إبداعات
خالد لحمدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 110
رابط العدد 4 : اضغط هنا
بعد كل ذلك العمر .. هانذا الآن أجد ما جنت أبحث عنه، في مساحة صغيرة ضاع فيها أهلها وصاروا ببعض غير آبهين .. لست بمنأى عما يحدث وصرت أقتسم الهم والوجع مع مدينة ضاقت بأهلها وصاروا بأرواحهم يضيقون .. أتناول سلماً صغيراً من الصالة وأسنده بجدار غرفتي كي أثبت الستائر على النوافذ والباب الذي ينفتح على البلكونة، وكلما جاءتني نسمة باردة زادتني تشوقاً وغمرتني في أعماق تيهي الجميل .. رغبة تجتاحني في الاختلاء بنفسي لأرتب شقتي وأشتري ما أحتاج من الأشياء وأتهياً للقادم بروح وذاكرة صافية .. يداهمني الوقت ولم أنجز إلا قليلاً من حوائجي ومتطلبات المرحلة القادمة . في حين تغير الزمن ولم يعد مثلما كنت أعهده، ولم تكن الأشياء مثلما رأيتها وعشتها .. تبدلت الأرواح وتغيرت الطقوس والعادات كثيرا .. متعب من هو مثلي . لن تصل يدي إلى كل شيء . ويد واحدة أين سيبلغ مداها..؟ سأبذل قصار جهدي . سأجتاز بالحب العوائق المربكة وستبارك صلوات شريفة خطواتي ومسالكي، وإن ملا الرصاص سماء المدينة وجاء ليسرق من قلبي الفرح ويطفئ ابتهاجات روحي التي أوشكت أن تكتمل .
– إن هو إلا الموت يود خطفي .
رجاء يمهلني بعض الوقت لأحتضن خلفي ليلة واحدة ثم يأت ويرحل بي . سأرتاح في قبري وأندفن بجانب جدي وإخوة أبي الذين جاؤوا في زمن أماتهم جوعاً ومرضاً ولم يمهلهم القدر أن يحققوا ما أتوا لأجله، ولم يبق منهم غير أبي الذي أعيد فيما بعد إلى أحضان جدتي ولم يبلغ حينها الرابعة عشرة من عمره .. ذلك العمر من الرعب والخوف الذي حدثتني به جدتي، أكاد أشم رائحته تقترب نحوي . بعض التفاصيل تمر أطيافها أمام عيني ، فأرى ضباباً يعيق خطوي ويغلق بوجهي منافذ المدينة .. مازلت أنتظر الفرح ولم تزل روحي تتشهى النور القادم بتلهف وترقب لحضوره ، وإذا بالقلق يداهم جهاتي ويطلق حمم حقده ويزرع حولي الجدب والخراب .. أصابعي تقبض على المطرقة بشدة فأضرب رؤوس المسامير الصغيرة التي تمسك بأعمدة الستائر . أشد قماشها بعناية وروحي تعانق خطوطها ونقوشها الزاهية .. ومن شرفاتي المح في الخارج سوادا يتصاعد بكثرة وأصوات انفجارات بين الشرج والخور تهز البنايات ويرتج لها زجاج النوافذ ويوشك أن يتطاير إلى قطع صغيرة .. أخرجت رأسي من النافذة لأرى الشارع وقد بدأت تأتيني بعض الأصوات المتداخلة . لحظت شباباً يتجمعون وآخرين يذهبون في اتجاهات متعددة .. نساء ترتفع أصواتهن في العمارة المقابلة لشقتي .. لا أدري ما يحدث حولي .. تذكرت للتو وجوه أصدقائي العم عوض با جليدة ومبارك والحاج سالم محروس ومقهى بانبوزي وأسوان وعوض صالح وما كانت تدور من أحاديث بيننا .. وميض مبهم ينز بذاكرتي وما كان يأتي على لسان العم عوض با جليدة الذي ألمح في أحاديثه الحنكة ومجايلة عصور لاتزال تقبع بذاكرته .. أغلقت النافذة المطلة على الشارع وأخذت أقلب في بعض الكتب التي تمتلئ بها غرفتي .. وقع صدفة بين يدي كتاب (دموع العشاق) للشاعر حسين المحضار .. الوقت غير ملائم للقراءة واللحظة ملأى بأشباح الرعب وكوابيس العتمة وغياب شمس الحقيقة .. قرأت كثيراً من العناوين في أوقات سابقة .. مررت كثيراً على صفح ات هذا الكتاب الذي يعيش مسافراً بين روحي وحقائب سفري . عشت فيه أكثر من سنين عمري …
