نقد
أ. محمد عبدالله بن حيدرة
الوطن في شعر علي أحمد بارجاء
كلية الآداب- جامعة عدن
الملخص:
تسعى الدراسة بالرصد والقراءة والتحليل إلى الكشف عن مضامين الوطن في شعر علي أحمد بارجاء واستجلائها؛ إذ مثَّلَ الوطن قيمة عليا في نفس الشاعر، وظَهَر جليًّا، واحتل حيزًا فسيحًا في منجزه الشعري، وهو نابع من حب وجداني صادق، سعى الشاعر لإبراز هذا الحب الجامح، وإظهار حنينه وعاطفته ومشاعره بنبرة شعرية تشعُّ حرارة وحبًا، يرتوي من نوره ما يكفل له الاعتزاز والفخر بوحدته وتلاحم أبنائه وصبرهم وحكمتهم، يتبدّى في شعره أنّ لوعته على الوطن والخوف عليه لم تقف عند حد الأنين والتوجع، بل تجاوزته إلى تعرية الواقع مصوِّرًا تشوهاته وذبوله، في استقراء للواقع بوعي، ترفده خبرة تمتح من المعطيات التاريخية والدينية، تصهرها الذات الشاعرة في بوتقة من الرؤيا الجمالية والفكرية الرافضة والساخطة، بما يبعث في الحدث لحظة شعرية، انقدح فيها لهب الحلم وروح الاستشراف والرؤية الحالمة بمستقبل يشع بالأمل.
الكلمات المفتاحية: الوطن، الشعر الحديث، علي أحمد بارجاء.
المقدمة :
الوطنُ حُبُّه شريعة، وأمنُه وديعة، ترابه الملاذ الآمن، الذي يكتنف أبناءه، ويحفهم بالأمن والأمان، الوطن جوهرة مكنونة في نفوس أبنائه، وتربته وهواه وفيافيه نبعًا ثريًّا ينهل منه الشعراء مادة تكتنز بطاقة الإبداع؛ إذ وجدوا فيه ضالتهم من صور الفخر والألُفة والانتماء، واستشعروا في ذرَّاته طاقة جذبٍ عارم، يجتاح وجودهم، ويستقطب أفئدتهم، فعاشَ في أفئدتهم، وعاشوا تحت أفيائهِ، يؤثرون مرارة ما فيه على حلاوةِ ما في سواه.
تبدأ أواصر علاقةُ المرءِ بوطنه مُنْذُ ولادتهِ، فتنشأ لديه تعالقًا روحيًا، وارتباطًا مشيميًا برحم الأرض التي اكتنفتْه بدفء ذرَّات رمالها؛ لذا يُولَدُ حبُّ الوطن مع ولادة المرء على أرضهِ، وينمو ويتكون هذا الحب لحظيًّا، يُغذّيه بدفء ثراه، ويسري هواهُ فطريًّا في الأحشاء مسرى الدَّمِ في الشَّرايين.
وقد عُرِفَ الإنسان العربي بأنّه كثير التعلُّق بوطنه، يدفعه الحب والحنين، فـ “كانت العربُ إذا غزت أو سافرت تحمَّلت معها من تربة بلدها رملًا وعفـرًا تستنشقُه”(1)، هذا الحُبُّ والحنين إلى أوطانهم، وجزعهم عن الرحيل عنه حبًا أو كراهة، إنْ يدلّ فيدل على شعور صادق، وارتباط وثيق بهذا الثراء؛ لأنَّ ارتباط الإنسان بالأرض أوثق ما يكون في تعلقه بوطنه وهو مقيم في حماه، وفي حنينه إليه وهو ناء عنه(2) ، تتراءى أمام عينيه صورةُ وطنه في حِلِّهِ وترحاله، فلا ينسى موطنه القديم مهما كانت حاله فيه فيرى في الغربة كربة وعذلًا.
والشعر العربي ما هو إلَّا انعكاس لطبيعة التفاعل الروحي بَيْنَ الشَّاعرِ وأرضهِ حين تشترك مكنوناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في تخصيب ذلك التفاعل، فالشعر لا يعدو أنْ يكون صياغة فنية لتجربة شعرية مُميَّزة، تحاولُ أنْ تَنقُلَ لنا الواقع، ولكن برُؤى وتصوُّرات متباينة.
وبما أنَّ الشاعر أرهفُ إحساسًا، وأرقُّ عاطفة من غيره؛ فإنَّ الوطن أعظمُ حُضورًا في وجدانه، وأَوسعُ امتدادًا على مساحة وجوده؛ إذ يتجذَّر ارتباطه بموطنه، ويحتل قيمة عليا في نفسه، وهذا ما ظَهَر جليًّا في شعره علي أحمد بارجاء، الذي يحمل رؤى ومواقف ذات بعد أخلاقي يحيل إلى تصوراته نحو ذاته وشعره وواقعه، وهو نابع من حب وجداني صادق، حَظي باهتمام كبير مِنْ لَدُن الشاعر، واحْتَلَّ مساحة واسعة ومهمَّة في دواوينه، أظهر فيه قدرة فائقة في استثمار أدوات إبداعه الفني في إعلاء صوت الوطن، ونشر محبَّته في القلوب، مُبرِزًا مصائب شعبه ووطنه ومشاكله السياسية والاجتماعية، مُنغَمِسًا في واقعه الراهن في تفاعل شعوري وجداني وفكري، ينشُد فجرًا جديدًا كلَّما هبَّت عليه رياح الزمن الجميل، متطلِّعًا لغدٍ جميل يعانق الرقيّ والسموّ.
