دراسة نقدية لتحقيق باذيب لمخطوط منسوب لابن حسان (نقد نص واحد)
سالم القاضي باوزير
المقدمة:
ُتَمثّل المخطوطات التاريخية ذاكرة الأمم وهويّتها؛ إذ تُعدّ الوعاء الذي يَحفظ للأجيال اللاحقة تاريخها وحضارتها، ومِن ثَمّ فإن الحفاظ على هذه المخطوطات يعني الحفاظ على ذاكرة الأمة وسلامتها من التشويه والاندثار، ولكي نحافظ على هذه الذاكرة خالية من المشوِّشات، وما قد تتعرض له من زيفٍ، يَبرز هنا دور التحقيق العلمي كمعيار للحقيقة، وضامن لسلامة النقل التاريخي من التزييف والتزوير.
غير أنّ ثمة إشكالية جوهرية تبرز هنا، تتمثل في أزمة الثقة في المنتج العلمي، خاصة عندما يصبح المحقِّق نفسه مصدرًا للتشويش أو الزيف، ما قد ينذر بحلول كارثة حقيقية، تتمثل في محو الذاكرة التاريخية لحضرموت، وهنا استحضر مقولة المفكِّر الأستاذ سالم مفلح ـ رحمه الله ـ إذ يقول فيها: (مَن يمحُ تاريخك يمحقْ مستقبلك).
وفي هذا السياق تأتي هذا الدراسة النقدية ـ لنصّ واحد ـ لتفكّكَ نموذجًا صارخًا لهذه الإشكالية، تتمثل في تحقيق الدكتور محمد بن أبي بكر باذيب لمخطوط تاريخي ينسبُ للمؤرخ عبدالرحمن بن عليّ بن حسّان المتوفى سنة 818هـ .
نُبرز من خلالها كيف يُمكن أن يتحوّل التحقيق العلمي ـ الذي يُفترض به أن يكون أداة ضبط وتوثيق ـ إلى مصدر للتشويش عندما يُدار بمنهجية غير رصينة، وما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على المصداقية العلمية، والذاكرة التاريخية لحضرموت.
لقد أخرج لنا الدكتور باذيب كتابًا زعم فيه أنه تاريخ ابن حسان ـ دراسة وتحقيق ـ، هذا الكتاب انتظره الباحثون كثيرًا، وظل محجوبًا عن الأنظار لعقود حتى أثيرت الكثير من التساؤلات عن أسباب هذا الحجب: هل يعود ذلك لاحتوائه على معلومات وأسرار صادمة تتعارض مع السرديات الرسمية؟ أم أن النسخة كانت تعاني من علل نصيّة يتعذَّر نشرها؟ أم أنَّ هناك نصوصاً إشكالية دفعت الأجيال السابقة إلى إخفائها؟ أم أنه كان يحتوى على كل هذه الأمور مجتمعة مما حال دون إخراجه، فتردّد فيه المتقدمون، وتقدم باذيب ليقوم بهذه المهمة التي لم يجرؤْ على القيام بها غيره من أنصار الرؤية السائدة؟
قبل صدور هذا الكتاب حصلتُ على نسخة من المخطوط، وما لفت انتباهي فيه هو وجود معلومة خطيرة تتعلق بالشيخ علي بن محمد بن جديد، وهي معلومة تجنّبَ مؤرخو حضرموت ذكرَها، وقد تساءلتُ حينها؛ كيف سيتعامل الدكتور باذيب مع هذه المعلومة ـ نصًا وتعليقًا ـ وعند مقارنة المخطوط بالنسخة المحققة تبين لي أن المحقِّق قد مارس تلاعبًا واضحًا في تقديم هذه المعلومة عبر إدراج عناوين فرعية غير موجودة في الأصل، وتقديمها بطريقة مضلِّلة تخالف سياقها الأصلي.
وعندما نبّهتُ على تدخّل المحقِّق، وأنّ تقديمه لهذه المعلومة بهذه الطريقة يهدف إلى طمس الحقيقة، ويتعارض مع النص الأصلي، كان ردُّه: (هذا كلام غريب ومتعسِّف، وإن جميع المؤرخين يعلمون أن بني جديد فرعُ بني أحمد بن عيسى، وبنو عمومتهم بنو علوي وبنو بصري، ولم أقطع كلام ابن حسان بل أوردتُه كما هو، التفقير الذي تم متناسق تمامًا مع سياق أصل ابن حسان = السلوك للجندي) ا هـ.
