يوميات حضرمي متقاعد (قصة قصيرة)

إبداع

صالح سعيد بحرق

في كل مرة، يخرج فيها العم أبو نضال من منزله، يجد نفسه أمام مكتب الإدارة الذي غادره بسبب إحالته إلى المعاش التقاعدي، فيقول تلك العبارة المكرَّرة: ما الذي أتى بي إلى هنا، أُريد أن أعرف؟

 فيقول له زميله في صندوق التوفير: ما عليك يا عم أبا نضال، اجلس اجلس. فيجلس ساكتًا يفتل شاربيه.

 لم يكن العم أبو نضال ينوي الذهاب إلى إدارة البريد بالفعل، فلم يعد تربطه بالعمل الإداري أيُّ صلة، وهو الذي دفع بملفِّ تقاعده إلى أمين شؤون الموظفين، ولكنَّ رجلَيْهِ تقودانِهِ لسبب مبهم، كل يوم إلى مرفق الإدارة، فيمر بذلك الزقاق المُترِب، ثم يعبر طريقًا متعرِّجة، ثم يلوي يمينًا، ليصعد على درج عال، ليجد نفسه في وسط الإدارة. ويتساءل: أليس هذا مكتب البريد؟! فيقول له زكي الحارس: إنه هو.

كان العم أبو نضال يجد نفسه في تلك الأشياء القديمة التي غادرها، فهناك يستطيع رؤية تلك الأشياء من جديد، فيلحظ أن في ذلك الزقاق تعيش أرملة لا أحد لها، وهناك في منتصف الشارع توجد طفلة عمياء فقدت أباها في الحرب، وهناك عند مدخل الزقاق يعيش ثلاثة إخوة أيتام، والأدهى أن هناك عند تقاطع الشارع الفرعي، توجد حديقة صغيرة، قلَّما كان يشاهدها في طريقه. لقد كانت الحياة تبدو له الآن أكثر جمالًا ومتعة من ذي قبل، ولذلك عكف على مساءلة كل قديم؛ إذ تأتيه منه إجابات سريعة، تتناغم مع مكونات ذلك الماضي التليد، ولذلك أيقن أن كل شيء كان قد خلع عليه قبسًا من روحه هو له وحده .. هو ملكه وحده، وأن كل ما بقي له من حياته الآن تبدأ دورته من تلك الأشياء التي ألفها، وانسكبت فيه رؤية وحنين.

وكم من أشخاص لم يكن ليتفاعل معهم، أصبح الآن وكأنه يراهم لأول مرة، فهذا جهاد صاحب المكتبة القرطاسية، صار وجهًا مألوفًا لديه، يجلس بمكتبته يرتشف الشاي، وتلك المرأة بائعة الفجل التي لم يكن لِيُعِيرَها اهتمامًا صار الآن يُلقِي عليها التحية، لقد اكتشف العم أبو نضال أن قيمة الأشياء القديمة في أنها صنعت ذاكرته في يوم ما.

 لقد بدأ العم أبو نضال يلتمس طريقه إلى الحياة بصخب، وتراه الآن يبدو أكثر انسجامًا عندما ينغمس بتلك الأشياء العتيقة، فتقوده قدماه بصورة لا إرادية ليقف أمام بوابة إدارة البريد التي قضى فيها أكثر سنوات عمره .. وهو يمتلىء شبابًا وألفة.

  • المصدر
  • مجلة حضرموت الثقافية العدد 26 –  ص 107
  • رابط تحميل العدد:

https://hadramout.center/magazines/7596