التمهيد:
أولًا: علي أحمد بارجاء
علي أحمد عبداللاه بارجاء، ولد بمدينة سيئون بمحافظة حضرموت في 19 فبراير عام 1962م، شاعر وكاتب وأكاديمي وباحث يمني، اعتنى بتوثيق التّراث الشعبي الحضرمي وجمعه ودراسته، صدر له عدد من المؤلفات في مجال الشعر.
تخّرج بارجاء في قسم اللغة العربية بكلية التربية بمدينه المكلا عام 1988م، تخصّص اللغة العربية وآدابها، وعمل مدرّسًا بقسم اللغة العربية بمعهد إعداد المعلمين بسيئون، ثم نال درجة الماجستير في الأدب والنقد من جامعة حضرموت عن رسالته الموسومة بعنوان (الأدب العربي في المهجر الشرقي، إندونيسيا وسنغافورا من عام 1900م إلى1967م)، ثم عمل معيدًا بقسم اللغة العربية بكلية التربية بسيئون بجامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا.
تقلّد الشاعر بارجاء في مسيرته الحافلة بالعطاء عددًا من المهام والمسؤوليات، أبرزها مسؤولًا لدائرة الفكر والثقافة والإعلام والتربية بوادي حضرموت، ومسؤولًا ثقافيًا لجمعية الأدباء الشباب بسيئون، ومديرًا عامًا لمكتب وزارة الثقافة بوادي حضرموت منذ 1999م، ومسؤولًا ثقافيًا لشعبة سيئون لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ثم رئيسًا للشعبة، ثم انتخب رئيسًا لفرع وادي حضرموت لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين في فبراير2001م، وعضوًا للجنة حصر الدّان الحضرمي وجمعه وتوثيقه، والمشكّلة من وزير الثقافة في نوفمبر2019م تمهيدًا لتقديم ملف الدّان الحضرمي لمنظمة اليونسكو؛ لإدراجه ضمن التراث العالمي اللامادي للبشرية، كما أسهم في إعداد برامج ثقافية وأدبية وتقديمها في إذاعة سيئون، أهمها: مجلة الأدب والثقافة، والمنتدى الثقافي المباشر، وكِنْدي شاعر الوطن والاغتراب.
حاز بارجاء عددًا من الجوائز والشهادات التقديرية من خلال نشاطه في المجالات الثقافية والأدبية، منها: المرتبة الأولى في المسابقة الشعرية التي نظمها قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة صنعاء بتاريخ 8 إبريل 1997م، والمرتبة الثالثة في المسابقة الشعرية لمجلة (تراث) الصادرة عن (نادي تراث الإمارات) في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، عام 2000م، بقصيدة (نبضٌ تحاول صوغَه الأفكارُ).
لقد كان للشاعر بارجاء عددٌ من المشاركات في الميادين الأكاديمية والثقافية والنقدية؛ إذ قدّم عددًا من المحاضرات الأدبية في منتدى الأربعاء لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بدار الأديب علي أحمد باكثير، وفي مجال الشعر شاعرًا وناقدًا فذًّا شارك في عدد من الملتقيات الشعرية، منها ملتقى الشعراء الشباب العرب الأول: المنعقد في صنعاء 2004م، والثاني: المنعقد في صنعاء 2006م، ومهرجانات الأدب اليمني: الأول في صنعاء 1997م، والثاني في صنعاء 2001م ، والثالث في المكلأ 2004م ، و الرابع في عدن 2006م، التي تنظمها الأمانة العامة لاتحاد الأدباء و الكتاب اليمنيين، كما شارك في يوم الأديب اليمني المنعقد في عدن 2007م، وشارك في لجنة تحكيم مسابقة (شاعر القطن) في دورتين، الأولى عام 2007م، والثانية 2008م، وشارك في عددٍ من المحافل الدولية، منها المشاركة في الأسبوع اليمني في العاصمة الجزائر أثناء فعاليات الجزائر عاصمة للثقافة العربية في فبراير 2007م.
ويشير الأديب محمد القعود إلى مسيرة الشاعر بارجاء قائلًا: “تميّزت مسيرته الأدبية والعلمية بالعطاء الثقافي والإبداعي المثمر والمبهر، المتعدد الجوانب، والتي توضح مدى قدرات ومواهب وإمكانات الأديب والمبدع والمثقف والشاعر والباحث الأكاديمي ومنجزه الأدبي والثقافي”(3) . فقد ألّف بارجاء أربعة دواوين شعرية، “رَوَاء”، و”أشرعة الروح”، و”رد نجمي في سماك”، و”العش الصغير”، وستة كتب أخرى هي “الدّان الحضرمي دراسة تاريخية وصفية” و”في تاريخ الأدب والتراث الشعبي دراسات وأبحاث”، و”الشاعر الحكيم أبو عامر”، و”من أدب النخلة”، و”المعجم الهادي إلى لهجة الوادي”, و رسالة ماجستير قدَّمها عن “الشعر العربي في المهجر الشرقي…”.
أما وفاته فقد كانت يوم السبت 7 مارس عام 2020 للميلاد، بعد صراع مرير مع المرض في أحد مستشفيات القاهرة، تاركًا بصمةً علميةً ومحبةً أكيدةً في قلوب من عرفه وقرأ وسمع له.
