إبداع
بشرى شيخ
بكت رويدا ذات ليلة، فرأيت دموعها على حين غفلة، فسألتُها عن سر بكائها، فأجابت بوجه شاحب منتفخ أحمر: آه آه آه، فرجاءً يا رجاء اتركيني لبرهةٍ، فأنا متعبة ولا أريد التحدث مع أحد، عاندتها وتربعت في الغرفة، وظللتُ أنظر لساعة يدي، مرت الدقائق والصمت ما يزال مسيطرًا، ولكن في لحظة سمعت عبارة مختلطة بتنهيدة طويلة، فاهتزت منها جوانب وجداني، وسرت قشعريرة في جسدي، وقلبي بدأ ينبض على غير عادته حين قالت: رجاء، لقد تمكن ذلك الداء مني، وأصبحت فريسته التي أكل منها، رجاء، أرجوكِ لا تخبري أمي وأبي، ولا ابنتي، ولا حتى سماح صديقتي، حملقت عيوني وتهت في ملامح وجهها، وأصبحت تارة أنظر لزوايا النافذة، وتارة في جسدها المتعب، فلساني أُلجمت واختفت منها كلماتي، ولا أدري هل أصرخ أم أصمت؟ وكل جوارحي تنادي ما فعلْتِ بنفسك يا أخيتي، ما فعلْتِ بنفسك حتى تمكَّن منكِ؟، وابتعدتُ عنها قليلًا، فقد بدأ ثاني أكسيد الكربون يخنقني، حاولت أن أزفره لكنه متشبث في صدري، والأكسجين أبى أن يأتيَ، طأطأتُ رأسي وأنا أتمتم بلا لا لا، وبعد لحظات نظرت ناحيتها رأيتها قد تكوَّمتْ حول نفسها من شدة الداء والألم، حاولت أن أنادي مَنْ ينقذها لكنها حذَّرتني ولا تريد أن يعرف بدائها أحد، وقد حان وقت مغادرتها لهذه البلدة تاركةً خلفها قلبي المنكسر من هول صدمته الذي تركته بسهام كلماتها، ولكن ما خفف صدمتي رويدًا عندما أخبرتني بأن زوجها يعلم داءها، وودعتها في ليلة اكتمال القمر، وأظلمت من بعدها سحائب ديرتي، وكل مرة أحادثها أنهار بعدها ويضعف نبضي، وابنتها كاسرة خاطري، رضيعة لا تدري ماذا حل بأمها، تمنَّتْ أن تشرب من حليب أمها وحنانها، ولكن الداء كان حاجزًا بينهما، وفي ذات يوم علمت أمي بدائها، فصرخت صراخًا دوَّى في العلن، وانهارت حصون أبي العاتية، وأصبح ملازمًا للسكن، خائفًا ذليلًا على رويدا من ظلمة الحياة وسوادها، والنوم قد جافَى عيوننا، ومرت الأيام والليالي ونحن نعاني من ألمها ونبكي من بكائها، وفي تلك الليلة صحت بنت رويدا تبكي بكاء حتى الجدار لو كان عنده عيون لبكى، وهطلت السماء بدموعها وكأنها تريد إخباري بشيء ما، فاحتضنتها وأنا أقرأ بعض الآيات وأنظر إلى ساعة الجدار، وأتمتم: ما بال الساعة لا تتحرك مثل عادتها؟ وبعد برهة أصبحت..
الساعة الثالثة
فتلتها الثالثة والنصف
ثم الثالثة وأربعون دقيقة
وفجأة أصبحت الرابعة والنصف
وانفتح الباب وعلا الصراخ، نهضت لأرى الخطب فإذا بي أرى منظرًا يا ليتني لم أرَه فقد أدخلت جثة رويدا التي يكسوها البياض مع بدايات الفجر، وأسدل الحزن ستاره في الحادي والثلاثين من ديسمبر، ليطوي مع نهاية عامه قصة رحيل رويدا الحزينة، التي غادرت بعد معاناتها مع دائها الذي تأخرت كثيرًا عن علاجه، ولم تخبر أحدًا به إلا عندما تمكن منها ألا وهو سرطان الثدي.