مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

من نقد السومحي: باكثير.. حياته من شعره

نقد

د. أحمد هادي باحارثة

   حاول الدكتور أحمد عبد الله السومحي (ت 2020) عند حديثه عن حياة الأديب علي أحمد باكثير (ت 1969) أن يتقصَّى جميع مساراتها في تنقلاته المختلفة بين مسقط رأسه بجاوة، ومحط نشأته بحضرموت، وموطن نزوله واستقراره بمصر، فضلًا عن محطاته العابرة في عدن، والصومال، والحبشة، والحجاز، وكانت له مهمَّةً شاقَّةً لشحَّة المصادر وقلَّة المعلومات؛ لذا فالسومحي استعان بمهارته النقدية، وذائقته الفنية، في استخلاص إضاءات له عن حياته من بين أبياته الشعرية سواء عبر نصوصها، أو من خلال أزمنة نظمها، فكلَّما مرَّ بحلكة في إحدى زوايا حياته حتى أضاءها بمصباح شعره([1])، على خفوت ضوئه في أحيان كثيرة.

   أما مصادر حياته الأخرى فتلقَّاها من ما أجري معه من حوارات([2])، ومِنْ ما ذكرتْه بعض المراجع عنه، ومن مقابلات مع أهله في مصر وهم زوجته وربيبته وزوجها([3])، أو بعض مَنْ عاصروه كصلاح البكري وغيره([4]).

نسبه وأسرته:

   بدأ السومحي تعريفه بنسب الشاعر وأسرته آل باكثير([5])، وهي تعود إلى قبيلة كندة الشهيرة، وكان باكثير يفخر في شعره بانتمائه إليها كقوله:

منَ ال أبي كثير من سلالا      ت أقيال لهم مجد قدام

فهم في جاهليتهم ملوك        وفي الإسلام أعلام عظام

   وحاول بعد ذلك تفسير وجود (با) في اللقب باكثير الذي يكثر في ألقاب القبائل الحضرمية، فقال “إنها مأخوذة من اللقب (أبو فلان)”([6])، لكنه نسب تغيير أبو إلى با إلى تحريف العامة، وليس الأمر كذلك، بل هي أتت على لغة القصر، وفيها تلزم الأسماء الخمسة، ومنها أبو، الألف في كل مواقعها الأعرابية، أما الهمزة فحذفت تخفيفًا([7]).

   ثم ذكر والده الذي كان يعمل بالتجارة وكثير الأسفار، ورصد زمن وفاته عبر مرثية ابنه الشاعر حيث أرَّخ لوفاته في صدر قصيدته الرثائية([8])، التي مطلعها:

عبثًا تحاول أن تكف الأدمعا   وأبوك أمسى راحلا مستودعا

   أما والدته فعرَّف أنها تنتسب إلى أسرة آل بو بسيط([9])، عبر إهداء مسرحيته الشعرية (أخناتون ونفرتيتي) لخاله محمد بن عبد الرحمن بو بسيط([10]).

   ثم انتقل السومحي للحديث عن مولد علي باكثير في جاوة مدينة سورابايا عام 1910، لكنه يشكُّ في دقة هذا التاريخ؛ إذ قال: “من خلال تتبعي لشعره وجدت أنه من الجائز أن يكون قد ولد في حدود 1908”([11])، وذكر المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف أنه ولد عام 1906([12])، ولعله الأقرب صوابًا لما ورد في قصيدة كتبها على صورته وأهداها لبعض أصدقائه عام 1926 يقول فيها([13]):

اُنظروني في عنفوان شبابي      إذ علي في سنه العشرينا

فهي كالمصرِّحة أنه ولد في التاريخ الذي أورده بامطرف، مع أنه ليس هو المشهور والمتداول.

حياته بحضرموت:

   سرعان ما أرسله والده لحضرموت وهو في سن الثامنة ليتلقَّى دراسته بها، وساعد نفسه بالقراءة حتى وصل لمستوًى أهَّله لقبوله في جامعة القاهرة. ثم نرى السومحي يعود للاستعانة بتواريخ قصائد باكثير ليعرف متى عاد لجاوة بعد الدراسة والتثقيف في حضرموت([14])، وزار والدته وأهله هناك، لكنه لم يلبث بها كثيرًا فعاد بعد عام إلى سيئون وتزوج مرتين، زوجة عن محبةٍ منه سابقة، وزوجة عن رغبة من أهله بسبب مرض الأولى.