هو الوحيد دون كل الكتب أحتلت كلماته وأحرفه مساحة هائلة من ذاكرتي وروحي .. وهج الحب ومشعل العواطف الصادقة .. خرائط تسلك بالروح إلى ضفاف وأمكنة يتوالد فيها النور والحنين وتنسكب الأشواق لتضيء دروب الحب ومسالك العاشقين .. الآن أيقنت أن هؤلاء لم يقرؤوا هذا الكتاب .. لو قرؤوه يوماً لما وصلنا إلى نهايات وماس مميتة .. لو عرفوا الحب لما غرسوا الكره ونقشوه على جدران الأزقة وفي كل المناحي والأمكنة .. أغلقته ووضعته بين جملة من الكتب في دولاب خشبي، وبقيت وحيداً أعانق الصبر والقلق دون أن أجد تفسيراً واضحاً أو خيطاً يرشدني لمعرفة الحقيقة، وقد قطع التيار الكهربائي عن كل البيوت، وبقيت ممسكاً بالصبر والحيرة وليس بيدي شيء سواهما . انقضت ساعات ليلي مثقلة، فلم أكد المح خيط الفجر يتبدى في الظهور حتى ارتديت ملابسي وخرجت مسرعاً .. كان الشارع خالياً من الحركة والصخب اليومي . جميع المحلات والبقالات مغلقة إلا صاحب الفول والمخبازة الشهير المكنى بأبي محمد الذي ما إن شممت رائحة خبزه حتى ذهبت نحوه واقتعدت كرسيا تقبع أمامه طاولة نظيفة ، وما أن رآني حتى جاءني بكأس شاي وخبز وصحن صغير مليء بالفول الساخن ثم تركني وذهب صوب أحد الزبائن … أكملت تناول إفطاري وذهبت نحو أبي محمد … سألته بصوت منخفض …
– ماذا حدث ليلة البارحة …؟
ضحك مندهشا .. ورد قائلاً ..
سيأتي بك الفول إلى هنا مرة أخرى .. ثم تركني وذهب صوب عمله .
كنت قد أمضيت ليلة بائسة ، ملؤها الضجر والقلق وأنتظر أجوبة لحيرتي وتساؤلاتي وقد بدأت أشك أن تأتيني إجابات شافية .. أشعر أن الحياة هنا بدأت تفقد صدقها وينتحر بهاؤها ، واقتنعت أن الكلام الخالي من الأسئلة أفضل وأجمل وسيقيني من الوقوع في المواقف المحرجة .. ما يخيفني هو أن ننام ونصحو فنجد المدينة قد ذهبت ولم يبق شيء سوى السراب … الجميل فقط أن أجد في الحلم أبواباً مفتوحة وغرفاً تسكنها أرواح تجيب بصدق، وتصغي لكلماتي وتشعرني بكثير من البهجة والإغراء .. الأمكنة أيضاً لا تكذب أبداً، في حين تنتشر على جدرانها الكتابات وكل يوم نرى كذبة ووهماً جديداً .. صار الكذب يتصاعد من بيننا ، ويأتينا في رسائل ذات أوراق أنيقة وبتوقيعات من بائعي الوهم والسراب لشعوبهم، وأصبحنا من ذوي الدول المصدرة للأكاذيب والمخاتلة .. رغم كل شيء ستظل خططي وبرامجي وفق ما رسمتها من قبل وإن كان الوضع غير مستقر ولا يطمئن أبداً . فأتساءل بدهشة :
– ماذا يفعل الناس إلى الآن في منازلهم ..؟
– كيف أمضوا ليلة البارحة …
تطاردني الأسئلة الحارقة وتأخذني محطات الألم من موقع لآخر ، وقد دفعت بالناس أسئلتي إلى الهروب مني وتركي وحيدا . والأدهى من ذلك . الخوف والتوجس الذي لحظته في أعين جیل خذله القدر ولم يحالفه الحظ لصنع ما يحلم ويريد .. غادر نصفه وما تبقى يعيش الفاقة وموت الحلم ويتهيأ لمغادرة الوطن .. أحتمي بالبحر لوقوعي تحت طائلة الأسئلة المشبوهة … يمر في عمق البحر قارب صيد صغير .. نظرت نحوه بتفرس واشتهاء ..