فكانت هذه الدراسة التي تهدف إلى تسليط الضوء على التلاعب الواضح الذي قام به المحقِّق باذيب، وكان تركيزي على موضع واحدٍ من المخطوط المنسوب لابن حسان، والذي يعاني في الأصل من نقص المعلومات الأساسية مثل العنوان، واسم الناسخ، وتاريخ النسخ.
لقد مارس باذيب في تحقيقه تدخّلات مشبوهة طالت النصَّ الأصلي والتعليقات الهامشية، مما يطرح أسئلة عن مدى شرعية عمله: فهل كان باذيب أمينًا على التراث أم أنه أراد أن يعيد تشكيله وفقاً لرؤيته؟
لا يقتصر نقدنا هنا على كشف الأخطاء التي وقع فيها المحقِّق، بل ينطلق من رؤية أعمق من ذلك، كون التحقيق العلمي للمخطوطات هو خط الدفاع الأخير ضد تزوير التاريخ، خاصة عندما يتعلق الأمر بأنساب الشخصيات وهُوِيَّاتها إذ تُبنى حقوق وتُسقط شرعيات، فهل كان تحقيق باذيب جسراً يوصلنا لمعرفة الحقيقة التاريخية أم أنه كان حاجزاً أمامها؟
نقد تدخلات وتعليقات المحقق باذيب:
يُمثّل تزييف المخطوطات والتلاعب بمحتواها سواء على مستوى النص الأصلي، أو التعليقات المصاحبة خطراً جسيمًا يهدد ذاكرة الشعوب، ويُحدِثُ انحرافًا خطيرًا في مسار التاريخ، قد ينبني عليه تزييف في الوعي، ولا يتم ذلك إلا إذا فقد المخطوط أهم العناصر الأساسية من هُوِيَّته، كصفحة العنوان أو المقدمة أو الخاتمة أو اسم الناسخ وسنة النسخ، فكيف إذا اجتمعت هذه العيوب كلها في المخطوط الذي نسبه باذيب إلى ابن حسان، والذي يعاني أيضًا من كونه نسخة فريدة، فيجعله عرضة للعبث والتدخلات المختلفة من حذف وزيادة دون حسيب أو رقيب.
واستناداً إلى ما أشرنا إليه في مقدمة البحث بشأن المعلومة المهمَّة التي تمثل محور هذا التحليل، وما تعرض له نصها من تحريف على يد المحقِّق نعرض هنا النص بكامله لغرض التحليل النقدي.
النصّ في النسخة المطبوعة
ورد في الكتاب المنسوب إلى ابن حسان عند ذكر آل باعلوي وكانوا بيت فقه: (منهم: حسن بن علي أبا علوي، ومنهم: الفقيه علي أبا علوي، وهو الذي كان إذا تشهد وقال السلام عليك أيّها النبي فلا يزال يردِّد حتى يرد عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وولداه محمد وعبد الله [نسب آل باعلوي] ونسبة آل أبي علوي أول أجدادهم. [الشريف ابن جديد العلوي] علي بن محمد بن أحمد بن جديد بن علي بن محمد بن جديد بن عبد الله بن أحمد بن عيسى…).([1]) انتهى، وستتركز دراستنا النقدية بشأن التحريف الذي طال النص، والتعليقات المصاحبة له من قبل المحقِّق باذيب في النقاط الآتية:
ـ الأولى: تلاعبه في نص المخطوطة.
إن النصّ كما ورد في المخطوط هو على النحو التالي: (ومنهم: الفقيه علي أبا علوي، وهو الذي كان إذا تشهد وقال السلام عليك أيها النبي فلا يزال يردد حتى يرد عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وولداه محمد وعبد الله، ونسبة آل أبي علوي أوّل أجدادهم علي بن محمد بن أحمد بن جديد…).