   ولم يجد السومحي في شعر باكثير إشارة للزواج الثاني الذي انتهى بالطلاق، أمَّا الزوجة الأولى التي توفيت في عقده فلها ذكر في شعره منذ خطبتها، ولاسيما في مسرحيته همَّام في عاصمة الأحقاف، التي رأى السومحي أنها تمثل “خلاصة لحياة الشاعر في حضرموت”([15])، لكنه كان يتلقَّى منها المعلومات بحذر؛ لإدراكه بخصوصية العمل الفني المسرحي، الذي لا يخضع بالضرورة لما حدث في الواقع، ويقارن بأشعار أخرى لباكثير، فبعد خطبته لزوجته الأولى سافر باكثير لإندونيسيا؛ لأن الخطيبة ما زالت دون سن الزواج، وأخذ ذلك من قوله([16]):

وبعــد ثلاثين شـــــهرًا يعو        د وسوف تمر كلمح البصر

هنالك تبلغ ســـــــن الزوا        ج حسن وتنضج نضج الثمر

   ثم يعرض لأشعار باكثير في جاوة التي تعبر عن شوقه لخطيبته، رغم كثرة الجميلات التي يصادفهن في جاوة، وتشوفه لسرعة العودة لسيئون للزواج([17]):

حبيبة قلبي ما أرى العيش سائغًا       بدون ارتحالي نحوكم ووصولي

   وعاد فعلًا لحضرموت في شوال سنة 1346ه، وتزوج بخطيبته وأنجبا بنتًا، ولكن قدر الشقاء كان بالمرصاد لهذه الأسرة الفتية، فعلى حين غفلة من أهلها غرقتْ طفلتهما في بركة بحديقة المنزل، فأصيبتْ أمُّها بمرض تطاولت لياليه، فاضطر باكثير إلى الزواج بامرأة أخرى بضغط من أهليه، فما لبثتْ زوجه الأولى أن أنشبت بها المنية مخالبها، وتكالبت على علي ظروف لم يستطع أن يغالبها، فطلق زوجه الأخرى التي لم يطق أن يصاحبها.

   وانطلق إلى عدن وذكرى زوجته الراحلة عالقة في روحه، وهناك سكنت الحمى في عظامه، فهاجت ذكرى أسرته المفقودة، زوجته التي صارت روحًا في السماء موجودة، وابنته التي غدت بالماء موءودة، ولم يعد معه من يحن عليه ويخفف عنه، وقال:

ذكـــــرت حبيـــــبتي فهــفـــــا بقـــــلبي        تذكر تلكم الروح الحنون

فلــــو كانت معي لأزال شـــكوي        مرور بنانها فوق الجبـــين

الشاعر تائهًا:

   هو العنوان الذي وضعه السومحي لمرحلة تنقلات باكثير بين عدن، والصومال، والحبشة، والحجاز، دون أن يعزم الاستقرار في أي منهن([18])، بعد أن ضاق عليه مكوثه في سيئون، وسجل نية رحيله من شعره حيث قال:

تــــــارة أعــــــزم الرحيـــــــــــل وطــــــورًا        أنثني راضـــــــــــــــــــــــــيًا بالحال

ضقت ذرعًا بذي البلاد ومن ضا      ق بأرض فليعن بالارتحال

إن لي في الكون الفسيح مـجالا        إن يكن ضاق في البلاد مجالي

   وطريف هنا تشبيه الناقد عبد الله الغذامي للامية باكثير هذه بلامية الشنفرى بجامع هجران الأهل والوطن بسبب عدم الرضا عن حالهما([19]).

   وهكذا يعزم علي باكثير الرحيل إلى عدن التي كانت مقصدًا محببًا للحضارم، وبها عشرات العائلات الحضرمية المستقرة والمؤثرة، إذ يقول([20]):

وشددت الرحل حتى عدن     ويكاد الأمر فورًا أن يتم

   لكن باكثير لم ينزل عند حضرمي بها، على عُلُوّ مقاماتهم هناك، بل أقام ضيفًا عند صديقه الصحافي محمد علي لقمان، وقد اعتاد لقمان استقبال من ضاقت عليه بلاده من المبدعين، ومن بينهم الشاعر محمد محمود الزبيري عندما ضاقت به صنعاء، وأسس لاحقًا مطبعة وصحيفة فتاة الجزيرة، التي احتضنت كل كتابات رواد المبدعين في حضرموت، واليمن، وعدن، على السواء، قال عنه باكثير([21]):

فـــــدم يا ســــــــيدي لقمـــــان حـــــيًا        وســـــــلوى للعليـــــــل والحـــــــزين

فكم فرجــــت من همـــي وضيفي        وكم كفكفت من دمعي السخين

   ويحدث أن يسافر لقمان إلى الصومال في مهمة فيتكدر باكثير ([22]):