– البحر إذن لم يتم ولا يخاف الرصاص ولا يعباً بالضجيج والأصوات الصاخبة …؟
يصنع أفقه دون أن ينظر لأحد أشعر وكأن كلاً منا يتأمل الآخر لمحت في الزرقة ومضاً يوشك أن يخبرني بشيء . بينما مازلت لم أخلع عباءة المساء وروحي لاتزال مشحونة بجنون الحيرة ومعرفة كثير من التفاصيل . وبين أصوات النوارس ورذاذ الأمواج المتلاحقة نظر نحوي هامساً .. ششششتنت
– عش كما تشتمي ولا تنظر إلى الآخرين . أشعلني شوقا وحرائق وأطفأني حيرة وقلقا . لم أستطع الإمساك به ولم يدعني أكمل تساؤلاتي المؤجلة .. لم أكن على موعد سابق معه ، بل لم أكن مهينا للقائه وفي هذا التوقيت بالذات … أشفق على مرتادي البحر كثيرا إنهم لا يدركون اللحظة التي يمسكون خلالها بوميض سحره وزفرات دفئه التي يطلقها بين عمر وآخر.
حين أجلس هنا أنسى عالمي وما يحيط بي . أعيش في كوكب آخر. عوالم لا تعرف الزيف وتعشق الحقيقة .. باغتني سؤال نادل البوفيه القريب مني …
– أتود أن أحضر لك شيئاً …
رفعت بصري نحوه قائلا : – شكراً لك ..
فابتسم وذهب صوب زبائنه الذين بدأوا يقفون أمام البوفيه الخاص به .. شعرت في صوته حباً ودفئاً وفي عينيه أسئلة ودموع وطن .. كُنتُ أود أن استوقفه ولكن تركته يذهب نحو عمله وفي رأسي سؤال وسؤال . – نحن أمة ذات مجد وحضارة ذات إيمان وحكمة …
كيف صرنا نترقب النور أن يجيئنا من أمكنة بعيدة ..؟ إن عظمة حكمتنا في أن تظل تحوم حولنا ولا تغادرنا لكي لا نبقى في توجس وترقب شديدين. – كيف أنت اليوم أيتها الحكمة والإيمان القابع في الأرواح والذاكرة ..؟ في انتظاركما بلهفة وعجل، وجميل أننا لم نفقد حواسنا بعد ومازلنا نرى الأحرف ونضع على حوافها النقاط لإشباع الجمل والكلام . رائعة كلماتنا المشبعة بالأحرف والملأى بعبق الأسلاف والأمجاد الغابرة.
– أيها البحر.. لأنني أحب هذيانك وعمق صمتك .. ساهتف
– أحبك ..
– لزرقتك ودفنك .
– لعمقك وسحرك .
– الضحكاتك الساحرة.
– لاشيء يشبهك أبداً ..
وقد بدأت المدينة تغادر سباتها ونومها العميق، وبدت الحركة تدب في الشارع وتتزايد أعداد السيارات وانفتاح المحلات التجارية بأكملها . وكل ما أحتاجه ذهبت لشرائه وإن نسيت بعضا من الأشياء .. وقفت أمام أحد الباعة في سوق النساء . اقتنيت أواني للطبخ وعدة مكتملة لإعداد الشاي الحضرمي وبعض الأطباق والكؤوس وأواني أخرى متعددة . تركت البائع يضعها لي في كرتون كبير كي يسهل علي حمله .. وبينما كنت أناوله النقود إذ شعرت بيد تلمسني من الخلف وصوت يأتيني قائلاً : اقتن الأشياء التي نحتاجها فقط ، وما تبقى
دعه لوقت آخر .