فقام المحقِّق بتقسيم النص الأصلي ووضع فيه عنوانين على هذا النحو: (وولداه محمد وعبدالله [نسب آل أبي علوي] ونسبة آل أبي علوي أول أجدادهم [الشريف ابن جديد العلوي] علي بن محمد…)، وهذا تدخّل سافر من قبله، ثم ذكر المحقِّق في الهامش أن العنوان الأول أخذه من هامش الأصل، لكنّه لم يوضح أين وجد العنوان الثاني، وهذا يُعَدُّ تلاعبًا في نص المخطوط، فهو لمْ يُشِرْ في التعليق إلى تدخله في العنوان الثاني، الأمر الذي يهدف إلى التشويش على أهمية المعلومة التي قام بتقطيعها، ويفتح المجال للتساؤل البسيط لماذا يمرُّ على عشرات التراجم ولا يقوم بوضع عناوين لها كما فعل هنا، وقد رصدنا أيضًا تدخّلًا آخر بوضع عنوانٍ من عنده وهو: [الفقيه محمد بن علي باعلوي ونسبته الشريفة]([2])، علمًا أن هذا اللقب لم يكن معروفًا في زمن ابن حسان، وفيه إيهام خطير، وسيأتي ذكر ذلك.
ـ الثانية: تجاهله التعليق على نص محوري يخالف الروايات المتداولة.
يتضمن نص المخطوط معلومة محورية تفيد بأن أول أجداد آل باعلوي الذين يتحدث عنهم ابن حسّان هو علي بن محمد بن جديد، هذه المعلومة على الرغم من أهميتها البارزة لم تُنقَل من قبل أي من المؤرخين الذين استشهدوا بابن حسان.
ويُشكّل هذا النص مخالفة صريحة لما ورد في كتاب البرقة المشيقة وكتب المناقب كالغرر والمشرع التي قامت بتزوير معلومات، والتي جعلت أول أجداد آل باعلوي شخصية أطلقوا عليها “خالع قسم ، يتجلى هذا التناقض بوضوح في كتاب البرقة المشيقة ورد فيها ما يلي: (نسب آل باعلوي من أوّل أجدادهم الشيخ الإمام واحد زمانه الذي إذا قال في أي وقت في صلاة أو غيرها ببلدة تريم أو غيرها من البلاد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سمع في ذلك الوقت كشفاً المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول له: وعليك السلام يا شيخ، شيخنا الإمام الشيخ علي بن علوي بن محمد بن علوي…)([3])، فما أورده صاحب البرقة هنا يتعارض مع نصّ المخطوط الذي يحدد أن أول أجداد آل باعلوي هو علي بن محمد بن جديد، مما يدل على وجود انتحال وتزوير بهدف الاستفادة من ذكر ابن جديد في السلوك والمخطوط.
إن تجاهل المحقق التعليق على هذا النص المحوري، الذي يكشف بوضوح عن عملية تزوير متعمدة وانتحال للنسب، لا يخدم الحقيقة العلمية بأي شكل من الأشكال، بل يشير إلى تواطؤ وانحياز صارخ، يسعى إلى خدمة أجندة خاصة تهدف لتثبيت نسب مدعى.
وما ورد عن ابن حسان وقام بتقطيعه المحقِّق بعنوان من عنده، ثم تجاهله في التعليق أكّده بوضوح صاحب النفحة العنبرية عند الحديث عن علي بن محمد بن جديد فقال ما نصه: (ومن ولد عيسى السيّد أحمد المنتقل إلى حضرموت، فمن ولده هناك السيّد أبي الجديد… فمن ذريته ثمة بنو أبي علوي وهو أبو علوي بن أبي الجديد)([4]).
ويمكن القول إن هذين النصين التاريخيين يُكمّل بعضهما البعض، وبالتالي يقدمان صورة مختلفة تماماً عما هو مذكور في المرويات المزوَّرة، كما إن بعض العبارات الواردة في نص الجنَدي تتَّفق مع ما ذكره صاحب النفحة العنبرية وابن حسان بشأن ابن جديد؛ إذ يذكر أنه من أشرافٍ يُعرَفون بآل أبي علوي.
إن نص ابن حسان والنفحة العنبرية يصرِّحان بأنَّ ذرية ابن جديد المذكورين هم آل أبي علوي تصريحًا ينفي أي لبس، فعمد المؤرخ علوي بن طاهر الحداد في كتابه عقود الألماس عند استشهاده بقول صاحب النفحة إلى حذف الحقيقة وبترها، التي تتعارض مع مرويَّاتهم في دلالة على معرفة أهمية هذا النص([5]).
ـ الثالثة: إدعاءاته غير المبرَّرة حول نسب آل جديد.