إن ادكارك يا لقمـــان أشجـــــــــاني        وهاج منيَ أحزاني وأشجاني

وكيف أنسى خليلًا قد نسيت به      أهلي وصحبي وإخواني وأوطاني

   ويلحق به في الصومال ويستقر في مدينة هرجيسا ([23]):

في ربا هرجيسا هواء وماء      ورياش ووابل ورذاذ

   ومن الصومال يمضي باكثير فيزور جيبوتي، وأديس أبابا في الحبشة، ثم عاد إلى عدن، ومنها انطلق إلى بلاد الحجاز، ولمْ يمرَّ بصنعاء؛ لعدم رضاه عن أحوالها السياسية، وفي الحجاز اتصل باكثير بالوسط الثقافي، وعقد له به صداقات أشار لبعضها في شعره ([24]).

موقف آل باكثير من ترحال شاعرهم:

   ويعلم السومحي من خلال شعر باكثير أن أهله في سيئون وجاوة لم يكونوا راضين عن رحيله غربًا لعدن، والحجاز، وأفريقيا، وانتهاء بمصر، وكانوا يرغبون في اتجاهه شرقًا إليهم في جاوة، التي هي مسقط رأسه؛ ليبني فيها أساسه، وهي التي كانت تشهد آنذاك نهوضًا تعليميًا وثقافيًا بمجتمع الحضارم في جاوة، وبلاد الملايو، وسنغافورة، وهو نهوض لا ينكره باكثير، لكنه أعرض عنه لما يشوبه من منافسات عايشها أثناء زيارته المبكرة لها، ويعرف صداها السيئ على المجتمع والوطن، وطالب بإصلاحها، ثم فضل تجنُّبَها حتى لا يقع في بعض تياراتها، وهو لا يحمل إلا هم الوطن الذي هو حضن الجميع.

   يقول باكثير في حلم ذهابه لمصر ومنازعة أهله له:

بينما كنت شغوفًا بالمنى        والأحاديث لمصر والحلم

إذ أتتني نبــأة من جـــــاوة        أن تقهقر لا تقل إلا نَعم

   فلمَّا أعرض عن قول (نعم)، قاطعه أهلوه وتجاهلوه، فاضطرَّ أن يعاتبهم بقوله:

ما لي أرى أهلي بجاوة قطعوا   حبل الوصال وما ارتكبت جليلا

أو كلما يأتي كتابي نحوهم       إتخذوا الصمت عن الكلام بديلا

   ما عدا خاله من آل بو بسيط، والخال والد، كان هو من تكفل بعلي في طفولته؛ وبسط له في عطفه، ومن ماله؛ إذ قال عنه علي: “أمضيت طفولتي في كفالة خالي، وتلقَّيتُ عنه دروسي الأولى”([25])، ثم ظل خاله هذا يواصله ويصله يافعًا حتى ثبت ووقف على قدميه؛ لذا خصَّه باكثير بإهداء باكورة عمله المسرحي الرائد.

باكثير يصل مصر:

   ثم تحول السومحي إلى ما ساقه باكثير عن حياته في مصر، ولاسيما في الفترة الأولى لصفوفه قبل أن يندمج في المجتمع المصري، وهو يعاني شعور الاغتراب وتلمُّسَ الأنيس، ويعرف الناقد أنَّ مقصود الشاعر الأول من نزول مصر هو إكمال الدراسة بها من خلال قصيدة بعثها لصديق له لمْ يسمِّه، كانا عزما معًا على الارتحال إليها؛ كي يؤانس كلٌّ منهما الآخر:

وتآخينا على نيــــل العلا        ونديمانا كتاب وقلم

تحت سقف واحد من معهد     فائض بالنفع مستعلي العلم

   ويصف السومحي حالة باكثير عند وصوله مصر: “كانت حياته في السنوات الأولى لقدومه مصر حياة قلقة مضطربة، فيها أطياف اليأس، وأشباح الحزن، وقتامة الذكرى، وفيها اهتزازات من آثار الماضي وآلامه”([26]).

