شخصيات
شكري نصر مرسال
برزت الثالثة من المراحل في حياة السيدة فطم عبد القادر بن علوي العيدروس منذ أن شدّت الرحيل ذات ظهيرة مشمسة، ومضت تدب على قدميها برفقة والدتها، تحملها سنواتها السبع من منزل عائلتها الكبير بتاربة إلى ديار “ثِبي”، إحدى قرى مدينة تريم، للاستقرار بها والعيش بكنفها. فمرجع اتخاذ القرار أنَّ جدَّها علوي لأبيها مَنْ كان يُسندها بكفوفه الحانيات، قد أسلم روحه ذات ليلة لأقدار الموت، ما شاء للطفلة الصغيرة أن ترحل مرغمة لتلك الديار للعيش عند أهلها من والدتها.
وبين معابر الأيام بفترات وجيزة، التحقت الطفلة الجميلة بمدرسة العيدروس “بثِبي” لتدرس مواد اللغة العربية والحساب إلى جانب تعليمها معارف من فقه علوم الدين، وكان ذلك تقديرًا في ميلاد العام 1936. كما كان يدرس في صرح المدرسة من جهة صفوف البنين طالبٌ متميزٌ في تفاصيل مداركه الحسية، مثله مثل تفاصيل المطر في فصل الخريف، تنبأ الكثير بمستقبله البهيج، وقد حفظ نهج البلاغة في العاشرة من عمره، يُدعى علي عقيل بن يحيى.
وتأتي هذه المدرسة ضمن بعض مدارس آل العيدروس التي شُيّدت فصولها من حر مال هذه العائلة الكريمة، ينفقون على جل برامجها التنويرية، ويباشرون مصالحها التعليمية؛ لتظل أبوابها مفتوحة مرحبة لمن أراد اللحاق بها من عموم أطياف المجتمع الحضرمي.
ومن لطائف الصدف أن سارت بعلي عقيل صروف أقداره تجرُّه من مسيلة آل الشيخ بمدينة تريم إلى قرية “ثِبي” ليتخذها محلة، والأصل في وجوده هناك ليكون قريبًا من شقيقته الوحيدة، التي كانت حديثة عهد بزواجها من أحد المناصب لأسرة العيدروس. وكان الشقيق الأوحد علي عقيل بن يحيى في حينها طفلًا لم يزل يسبح في مجرى عمره الصغير بين الحادية عشرة والثانية عشرة من السنين.
ومن غبار تلك الأيام تشكل ضبابٌ باردٌ من رياح النصيب، فتزوجت خلاله الشريفة الحسناء فطم العيدروس من الشاب البليغ علي عقيل بن بخير في أواخر ميلاد العام 1943، وانتقلت فطم عبدالقادر العيدروس إلى بيت الزوجية، كما قدر لها. ومن جديد يعود علي عقيل ليعيش بمسيلة آل الشيخ في مساحة منزلية متواضعة، فبدأ الرجل باكرًا يعلن بموضوعية عن ترتيب أوراق قناعاته الحياتية في استشراف مستقبل الأيام المقبلة، بما يحفظ له وأسرته واقع الحياة العزيزة، ببصيرة نافذة تعنى بالأوليَّات.
ومختلفة ربما عن بعض طرق المسلمات المألوفة المستبدة العالقة في خارطة ادعاءات ذلك الواقع المعيش، وبجانبه تجلس الروح الملهمة فطم العيدروس مصغيةً، تشاركه منطقها السليم، مستوعبًا علي عقيل من خلالها الواقع من دور الأم في محاكاة مستقبل الأبناء. ولمْ تدرِ فطم العيدروس المرأة الرائعة أن من ظفر بها زوجة وأم لأبنائه سيكون له شأن الكبار من الناس، وسيصبح في مسارح الدنيا منارة فكرية ورمزًا عربيًا، ستحتفظ بسيرته محابر العقود العابرة إلى مخطوطات الدهور.
فحظيت هذه الحواء الملهمة بداية بعناية في تعليمها، ومتعرضة لرعاية فائقة في تنوع سبل معارفها، فكان للأستاذ علي عقيل دورٌ محوريٌّ داعمًا ومبادرًا في هذا الاتجاه، الذي ظل يتعاطاه ويشيّد أسسه كضرورة حياتية ملحة، مستعينًا بأهمية تثقيف دور الأم في حمل مهام تربية الأبناء وترشيدهم؛ ليكونوا على استعداد من خلال مكتسبات العلم في مجابهة مداهمات الحياة.
ففي هذه الفترة شاء القدر أن يغادر السيد علي عقيل حضرموت إلى دمشق مترأسًا أول بعثة طلابية لا يزيد عددها على الخمسة الطلاب المرشحين للدراسة إلى الجمهورية السورية؛ من أجل الانضمام إلى إنجاز نيل مرحلة الثانوية، أظنها جازمًا في أواخر العام 1947. ومن هناك من حيث إقامته بدمشق ظل المثقف الكبير ابن يحيى علي عقيل يزود السيدة فطم بمجاميع من إصدارات جديدة من الكتب والمجلات تُبعث لها من سوريا عند سانحة كل فرصة، ما جعلها امرأة قارئة مطلعة، ومكثرة في ثقافتها حتى تكونت لديها شهية ثقافية واسعة، عملت خلالها إلى مد رحاب الآخرين بأكسجين المعارف.
وحال ابتعاث علي عقيل طالبًا للدراسة في أول رحلة إلى سوريا كما أسلفنا، توجهت السيدة فطم إلى مدينة تريم برفقة والدتها السيدة عائشة العيدروس بغرض تعليم ابنها العزيز عباس، وتمكينه من اللحاق بمدارس تريم، الخبر الذي سُرَّ به علي عقيل، وشكرها بكثير من الإعجاب والثناء، معتبرًا هذه الخطوة توجهًا جميلًا على الطريق الصحيح.
وبين فترة تريم صادفت الأم الصبورة ظروف المعيشة الصعبة، فعلي عقيل لم يزل طالبًا بسوريا وبالكاد أن تغطي التزاماته تلك المنحة المتواضعة المقررة له كطالب، ففرض على الوالدة فطم أن تطلق العنان لنفسها مجاهدة متهيبة لمصارعة شظف العيش من خلال اختيارها للعمل مباشرة على ماكينة الخياطة اليدوية، تخلط الليل بالنهار مرغمة؛ لتتمكن قدر المستطاع من تحقيق احتياجات العيش الكريم لوالدتها وابنها الطالب الصغير عبر إدارتها بكفاءة لمشروع الخياطة، الذي رفع من رصيد إشهارها لدى الكثير من العوائل الحضرمية.
ولكون هذه المرأة الحكيمة سبق أن عاشت شبعانة، وتمرغت في مناعم الرخاء، تمكنت من مخاض تلك التجربة المريرة بأسلوبها من غير أن تُشعِر مَنْ حولها بأنها قد تأذَّتْ أو مسَّها الضُّرُّ من ضيق ذات القل.