ثانيًا: الوطــــن
وطن المرء أولُ بقعةٍ يصافحها لحظة ولادته، وأطهر مهدٍ يعتنق وجودَهُ، وأَدْفأُ حضن يحتوي كيانه، وأَعذبُ نَهر يروي ظمأ حنينه، فينبض قلبه بالوطن شعورًا بالانتماء، وارتباطًا وجدانيًا بأهلٍ وأحبَّةٍ، وتعلُّقًا حيويًّا بحضارة وقيم وتقاليد وعادات تجعل من الوطنِ هوية الإنسان.
الوطن لغةً: “محل الإنسان، وأوطان الغنم؛ أي مرابضها. وأوطنتُ الأرض، و وطّنتُها توطينًا، واستوطنتها؛ أي: اتخذتها وطنًا، والموطن المشهد من مشاهد الحرب. قال تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ)(4). قال طرفة:
متى تعترك فيه الفوارس ترعد على موطن يخشى الفتى عند الردى”(5)
وقيل: “الوطن: المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله، والجمع أوطان، وطن بالمكان وأوطن: أقام، وأوطنه: اتخذه وطنًا. يقال: أوطن فلان أرض كذا وكذا؛ أي اتخذها محلًا ومسكنًا يقيم فبها”(6).
أما الوطن اصطلاحًا: “هو البلد الذي تسكنه أمَّةٌ يشعر المرء بارتباطه بها وانتمائه إليها”(7). وهو “الأرض التي ولدت فيها، وترعرعت على كنفها، وعشت في خيراتها، وهو منزل الإقامة، والوطن الأصلي: هو مكان الذي ولد به الإنسان أو نشأ فيه”(8).
إنَّ “الوطن رابط عريق، فله ماضيه وتراثه، وله حاضره ومستقبله، وله اتصال بالعقيدة والأرض والعادات والتقاليد، ووحدة الفكر والشعور، جمع بينه أرض واحدة وأشكال متقاربة؛ كونهم بيئة واحدة، ظروف متشابهة، فيكون هدفه واحدًا… يفتخر كل منهم بانتسابه لوطنه”(9)، وذلك مما جعل الإحساس بالانتماء إلى الوطن يتنامى تناميًّا لحظيًّا بشكلٍ يجعل الإنسان بصورة عامة الشاعر خاصة يرتشف محبته، ويتنفس هواه، ويستشعر حضوره في حلِّهِ وترحاله، ولعلَّ أصدقَ دليلٍ على ذلك ما تفرزه تجربة البعد والغياب عن الوطن من إرهاصاتٍ نفسيةٍ، وتجاذبات شعورية تحت وطأة الظروف الاختيارية أو القسرية التعسفية؛ لأنَّ الشَّوقَ والحنينَ إلى الوطن متجذّر في النفس الإنسانية، مستقر في أعماق الذات، لا يوهنه الحدود والتقسيمات الجغرافية، ولا تقطع أحوال وطنه وأزماته، ألف مع حبه البكاء فرحًا أو شوقًا أو قهرًا، ومتى شفه الشوق إليه شكا.
وقد عُرِفَ الشاعرُ علي أحمد بارجاء بحنينهِ إلى وطنهِ، وانتمائه إلى أرضهِ، وتشبُّثهِ مهده الأوّل، ومرابع صباه، ومستودع ذكرياته، فكان الوطنُ نُصْبَ عينيه وشُغْلَهَ الشَّاغِل، يرجو أن يرنو إلى العليا؛ ويرجع ذلك إلى أن أرض اليمن السعيدة تقاسي الحروب والحوادث والأزمات التي شهدتها والتي توالت أبّان، فكانت مهمة الشاعر في ذلك كُلِّهِ حمل القلم، وإطلاق الصوت لإيصال رسالته عن طريق الشعر بأساليب فنية تكتنزُ بالجمال، غير متوانٍ في بث النُّصحِ والإرشاد، ورفع الهمم من أجل الارتقاء بالوطن، مشعلًا به شمعة التنوير في وجه العدو الداخل المتمثِّل بالظالم والتهميش لأبناء الوطن، أو الخطر الخارجي وما يبثه من سموم الفرقة والشتات والوهن.
إنّ القصيدة عند بارجاء لم تعد فعلًا كتابيًا تشكله الأحرف الأبجدية؛ بل غدت وطنًا يسكنه، وقصيدة تسكن الشاعر، هذه المساكنة أنجبت وطنًا يوتيوبيًا هو وطن القصيدة الذي يتمثله الشاعر ويطمح للعيش فيه، ومدمنًا في ممارسة معانيه.
المضامين الوطنية في شعر علي بارجاء:
الوطن هو التراب الذي يأنس به الإنسان، وتطمئن فيه جوارحه، فهو قلبه النابض، واللحن الذي يزين أنشودة حياته، ينسب إليه كما ينسب لأبيه وأمه، وحب الوطن جوهرة مكنونة في صدور الصادقين، وليس هتافات في حناجر المتملِّقين.
