرمان التي عاشها بعد اختطاف التقاليد الأسرية معشوقته ( رقوان ) جعلت نزيف الحرمان يستمر بداخله ، ولم ينقطع هذا النزيف إلى آخر لحظه من حياته وتعمقت تجربة الحرمان في حياته ولم تعد هذه التجربة قادرة على المكوث في وجدان البار لأنها ستقضى عليه فحمل هذا الحرمان إلى عالم الشعر وهناك حاول أن يتحرر من ضغط هذا الحرمان ويكثف لحظة العشق من أولها إلى أخرها في تجربة متسامية ولذا يقول:
قدس إله الحسن دون تردد
واعبد حقيقته بلا إشراك
وفي مكان آخر يقول :
أني أنا الغريد في فنن الهوى
ولكم سقيتك من بديع فنوني
وأنا الحريص على الدمام وإن جنى
وأنا الذي شرع المحبة ديني
إن الحب في نظر البار الشاعر ليس مرضاً ، بل رفع الشاعر لواء الحب كما هو واضح في الأبيات السابقة ، وهناك من يهمس أن البار لو فاز بتجربة العشق الأولى مع (رقوان) لما كرر تجربة العشق أكثر من مرة ، ولما عاش هذا الحرمان الذي لف حياة العشق عنده ، لكن تجربة البار مضت على غير هذا النحو الافتراضي وكان في كل مرة يغطس في بحيرة العشق تتجدد طاقته الشعرية ويتفجر بالقصائد الجميلة ، ويبدو أن هذه الطاقة لا تشتعل إلا باشتعال الحب فشعر البار لا يحيا في معاطف الخمول والكسل الروحي والحياة الباردة ، ويكابد ويعاني ويكتوي بنار الحب ويموت فيه من أجل أن يحيا الشعر ويضيئ بنوره الدنيا والطريف أن الأستاذ سعيد باوزير في دراسة له عن الشاعر البار بعنوان ( تعريف بالشعر والشاعر ) يقول معلقاً على هذا البيت :
ولن تصبحي إلا غرامي وفتنتي
ومصدر إيناسي وملهمتي شعري
وليقف القارئ هنيهة عند الشطر الثاني من البيت .. ليضبط الشاعر وهو متلبس بالاعتراف بأن المرأة في شعره هي مبعث وحيه ومصدر إلهامه.
واللافت في هذا التعليق لجوء الدارس إلى معجم بوليسي مثل الضبط والتلبس ويمكن أن يأخذ القارئ هذا اللمز والغمز من باب المجاز والمداعبة البريئة مع الشاعر البار، وفي كل الأحوال فإن هذا الرأي يؤكد كم كان حضور المرأة طاغياً في شعر البار، بالرغم من قساوة هذه التجربة إلا أنها لم تكسره وتثنه عن المضي في الحياة بحلوها ومرها وحصد من النجاح في الشعر ما حصد ، بل نجح أيضاً في عالم الصحافة ، وكان صاحب قلم ذي أنياب كما يقول برناد شو ، فضلا عن ممارسته للمحاماة التي اصطبغت بصبغة إنسانية ، وقدرته على إبداع الشعر الغنائي فصيحه وعاميه . وكيف تلقف هذا الشعر الفنان حمل مد جمعة خان وتمكن هذا أن يعيد إرسال هذا الشعر مرة ثانية ليس للقراء بل للمستمعين في أشكال غنائية اتحد فيها اللحن الجميل مع الصوت الشجي فأسعد جماهير المكلا. إن هذا الفنان حمل معه وهو يغني صوت الشاعر حسين البار الشعري الذي يصور تقلباته في العشق والغرام. وتظل تجربة العشق بما فيها تجربة البار تحمل سمة فردية وليس هناك من تطابق في تجارب العشق بين البشر. والترجمة باركت هذه التجربة وتفاعلت معها وهي ترى أنها حاجة إنسانية، والبار أثمرت تجربته شعراً خالداً وبلغة الترجمة إن هوى البار الجارف .. أمكنه من إبداع قصائد خلدته لأنه خلد فيها صوراً من ذلك الهوى، وملامح من ، يوات تلك المعشوقات، وما قـصائده مثل (حنانيك)و(مدلهتي) و(بعد الوداع) ، (ثورة) و(يامن على البـ عد أهواها وتهواني ) وغيرها أخريات إلا شواهد على ذلك الهوى ومكابدة الفتى ناره الحامية .
((وأنعم بها من نار)) والقارئ العاشق لن يتردد في إطلاق هذه التنهيدة التي صدرت من أعماق المترجم وكأنه هو الآخر قد تلظى بهذه النار.