نظرت خلفي فتملكتني الدهشة ولم أصدق ما رأيت .. كانت شريفة برفقة الدكتورة أمال .. لحظة ارتباك سرت في كل مفاصلي . فقدت لساني الأحرف وأضعت حينها الكلام .. كان صاحب المحل يرقبنا بفضول ودهشة .. طلبت منه أن يناولني حاجتي وغادرت المكان برفقة شريفة والدكتورة آمال .. أتعمق داخل السوق للتبضع فأكتشف عالماً لم أكن أتخيله .. توقفت الدكتورة آمال فجأة لتحادث شخصاً فهمت من حديثهما أنه دكتور يعمل معها في مستشفى ابن سيناء الحكومي. … كانت تسأله عما قد قام به من إجراءات ومتابعة لاستخراج رخصة فتح صيدلية في عيادتها الخاصة، وقد أخذ الحديث بينهما وقتاً طويلاً فاستأذنتهما شريفة وذهبنا في دربنا وخطونا الجميل .. همس الشارع يملؤني بروائحه وعطره، بأصواته التي تنبعث من كل اتجاه، بعماراته وأبنيته البيضاء العالية، بأشيائه الأنيقة الزاهية .. لا أحد غيري يشعر بارتجافاتي الضاجة بداخلي في زقاق ضيق تكثر فيه النساء ويقل فيه الرجال .. تأخذني ألوان أزيائه وأقمشته المتنوعة .. عالم باريسي ينضح بالأناقة والبخور والعطور المستورة .. كل شيء هنا مدهش ومغر .. كلما غادرني طيف توالدت بداخلي ألوان وأطياف أخرى .. تعبرني الأزقة واحد تلو آخر . فالتصق بالنور المنداح في زقاق لم يعرف القسوة ذات يوم .. أشعر وكأنني خارج من معتقل لا أعلم كم من العمر قضيت بداخله … أسعل بشدة لرائحة الحناء والفرد والعلك واللبان . وقد وضع البائع ثلاثة أكياس من الحناء
داخل كيس بلاستيكي مرسومة عليه شجرة الحناء واسم البائع وعنوان المحل سالم علي وإخوانه للحناء الحضرمي وناول شريفة ذلك، وأمام أحد المحلات الصغيرة توقفت شريفة ثم دفعت بالب اب فولجنا إلى داخله .. مدت يدها وصافحت البائع ثم وضعت قبلة على يده … اندهشت لذلك .. فنظرت نحوي مبتسمة .. وقالت : – إنه خالي محمود .. أعلم أنك لم تلتقه ونسيت أن أخبرك بذلك .
ففاجأنا معاتباً..
– لم تدعوني لحضور خطبتكما . ولكن .. مبروك وعقبال زفافكما .
– قلت له مثل ما يقول من هم في مثل حالتي :
– الله يبارك فيك .
رد علي ممازحاً :
– لقد سررت برؤيتك …
وأعقب بشيء من الجد :
– ضع شريفة في عينيك، فلم يعد لها أحد سواك.
أجبته بشوق ووله :
– هي في القلب ولن تعرف يوماً الحزن معي . شعرت في نظراته ارتياحاً وفرحاً عميقاً، حيث بدأ يعرض بعض الأقمشة على شريفة، وراحت تقلبها وتتحسسها بيديها، بدأ للخال محمود
وكان لم يعجب شريفة شيء من هذه الأقمشة.
فقال ممازحا:
– ستأتيني بضاعة جديدة في الأيام القادمة. وانسحبنا بعد أن تبادلنا كثيراً من عبارات الود على أمل لقاء قريب .
استوقفني أمام محل الخال محمود شاب صغير يقف في الشمس وبين يديه مسابح وساعات يد وقنائن عطر صغيرة، وعلى مقربة منه تقف امرأتان تتضاحكان بزهو وانتشاء .. أمعنت النظر جيداً في وجوه الباعة، فلحظت أن أكثرهم شبان صغار يجيدون البيع بحنكة وذكاء .. تلاشت وجوههم بعد أن غادرنا المكان صوب الشارع العام وروحي تهذي بقهر وألم : – ما هذا الذي رأيت ..؟ كابوس من الأسئلة توشك أن تخنقني …
– كيف لوطن يترك أبناءه يعيشون بمشقة وعناء..؟ يتلاشون بضبابية أمامي ، أرى مالم يكن قد حدث بعد… تنتشر في الأفق بقعة سوداء تتكاثف خيوطها في سماء المدينة .. شباب وشابات وشيوخ وأطفال ينظرون نحو السواد .. يأتيني من طرف الشارع صوت المرأتين اللتين كانتا تتضاحكان . لا نريد شيئاً سوى الحياة .
كنت حينها قد وصلت مع شريفة إلى منتصف الشارع المواجه لمسجد عمر، وبين صوت يجيء وآخر يغيب تتزايد على حواف الطريق كثير من الأوراق الممزقة ، يمتلىء بها الشارع وتدوسها أقدام العابرين .