نظم الشاعر علي بارجاء في حب وطنه، وترنم به في أبيات قصائده، وقد سعى لإبراز هذا الحب الجامح في شعره، وإظهار عاطفته ومشاعره بنبرة شعرية تشع حرارة وحبًا، فنجده يتغزل باليمن كما يتغزل الفتى الولهان بمحبوته الفاتنة، من أجلها يُحبّرُ شعرًا يملأ الدُنى بنغمه المرهف وإيقاعه الرنان، يتغلغل من فؤاد عاشق لوطن شائق، ارتوى من خيره، وأينع حتى بلغ به التعلّق حد الهيام، فيقول(10):
| لك يا بلادي أكتب الأشعارا لا | وأذيعها في العالمين جهارا | |
| لا أستحي إن قلت فيك قصيدتي | حاشاي أن أبدي لك الإنكارا | |
| أنتِ التي أنبتي غصن محبتي | ورويته وملأتيه أثمارا | |
| أسرفت فيك محبة وجعلتها | حكرًا عليك ومذهبًا وشعارا | |
| وجعلت حبك عادةً لا تنتهي | كالشّرب لم تترك لدي خيارا | |
| لا تستقيم قصيدتي إن لم تكن | تلك القصيدة تُذهل الأحجارا | |
| إن لم تكوني فالقصيدة فلتكون | أنت القصيدة محتوى وإطارا |
يعبر الشاعر في هذه النص الذي عنونه بـ”أنت القصيدة” عن إحساس صادق بمحبة الوطن، فلم يكن هذا الهيام نابعًا إلا من نفس وطنية عاشقة لليمن السعيد عشقًا أبديًا لا ينتهي ولا يضمحل؛ ذلك أن حبه يفضل عن كل حب آخر، كالماء لا يعدله سواه أهمية عند الإنسان، وأنّه هو وحده المتن والعتبة، التي تتشكل منه قصيدته الشعرية وتشع به رونقها، ويلاحظ أن هذه القصيدة اتسمت بوحدة الفكرة وحرارة العاطفة وقوتها، وتميزت بجرس موسيقي، وخاتمة نصية تمثل “قاعدة القصيدة؛ لكونها محكمة لا يأتي بعده أحسن منه”(11).
وفي قصيدة أخرى يتبدّى محمّلًا بالتحايا والحب الخالص الحالم بأن ينعم وطنه بالأمن والاستقرار، وتضمد أوجاعه وجراحه ويكتسي بالهناء والرخاء، فيقول(12):
“وطني الحبيب
تحية
لا شيء أجمل من أن تكون كما أريد
كن هادئًا
كن هانئًا
البس رداء العافية
لك من أحبائي السلام
ولك السلام وخالص الإخلاص مني”.
وفي نص آخر نجد الشاعر في يعبر عن حب صادق مغروس في قلبه يعكس ارتباطًا عاطفيًّا عميقًا بالوطن قد نما منذ أن وطِئَ ثراه ليكون ملاذه الآمن والدافئ، يكبر وينمو بهذا الحب الذي يغذي أحلامه وآماله بوطن سعيد مجيد، فيقول(13):
“أيها الوطن السعيد
لا شئ أجمل منك يا وطني
أنت الذي الذي استقبلتني في ساعة الميلاد
حضنا دافئا
و على ترابك كنت أكبر كل يوم
تكبر الكلمات في جملي
و تكبر أنت في أملي
و تكبر فِيَّ
أكبر فيك
مُذ جاء المعلم ذات درس
حاملًا علمًا
و دَّون أحرفا في اللوح
قال لنا: انطقوا .. و طن
وقال لنا: اكتبوا .. وطن
وقال لنا : انشدوا .. وطن
و كان نشيدنا لك موعدا لمحَّبة لا تنتهي”.
هذا الحب الفطري الجميل والصادق في ألفاظ الشاعر واضح وجلي، فهو يترنم باسم الوطن الموجود في وجدان كل أبناء الوطن المخلص والوفي، فهو أول ما نطقت به شفاههم، وخطت به أقلامهم، وصدحت حناجرهم بنشيده حبًا لا يفنى ولا يتزعزع، هذا الحب الذي شكل جذورًا لإبداعه الشعري؛ إذ تعلق الشاعر العاطفي والفكري بوطنه، يسهم في إثراء قصائده بالمعاني العميقة والصورةالجميلة الصادقة.
إن موضوع الحنين إلى الوطن من القضايا التي زخر بها الشعر العربي فـ”منذ القدم ارتبط الشوق والحنين بالوطن، فصار الحنين إلى الأوطان شائعًا في كل العصور، سواء للوطن والقبيلة أم الشعب والأمّة الكبيرة، وسواء أكان مسقط رأسه أم لم يكن، فالحنين إلى الأوطان انتماء وولاء وحبّ”(14)، فالاشتياق للوطن والحنين إليه من أكبر العوامل التي تسهم في تأجيج قريحة الشاعر، فيهلهل لسانه بفيضٍ من المشاعر والأحاسيس، تتوشح بعاطفة وجدانية صادقة، ويجسد علي بارجاء ذلك في قصيدة له بعنوان” زمني لست أنت”، فيقول(15):
“زمني أثقلته التجاعيد
و الراحلون على متنه متعبون
زمني كان لحنا تردده الأوردة
زمني اليوم منحدر
زمني يتصحّر”.
فالمتأمل في القصيدة يخلص إلى أن زمان القصيدة غير منفصل عن مكانها أو ما يسمى “الزمكان” فـ”هيمنة الزمن مكانًا غائبًا حاضرًا ممتد يمثل مسرحًا لهذه الأحداث كلها هذا المكان هو: الوطن، حتى ليصح دلاليَّا استبدال كلمة زمني بكلمة وطني”(16)، فالشاعر يحن إلى زمن/وطن جميل لطالما لهجت به القلوب مُردِّدةً حبه ومجدة، أضحى يهوي إلى ذبول ووهن، فذات الشاعر تحن لماضي الوطن في حرقة وإعياء، فيقول(17):
زمني :
هل تعود كما شاء طفلي
مورقا و بهيا؟
العصافير عند مداخل فجرك
تنتظر الأغنيان”.
