مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

حياة الريف.. كنز معرفي

توقيع قلم

أحمد بن عبداللطيف باوزير

ماذا يعني لك أنك تعيش في الريف؟ في قرية صغيرة؟

يعني لي الكثير، القرية الريفية عالم صغير ينقلك الى العالم الكبير!!

كنت في الخامسة من عمري حين لسعتني النحلة، ثم أُعطِي لي شيءٌ من عسلها للشفاء،، فما بين لسعتها وشهدها ينبثق كَمٌّ كبير من الأسئلة والخيال المعرفي!

ما هي المواد التي تتفاعل في بطنها لتخرج السم من جهةٍ، والشفاء من الجهة الأخرى؟ وكيف تتفاعل؟ وكيف تتوزع النواتج وكل قد عرف سبيله ومخرجه!

هذه الحشرة الصغيرة داخلها عالم كبير من المعرفة، وإن خروج الداء والدواء من بطنها يخبرك بأن هذا العالم الواسع يتداخل فيه الخير والشر، وقد ينبثق أحدهما من موطن آخر، ويخبرك أيضًا بأن كل شيء في هذا العالم له معنى وقيمة مهما كان صغيرًا بحجم هذه النحلة أو أصغر.

أخبرتْني أُمِّي حينها بأن هناك سورة في القرآن تسمى سورة النحل، ولم أكن أُحسِنُ القراءة والكتابة في ذلك الوقت، فانتابني فضول كبير، وأصبحتُ متحمّسًا لتعلم القراءة مبكِّرًا؛ حتى يتسنَّى لي معرفة العلاقة بين كتاب الله المنظور وكتابه المسطور، هنا يتبين للجميع أنَّ بيئة القرية بما تحويه من مظاهر مثيرة تقدحُ شرارة الفكر وتحفِّزُ النشء لتعلُّم القراءة والكتابة من خلال عرض المشاهد التي تثير الفضول المعرفي.

في حياة القرى حين تراهم ينثرون رَوْثَ الحيوانات لتسميد التربة؛ ليكون المحصول وفيرًا بالحبوب والعلف (طعامًا للإنسان والحيوان مرَّةً أخرى)، فأنتَ هنا أمام دورة بسيطة من دورات الطبيعة؛ لتعلم فيما بعد أن الحياة كلَّها عبارة عن دورات، ومنها دورة الماء والأكسجين وثاني أكسيد الكربون والنيتروجين… إلخ؛ ليخبركَ القرآنُ بالدورة الكبرى للكون كله ((يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) سورة الأنبياء: 104.

حينها تدرك بأنك في هذه القرية لستَ في عالمك الصغير بقدر ما أنت في نقطة من هذا الكون تُعلِّمُك أبجديات التفكير السليم والحروف الأولى للمعرفة والتي تنقلك إلى عالمك الكبير الفسيح غير المتناهي في تناغُمٍ وتَوَازٍ مع كتاب الله العظيم، وأنت تسيرُ مع السائرين في هذا الموكب المهيب تصاعُدِيًّا في سُلَّمِ المعرفة تسمع على جنبات الطريق صيحاتٍ هافتةً وخافتةً من صيحات الإلحاد، والتي تخلق ميتة مثل الفراشات الزائغة التي تحاول الاقتراب من الشمس!

الحياة في القرية مليئة بالمشاهد المثيرة، كم هو جميلٌ أن تشرب كأسًا من الحليب الطبيعي، ولكنَّ الأجمل من هذا كله أن ترى أحدَهم يحلبُ شاتَه ليخرُجَ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنٌ خالصٌ سائغٌ للشاربين!

لا أظنُّ أنَّ الأمر يقتصر على حياة الريف فقط، فأيُّ نقطةٍ في هذا الكون تقفُ عليها ستجد فيها ما يربطك معرفيًّا بالكون كله، ما عليك إلَّا أن تنظر وتتأمَّل.

مرَّت علينا سنون الحياة بسرعة، ومما يؤسفني أنَّنا لمْ نَعِشْ لحظاتِها الجميلة كما يجبُ؛ لأنَّنا كُنَّا نتطلَّع إلى الأفضل دائمًا، وننشغل عن الموجود بالمفقود.

وفي الختام، كمْ أتمنَّى من مؤسسات التعليم في بلادنا أنْ تهتمَّ بوسائل التحفيز والإثارة في مراحل التعليم الأولى؛ حتَّى تكون مخرجاتهم ذات جودة عالية.