مدارات
أ.د. أحمد سعيد عبيدون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 95
رابط العدد 4 : اضغط هنا
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) البقرة : 67 – 71.
نود الوقوف هنا على الطريقة التي تم بها تعريف كلمة (بقرة ) في القرآن الكريم بوصفها : صورة صوتية (بقرة ) ، وصورة ذهنية ملازمة لها وضرورية لوجودها ، يؤدي التحامهما إلى ( علامة ) واحدة تدل على جنس مختلف عن أجناس الكلمات للحيوان في العربية ، وهذه الطريقة تكشف عن أن الحديث عن تعريف البقرة والوصول إلى تحديد مميز ودقيق لها منذ (الأمر ) حتى تنفيذه بـ ( الذبح ) قد مر بمراحل أربع :
1) الماهية .
في هذه المرحلة تكون البقرة معرفة بجنسها في اختلافها عن بقية الأجناس الأخرى ، وفي تميزها عن غيرها من جنس الكلمات الأخرى في العربية؛ فهي بقرة أي :
أ ) لا إنسان ، ولا حمار ، ، ولا جماد ، ولا سماء ، ولا أرض ولا تراب ، ولا نار ……)
ب ) ليست حيوانا آخر مما يذبح : أي : لا ناقة ، ولا فرس ، ولا شاة ، ولا طائر …..) وعليه فإن كلمة ( بقرة ) تشمل كل بقرة في جنسها في احتفاظها بكل الصفات الإيجابية والسلبية معا ؛ وسوف تدخل في هذا التعريف كل بقرة ينطبق عليها وصف البقرة مهما كانت صغيرة أم كبيرة ، ملونة أم غير ملونة ، تعمل أم لا تعمل ، صحيحة أم معيبة ، هكذا يكون تعريف البقرة بشكل علمي وهو أمر في غاية الجدية والمعرفة والوضوح ، لا مجال معه للاستهزاء أو السخرية أو اللعب
٢) العمر :
إن السؤال عن الماهية بعد تحديد صفات البقرة بهذه الدقة والوضوح والجدية يعني أنهم لم يتبينوا وضوحا بعد ، أو أنهم فهموا أن الله يعني بقرة معينة محددة ومميزة تنطبق على بقرة واحدة فقط ، وليس على جنس متعدد من البقر ، ولن يكون لمعنى التعريف بالبقرة إلا الإنقاص من صفات البقرة المكتملة كلها سلبا وإيجابا ؛ وهو الأمر الذي نلاحظه في التعريف لها في المرحلة الثانية ؛ إذ يتم إسقاط صفتين من صفات البقر متعلقة بالناحية الشكلية وهي العمر ؛ فهي : لا كبيرة ، ولا صغيرة ، هي بقرة بصفاتها السابقة مع إسقاط صفتين ؛ فهي ليست مسنة هرمة، لا تحمل ولا تلد ، وليست صغيرة.
۳) اللون :
والسؤال عن اللون يتعلق بالناحية الثانية من الشكل بعد السؤال عن العمر، وتعيين
اللون الأصفر هنا يعني :
أ) أنه لا أسود ، ولا أبيض ، ولا أحمر ….
ب) الأصفر الفاقع هو الشديد والصافي ، وهو بالضرورة ينفي وجود الدرجات الأخرى الضعيفة ، والفاتحة والخفيفة من هذا اللون .
ج) أن هذا اللون في البقرة يجعلها بقرة
جميلة تثير العجب والاستحسان ، لا الاشمئزاز والنفور .
4) الوظيفة :
يعود السؤال من جديد عن الماهية وكأن شيئا لم يكن ، لكن مع توضيح أن السبب
في عدم وصولهم إلى البقرة المرادة يعود إلى أنهم وصلوا إلى درجة الاشتباه والحيرة في الاختيار ؛ أي أن البقر لم يتميز بعد ، وهو أمر يدعو في الجواب إلى سلب مزيد من صفات البقر المشتركة حتى يتم الاقتراب نحو التعيين ، وفي كلمة : ( مهتدون ) إشارة إلى أنهم (ضالون) لم يهتدوا إلى الحق في تعيين هذه البقرة بعد، فجاء الجواب بالانتقال من سلب بعض الصفات الشكلية إلى سلب صفتين من الصفات الوظيفية العملية للبقر : وهي : الترويض لإثارة الأرض ، وسقي الحرث ، مع الخلو من النقص ، والخلو من العيب . وعليه فهي بقرة : لا إنسان ، ولا حمار ،، ولا جماد ، ولا سماء ، ولا أرض ولا تراب ، ولا نار ….
وهي بقرة : لا ناقة ، ولا فرس ، ولا شاة ، ولا طائر …
وهي بقرة : لا كبيرة ولا صغيرة ، وهي بقرة ؛ صفراء ، أي : لا سوداء ولا بيضاء ولا حمراء ….
وهي بقرة فاقع لونها : أي صفرتها لا خفيفة ولا ضعيفة .
وهي بقرة : لا تثير الاشمئزاز ولا النفور . وهي أخيرا بقرة : لا تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث ، لا نقص فيها ، ولا عيب . هكذا لا يكون تعريف البقرة بوصفها كلمة وعلامة إلا عن طريق السلب والنفي والاختلاف .