وفي نص أخر بعنوان “في الريف” يُستشف حنينها من خلال سرد ذكرياته الجميلة التي احتضنها ثراء وطنه:
| كالفــــــــــــراشـــــــــات i iلعبـــــــــــنا لا | و شــــــــــدونا i iكالبلابـــــــــــــــــــــــــل | |
| وجــــــــرينا جــــــريان i iالمـــــــــا | ء عــــــــــــــذبا فــــــــــي i iالجــــداول | |
| ورقصنا وابتهجنا | كعصــــــــــــــافيـــــــــــــر الخمائـــــــــل | |
| وظللنـــــــــــا فــــــــــــــي صفـــــــــاء | نعقد العشـــــــــــق i iجــــــــدائـــــــــــــل | |
| قبلتنا الـــــــــــــــــــــدوح وجـــــــــــدًا | واستضــــــــافتنا i iالسنابــــــــــل” (18) |
يتبدّى الحنين إلى المكان الذي حوى أيام الشباب والصغر والأوقات الجميلة التي مرت عليه في ثراء الريف، الذي هو أجمل بقاع الوطن، وأكثر البواعث الطبيعية المعينة لقول الشعر، فنرى الشاعر يحن إلى الأمكنة وذكريات الصبا المفرحة المفعمة بالحب والغرام وتساقي الود في حقول وطنه، واللحظات السعيدة التي أمضاها مع محبوبته في تناغم ووئام متبادل، فيقول(19):
| كان قبي لحبيبي لا | كُلَّـــــمـــــــــــــــــــا كَـــــــــــــلَّ وِسَــــــــــــادة | |
| كنـــــــــــت أســـقــــيـــــــــــــــــــه i iودادي | وهـــــــــو يسقينــــــــــــــي i iفــــــــــــــؤاده | |
| وكـــــأن الحقـــــــــــــــــــــل i iصـــــــــــــدر | فوقـــــــــــه نحــــــــــــــــــن القــــــــــــلادة | |
| قـــــال لـــــــــــــي و هـــــــــو يـــــواري | فـــــــــي حيــــــــــاء مـــــــــــــــــــا أراده: | |
| ألنــــــــا فـــــــــي الحـــــــــــــب i iأشبـــــا | هٌ فتـــــــى صــــبٌّ و غــــــــــــــــادهi i؟ | |
| قلــــــــــت كــــــــلا يـــــــــــــا i iحــبـيـبي | فلنــــا نحــــــــــــــــــن i iالريـــــــــــــــــــــادة |
ضمير الشاعر ضمير الشعب والإنسان اليمني ينصهر في الفنان، وهكذا يبدو الشاعر بارجاء جزءًا من واقعة، واقع اليمني الذي أثقلته الغربة الطويلة عن وطنه بالحنين والشوق والألم، فيصور تلك المأساة في نص له بعنوان “محاولات لالتماس التوبة”، فيقول(20):
“عــاد إلــى وطنــه بعــد غيــاب طويــل اســتقبله
أخــوه فــي المدينــة عــادا إلــى قريتهمــا و عنــدما أطــلا
على القرية وقفا و دار بينهما هذا الحوار:
_ ما هذه الأصوات ؟
_ هذي زغردات !
_ ما الأمر ؟ عرس ها هنا !
أم عاد مغترب إلى أطفاله بعد الشتات؟
أم أنَّ أُمًّا حاملًا وضعت؟
يستهل الشاعر قصيدته بعتبة نصية تتمثَّل في تصدير ذاتي قبل الولج إلى متن القصيدة بفقرة تعكس دلالات واقع مرير متكرر (عاد إلى وطنه، غياب طويل) ما أكثر مشاهد العائدين من وجد الحنين في هذا الوطن، وما أطول الغياب عنه، مشهد متكرر في حياة اليمني يبدأ بزغردات تعلو في (العودة/ الميلاد، العُرس) ويختم بالبكاء والألم متمثّل في (الغياب، الموت، الفراق)، مشهد يخيّم عليه الحنين والوجد، ما يكاد ينفك عن ساكني هذا الوطن المصلوب.
“مذ غادرت قدماي هذي الأرض
لم أفرح كهذا اليوم
_ لم تفرح !؟
_ وإن حاولت داهمني شعور بالبكاِء
الحزِن
و الملِل الرهيب
أذكر قريتي”(21).
ما برح الحنين إلى الوطن يضني الشاعر فلا يتراءى له فرح، معشّش في حنايا الأسى والحزن، كل ما تسعفه الذاكرة من صور هي انعكاسات لوطنه وساكنيه، سرعان ما تحيله على البكاء، وهكذا؛ فالغربة والحنين من المثيرات النفسية التي تثير كوامن الإنسان الداخلية، فبعد الشاعر عن وطنه وإحساسه بمعاناة بني جلدته يحرك قريحته الشعرية، وهذا ظاهر جليّ في دواخل النص.