   وقد أخذ ذلك من قول الشاعر ([27]):

في غرفــــــــة واجـمة قفـــرة        ليست بـها بارقة للمنى

النور في أرجـــــائها حـــائر        يصيح من يأس أقبري هنا

   ولم يخرج باكثير من عزلته إلا بعد أن اختلط بالوسط الثقافي، ولاسيما من بني جِيله، فإذا شعر ببعد منهم خاطبهم بشعر العتاب، من أمثال الأديبَيْنِ المصريَّيْنِ صالح جودت([28])، وجميلة العلايلي([29])، وهما من خاطبهما بقوله([30]):

عج بالأديبة والأديب  أو بالحبيبة والحبيب

واســألهما في رقة        ما شأن خلكما الغريب

أو بعدما أمطرتما       باللطف مرعاه الجديب

خلفـــــتماه وحده       يدعو وليس له مجيب

   وكان في نية باكثير العودة إلى حضرموت عقب ختام دراسته، وهو ما تبيِّنُه قصيدته لرفيقه حيث قال([31]):

ثم نـجــني ما يرقي شعبنا        من علوم وفنون وهمم

ثم نـمسي بعد في أوطاننا       موقظي أمتنا بين الأمم

ولم يفعل، بل مكث في مصر لأسباب، أحسن الناقد السومحي في تلخيصها في أربعة أمور: شدَّةُ الصَّدِ الذي لَقِيَهُ من قومه في سيئون، وتأثيرُ الوُجُودِ البريطاني في حضرموت، وامتلاءُ نفسِه بالنَّفَسِ القوميِّ؛ إذ غلبت النزعة الوطنية المحلية لديه، وميله نحو الكتابة المسرحية التي تحتاج لمسرحٍ وممثِّلين، ولا وجود لهم إلا بمصر([32]).

   وهكذا استقر بمصر، وتزوَّج بها، ونال جنسيَّتَها، وعمل في المجال الرسميِّ التربويِّ، ثُمَّ الثقافي، ونال حَظوَةً عالية بمصر، وطاول عمالقتَها من أدباء، وفنَّانين، وساسة، وانتشرتْ أعمالُه في صروحها من مسارح، ومجلَّات، ودور نشر.


[1] علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 34

[2] نفسه 35

[3] نفسه 38، و47

[4] نفسه 38

[5] ذكر ابن حامد السقاف طرفًا من نسبهم أثناء ترجمته لعم الشاعر محمد بن محمد باكثير 5/104

[6] علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 31

[7] انظر بيان الأصل في لفظ بافضل، أحمد بن محمد المرزوقي، تريم للدراسات والنشر، 2012، 36

[8] علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 32

[9] يقال إن هذه العائلة ينتهي نسبها إلى بني أمية من قريش، انظر مختصر كتاب الدر والياقوت في معرفة بيوتات عرب المهجر وحضرموت، تصنيف: سالم بن أحمد العلوي المعروف بابن جندان، اختصار عمر بن محمد باحاذق، دار المأمون للتراث، دمشق، كنوز المعرفة، جدة، 2005م، 103

[10] أخناتون ونفرتيتي، دار الكاتب العربي، القاهرة، ط 2، 1967م، الإهداء، 3

[11]علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 35

[12] الجامع 386

[13] أزهار الربا 105

[14] علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 38

[15] نفسه 40

[16] نفسه 41

[17] نفسه 42

[18]نفسه 50

[19]مقدمة كتاب السومحي 10

[20]علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 59

[21] سحر عدن

[22] نفسه

[23] نفسه

[24] علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 56

[25] انظر مجلة الاثنين ع 1275، 17/11/1958، 28

[26] علي أحمد باكثير .. حياته وشعره الوطني والإسلامي 61

[27] الرسالة العدد 170، 55

[28] هو صالح بن إسماعيل جودت، يتصل نسبه ببني شيبة بمكة، قانوني مصري، نفي جَدُّه الثاني من مكة لأسباب سياسية، فاستوطن قبرص، ثم نزح جدُّه الأول إلى مصر حيث نشأ والده، ثم انضم إلى الثورة العرابية، فحكم بنفيه 3 سنوات أقامها في الآستانة، ثم عاد لمصر، ونشأ ابنه صالح في القاهرة، فتعلم بالمدرسة الخديوية، وأخذ الحقوق في جامعة باريس، ثم عمل محاميًا وقاضيًا بالمحاكم الأهلية حتى وفاته نحو سنة 1945، له مؤلفات منها (الدليل العصري للقطر المصري)، و(مصر في القرن التاسع عشر)، و(أمة الملايو)، ونحو 15 (رواية) أدبية مترجمة، ورواية تمثيلية سمَّاها (الإيمان) مثلت في الأوبرا. الأعلام 3/189

[29] هي أديبة مصرية، كاتبة وشاعرة وقاصة، عاشت في مدينة المنصورة، وأصدرت مجلة (الأهداف)، ولها ديوان بعنوان (صدى أحلامي) صدر سنة 1936. الرسالة العدد 173، 1936

[30] علي أحمد باكثير.. حياته وشعره الوطني والإسلامي 63

[31] نفسه 65

[32] نفسه