لاشك في أن أمجاد الوطن وإرثه وما سطر أبناؤه من منجزات تثير لدى الشاعر مبعث الفخر والاعتزاز بوطنه وساكنيه، فينسج فيه أجمل القصائد التي تنبعث من حب وإكبار وإجلال لملاذه ومبعث فخره، فيقف في نص له بعنوان “اخضرار الزمن” مفاخرًا بوحدة الوطن وتلاحم أبنائه الذين ضربوا أنموذجًا للتكاتف والوئام ووحدة الصف، مفاخرًا بأبناء وطن العلم والإيمان والحكمة، أهل الخشوع ورقة القلب والانقياد في الحق:
كل من حَـــــــلَّ في السعيـــــــــــدة خِــــــــــــــــلٌ لأخيـــــــــــــه حاشــــــــا يكـــــــــونون خَـــــــــــــــلاَّ
فهُـــــمُ أهــــــل حكــــــمة وقلــــــــــــــــــــــــــــــــوب رقيقــــــــــــــة أنــــــــــى يحطُّـــــــــــــون رَحـــــــــــلا
إن أبناء حجة اليـــــــــوم فـــــــــي شــــــــــوق للقيــــــــــــــــــا إخـــــــــــــوانهم فـــــي المكُــــــــــلَّا
والمـــــــــقيمـــــــون فــــــــــــــي المخــــــــــــــــا لا يطيقون بعادا عـــــــــن أهلـهـم فـي المعُــلَّا
هكـــــــــــــــذا ظـــلَّ دأب أبناء قومــــــــــــــــــــي لايــــــــزالـــــــون أقربـــــــــــــاء وأهـــــــــــــــلا”(22)
استحضر الشاعر من خلال أحد الأبيات “فهم أهل وقلوب رقيقة… الحديث الشريف وذلك مما جاء في صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة، الإيمان يمان، الفقه يمان، والحكمة يمانية”(23)، إذ أضفى الشاعر على البيت المعنى نفسه الذي يحمله الحديث، مشكّلًا تعالقًا وتفاعلًا مع الحديث على مستوى الدلالة، فاختيار المرجعية الدينية زاد من بلاغة القصد وتأكيده، الذي يصبو إليه الشاعر، وهو شدة حبه واعتزازه وفخره باليمن وأهله.
وفي قصيدة له بعنوان “الَّصاِبرون” يكرر فخره بصبر وثبات أبناء وطنه الذين طالت بهم الآلام والأحزان حتى أضحت سمة طبعتْ حياتهم القاسية، لكنّهم مع ذلك شعبٌ تحمَّل الظروف الصعبة من أزمات وحروب ودمار واغتراب وتشريد وفقر…؛ شعبٌ متسلح بالآمال والطموحات دك بها صخور التحديات متسلحًا بمفتاح الصبر، فيقول(24):
“آمالُنا تنُبتُ في الصَّحَارَى
لأَّنها لا تعرف المطر
أحلامنا تزور في الهجير
لأَّنها لا تعشق القمر
أحزاننا الكثيرة الكبيرة
تطول في حياتنا
لأنَّنا بشر
لكَّننا في قُّوَّةِ احتمالنا
نعلِّم الحجر
و سوف نبقى أُّمةً فقيرة
لأنَّنا …
أعظم من َصَبر !!!”.
في نص له بعنوان “شموخ”، يقف مفتخرًا بشجاعة وقوة شعبه، إذ يحيل عنوان النص من الوهلة الأولى بفخر الذات بشيء جليل في القلب وأيّ شيء أعز على الإنسان من وطنه وشعبه الأبيّ، ليصيغ فيه أبيات مرصعة بالدرر، لشعب سطّر ملاحم البطولات منذ القِدَم، فهم أهل الحرب والكر إذا ما دعا داعي الفداء لبّوا النداء، فلصانعي الأمجاد لأبناء ذي يزن تُسرج الصافنات الجياد، ولمثلهم يقف المجد احترمًا، فيقول(25):
| عـــــــــرف الحصـــــــــــان طريقه فتقدمــــــــــــا لا | و مضــــــى إلى العليا يــــــــــــــريد الأنجما i iالأنجمـــــــا | |
| يعـــــــــــدو كأن الريـــــــــــح بعض i iصهيلــــه | قد ألـــــــــهم النبــــــل المضـــــــــي و i iعلمــــــــــا | |
| مــــــن يعتلي ظهـــــــــــر الحصــــــــــــــان i iفإنّ | يرقـــى، فما عثــــــــــــــر الحــــــــــان و أحجمـا | |
| إن الحصـــــــــان إلــــــــــــى الحصانة تــــــوأم | فكلاهما حصــــــــــــــن يظُّـــــــــــل i iمحرمـــــــــــــــا | |
| إلا علــــــــــى الفرسان من أبنـــــــــــــــــــــاء i iذ | يـــــــــــزن يكون إلى المعالـــــــي i iسلمــــــــــــــــا | |
| أو ما أريــــــــــــــــــــــــت شموخــــــــــــــــــه فكأن | في هيبــة يلقـــــــــــي التحيـــــــــــة للسَّمـــــــــــــا | |
| أو أنه وقــــــــــــــف احترامـــــــــــــا عندمــــــــــا | جئنـــا إليه محييـــــــــــــــــــــا و i iمكـــــــــــــــــــــرمــا | |
| و يقــــــــول بالأحضان يا مــــــن i iجـيتـــتـــم | فالشـوق في القلب المحب i iتضــــــــــــــــــــرمــا | |
| هذي السّـــــــــــــروج تخيروا i iصـــــــــــــــهواته | وامضوا فإن الخير ثمة قد نمـــــــــــــــــــــــــــــــى |
إنّ قضية واقع الوطن ومستقبله من القضايا التي اعتنى الشاعر العربي بالتعبير عنها من وقع مشاعر جياشة، سواء كانت هذه المشاعر فرحًا أو أسى أو حزًنا أو حنينًا، فيكون بذلك شعره مرآة للواقع الذي يعيش فيه تعكس التأثر والتأثير والانفعال والتحوير، غير أنّها لا تقف عنده بل تتجاوزه لاستشراف الآتي وتصور القادم.
إنّ علاقة الإنسان بواقعة علاقة لصيقة منذ وجوده في هذه الحياة، تتشكل من وقع التأثر التي تتجسد في مواقفه ولغته وتصورات، وتكريم الله للإنسان بالعقل إنّما ليتفكر في حاله وواقعه ووجوده؛ حتى يقوم بفهم واقعه، وهو الدور الجليل الذي يقوم به الشاعر النبيل، يفتش عن قيمة واقعه، باعثًا فهم الحاضر واستشراف المستقبل، والشاعر بارجاء في مسيرته الشعرية ما برح يلامس واقعه، ملتزمًا برسالة الأدب وماتحمله من خير وقيم وجمال؛ ففي تجربته الشعرية تتكشف خيوط انغماس الشاعر في تأمل واقعه وتفحصه.
إنّ من يقرأ شعر بارجاء يجده طافحًا بالهمِّ الوطني فقد مُلئ وعُجن، فجنح إلى وضع الواقع السيئ على سفود رفضه وفضح مساوئه، يتسارع إليه ضجيج الأنين والتوجع كلما غابت شمسُ الخلاص عن وطنه، وحلَّ الظلامُ القاتم، كل ما أُودقت شموع للأمل في هذا الوطن، وأشرقت الأحلام في المآقي ثمَّة من يجفّفها في مهدها، ويبقى الشاعر هو الذات المسافرة في أرجاء الوطن العاشق لسلمى/ للوطن في قلق وأسى، يتهجاه أحرفًا ويستنطقه واقعًا ويرنو إليه أملًا حينًا ومستحيلًا حينًا آخر، فيقول(26):
” للبيادر عشق السنابل
ولسلمى انتظار النهار على الشرفات التي أعتمتها
البكارة
بين سلمى و بين العبور إلى الوشوشات
يتمطى الشتات
كم أضاءت يداها القناديل
كم جففتها المناديل
كم فراشات احترقت
و لسلمى احتراق الثواني”.
ومن بين النماذج التي تبرز فيها موقفه من الواقع، ما يظهر في نص “خبايا المدينة” التي يسترجع فيها بعض المظاهر الواقعية من راهنه، حيث يتجلى موقفه الساخط من حال وطنه الموحش الذي أوصد على الأحلام شرافات الفجر، مستنكرًا حال هذا الواقع الذي لم يزل جاثمًا في جراحه ومآسيه لم يعانق الأمل الذي يصبو إليه، قائلًا(27):
“وهل في قريتي حضن و أثداء و أيد ناعمات ؟
هل في قريتي دفء كعاطفتي ؟
_هذي القرية المهزولة الأحلام
مذ غادرتها ذات صباح
لم تزل عذراء
لم تنزع براقعها العتيقة
لم يعانقها الرحيل إلى الشواطئ
هذي قرية مأثومة بالحب”.
وفي نص بعنوان “شكوى” يبث شكواه الحزينة من راهن وطنه إليه، يتلو حزن الأطفال الذي عاشوا بين روابيه، يلهج بشقى أحلامهم التي وئدت في أعياد ميلادهم، يستعطفه ببؤس الأنقياء المخلصين الذين يضمدون جراحه؛ فيقول(28):
“أستميحك يا وطني العذر
كي أتلُو الحزن بين يديك
هي شكواي ذات طفولة
و شكوى صغاري ورِفقتهم كل يوم
لمَ لا تستضيف العصافيَر من أجلنا؟
لمَ لا تجِعل البدَر في عيد ميلادنا من هداياك
نحن _ أيضا _ رعاياك
و لسنا من الأشقيا
اغتنم لحظة الطُّهر فينا
لأَّنا سندعو لك اللهَ يا موطني بالشِّفا”.
يعّري بارجاء خبايا هذا الواقع الذي يتقوقع خلف الصمت المطبق، واقع يضج بأنين وأسى، أضحى ألم الغياب والغربة سمة له، تلك الغربة التي أرهقت كاهل هذا الشعب، الغربة التي سحت دموع الانتظار من مرارتها ومزقت قلوب المنتظرين على الشرفات الغياب، راهنٌ كابد الراكدون فيه الجوع والعُري والفاقة، راهن يقتض بها هذا المجتمع الكسيح الذي هُمّش فيه المخلصون لقضية الوطن وحلمه، فيقول(29):
” أضغ صمت البشر
خذ كل شئ لديك
و فتش خبايا الأنين الندّي
بكاِء الأزقة
والطرِق العابسات
والعيون المقيمة خلف النوافذ
فتش هنا و هناك
عن مقل لا ترى النور إلا إذا استسلمت للنعاس
فتش عن امرأة تحرث النار في كحل أهدابها
عن طفلة مزقتها أناملها
عن رجل هشمته المدينة
و احترق الحلم بين أصابعه
منذ هَّمشه المَّدعون”.
ويبدي الشاعر نموذجًا من واقعة القبلي، الذي تتجلَّى فيه ظاهرة حمل السلاح والاحتكام، الذي يعد أول منابع تفشي الثارات والقتل، التي تحيل على الفرقة والشتات والتخلّف عن ركب الدولة المدنية الحديثة، غير مكتفٍ بتعرية هذا الواقع، معرّجًا في الوقت نفسه على فضح تجاوزاتها، التي جاءت بصيغة ساخرة تهكُّمية، وفي الوقت ذاته ناقمة ممَّا آل إليه هذا الواقع، مبرزًا الشاعر في ذلك موقفه تجاه تجلّيات هذا الواقع المنبعث من رؤية ترنو إلى مستقبل جديد متحضّر، متخذًا من العلم والمعرفة ونبذ العادات السلبية سلّمًا لبلوغ ذلك، فيقول(30):
| و احمل سلاحك حيث سرت i iفإنه لا | يكسو الرجال مهابة و وقارا | |
| لا أستحي إن قلت فيك قصيدتي | فافعل لكيما تلفت i iالأنظارا | |
| سر و ارفع الرأس الفقيرة i iشامخا | لو كنت بين السائرين i iحمارا | |
| من سار بين الناس و هو i iمسلح | فتحوا الطريق أمامه إيثارا | |
| و دعوا له بالنصر في i iغزواته | هْزءًا به و بعقله i iاستصغارا | |
| كيف السبيل إلى التقُّدم يا ترى i i؟ | و الجهل يبني في السبيل i iجدارا | |
| بالعلــــم و الأقلام لا i iبسلاحنا | نمضي إلى ما نبتغيه i iكبارا | |
| بالعلم و الأقلام لا i iبرصاصنا | نبني البلاد و نبدأ i iالإعمارا | |
| يكفي التشاحن إننا في i iحاجةً | للسلم فاجنح و اترك i iالإصرارا | |
| و دع التخلُّف إنه i iمأساتنا | واركب إلى العصر الجديد قطارا |
وفي نموذج آخر من نماذج هذا الواقع تتشكل قصيدة “متسوّل” في الإطار ذاته، تطفح بحرارة الألم الذي يسكن الشاعر الإنساني من مرارة ما يرى، يتشبع النص بالأسى عبر تكرار تقنية الاستفهام، حيث يحيل في ذلك على ظاهرة راهنة، ألا وهي التسوُّل، ظاهرة اجتماعية مؤلمة، أفرزها واقعُ عجزِ منظومة الدولة وتدهورها الاقتصادي:
“هل جعت مثلي أو ظمئت زمانا؟
هل بت ليلا في الشتا عريانا؟
أو هل أقمت على الطريق و لم تجد
دارًا و لا أهلًا و لا i iاطمئنانا؟
هل خضت تجربتي وحيدا صابرا
وحرمت مثلي مذ ولدت iiحنانا؟”(31).
لم تقف اللوعة على الوطن والخوف عليه عند حد الأنين والتوجع، بل تجاوزته إلى رفض الواقع والصمت المطبق، الذي يعضده الحلم بالخروج بالوطن إلى العُلا والرفعة، والهروب به إلى عالم السمو والرقي، شاحذًا همم الأحرار من أبناء وطنه لذلك، فيقول(32):
| إذا لم يزدهْر كالعشـــــــــــــــب i iفينـــــــــــــــــــــــا لا | ويحمـــــــــــــــــــــــــــل توقنا للفجـــــــــر iبشرى | |
| و إلا فـال ُّسكـــــــــــــوت بنـــــــــــــــا i iحــــــــــــــــريٌّ | وهـــــــــــــــــــل جعل السُّكوت المرء حـــرا |
بارجاء شاعرٌ من الشعراء الذين ولدوا وولد معهم الرفض لكل ما ينافي القيم الإسلامية والوطنية، ناشدًا بعثًا جديدًا في نفوس اليمنيين من خلال تغيير وعيهم، من خلال رفض الواقع والنأي عن سلبياته الاجتماعية والسياسة، والتطلّع لغدٍ يزف الأماني والأحلام، ينفض غياهب الكبت والعتمة:
“والمدى الرحب فضاء i iمترع
لأمان مشرقات i iكالنهار
و الُّرؤى تنفض عن i iأنفاسها
تعبا هام على الرمل و غار
إنها أشرعة الُّروح i iإلى
سفر الحلم إلى جوف المحار”(33).
والتطلع إلى مستقبل أجمل مرتبط عند الشاعر بالمرجعية الدينية، التي تتجلَّى من خلال قصيدته “عندما تكلم الرسول”، فكأنّه بذلك يعلن أنّ ميلاد الفجر الجديد للوطن المصلوب في الظلمة، إنّما يكون بالتمسك بما جاء به النبي- صلى الله عليه وسلم- من هدي قويم يمثّل الأمل لانتزاع جذور الظلام والضلال لهذا الواقع، والنهوض لرسم المستقل، فيقوله(34):
” اقرأ الآن بعضًا من النور
كيما تعلمهم
السماوات حبلى بما يكسر المحتمل
وإذا النفس قد يئست من حياةٍ
ففي النور كل الأمل”
وفي نص “عودة الزمن السبئي” نرى الشاعر يلوّح بفجر جديد لهذا الوطن قد اقترب، فشمسه في مخاض البزوغ، لاتنير إلا طريقًا واحدًا يمتطيه المخلصون لهذا الوطن، لتجاوز الواقع الراهن إلى مستقبل أجمل للخلاص، مستحضرًا شخصية الملكة بلقيس وسيف بن ذي يزن، وذلك من خلال إسقاط خصوصيتهما الدلالية كشخصيات يمنية على واقع مأمول ومنتظر، فيقول(35):
” السبل الموصلات إلى الليل مغلقة
لا سبيل إلى السير عكس اتجاه النهار
ها هنا الفجر يمنحكم طهره
و هنا الصبح يهديكم شمسه المشرقة
أيها المخلصون
الزمان لكم
المكان لكم
الجنين الذي حملته أمانيكم
شب في حضن بلقيس
وارتضع البأس من سيف ذي يزن
كلآلي المحار
جاءكم شاهرا عشقه”.
ينثر القبلات
و يأخذ من بئر أوجاعكم مومياء الشتات
الزمان الجديد يكلله غصن بُن
تظلله نخلة في مخاض الولادة”.
نقف في ختام هذا الدراسة على أهم النتائج التي توصل إليها الباحث من منطلق الأهداف التي طرحها، تتلخص فيما يأتي:
اليمنيين، 2004م.