إن نص الكتاب المنسوب إلى ابن حسان يشير إلى سلسلة نسب ابن جديد، وهو يتفق مع السلوك والعقد الفاخر وتحفة الزمن، ولم تشر هذه المصادر إلى أحد يدعى علوي وبصري ابني عبد الله، وقد زعم المحقق في سياق رده على تنبيهي في إقحام عنوانين بقوله: (إن جميع المؤرخين يعلمون أن بني جديد هم فرع من بني أحمد بن عيسى، وبنو عمومتهم بنو علوي وبنو بصري).
وهذا الادعاء جريء وغير مدعوم بالأدلة الصريحة، فالجدُّ الذي ينتسب إليه آل جديد كما في كتب تاريخ أهل اليمن ليس له علاقة إطلاقًا بثلاثية (علوي، وبصري، جديد) التي وردت في كتب المناقب الملفَّقة في نهاية القرن التاسع وما بعده، كالبرقة والغرر والمشرع، ولم تذكر هذه القرابة كتب أهل اليمن، فدعواه أن جميع المؤرخين… إلخ، باطلة، وهذه المصادر السابقة لم تذكر أخًا لجديد بن عبد الله.
ـ الرابعة: بين آل جديد وآل عبيد
عطفًا على النقطة السابقة التي ذكرت ابن جديد في سلسلة نسبه إلى جديد بن عبد الله وإبطال دعوى المحقق في ربط علوي بهذه السلسلة فإنه يتناقض في دعواه هذه مع الكتاب المنسوب إلى ابن حسان والذي قام بتحقيقه، فقد ورد عند ذكر الفقيه محمد بن علي باعلوي فإنه ذكر سلسلة نسبه إلى علوي بن عبيد بن أحمد قائلًا: (فاجتمعوا مع ما سبق من نسبة المؤرخ في أحمد بن عيسى وينظر لذلك)([6]). انتهى فقال المحقق باذيب معلقًا: (كذا في الأصل، وعند الجندي عبد الله، وشهرته في تواريخ بني علوي عبيد الله، قال الشلي: (وكان من تواضعه أن يستحسن تصغير اسمه، فسمى نفسه عبيد الله)([7])، وهنا اتضح جهل المحقق بالنصوص، ونكشف هذا الجهل في ما يأتي:
١ ـ الجندي إنما يتحدث عن ابن جديد، فلا حاجة لإقحامه هنا إلا إن كان يهدف إلى خلط المعلومات.
٢ ـ ابن حسان يفرق بين آل جديد بن عبد الله وآل علوي بن عبيد.
٣ ـ ما ذكره ابن حسان يتفق تمامًا مع ما يعرفه أهل حضرموت كما نقله الشيخ علي بن أبي بكر السكران بعد شعر باغشير وذكر علوي بن عبيد بن أحمد بن عيسى فقال: (هكذا هو هنا عبيد، وهو المعروف عند أهل حضرموت، والمسطَّر في كتبهم والمتداول في سلسلة نسبهم ونسبتهم أنه عبيد بن أحمد بن عيسى، وقد فهمتَ مما تقدَّم أولًا منقولًا من تاريخ الجندي، وتلخيص العواجي، وسبق به الكلام في ترجمة الإمام أبي الحسن علي بن محمد بن أحمد بن جديد أنه عبد الله بن أحمد بن عيسى، قال الجندي في تاريخه… إلخ، وقال بعد ذلك: (ولعلوي بن عبد الله بن أحمد بن عيسى بن محمد بن علي بن جعفر أخ اسمه الشيخ جديد بن عبد الله بن أحمد بن عيسى، وهو جد الشيخ الإمام أبي الحسن علي بن محمد بن أحمد بن محمد المكنى بجديد بن علي بن محمد بن جديد بن عبد الله بن أحمد بن عيسى، ولجديد بن عبدالله بن أحمد وعلوي بن عبد الله أخ اسمه بصري) انتهى ([8]).
ـ الخامسة: زعمه أن الفقيه علي باعلوي هو خالع قسم.
ذكر نص ابن حسان أن الفقيه علي باعلوي من آل باعلوي الذين أول أجدادهم علي بن محمد بن جديد، فزعم المحقق في تعليقه أن المراد به من يطلقون عليه خالع قسم، فقال: (هو الشهير بلقب خالع قسم، وتمام اسمه علي بن علوي بن محمد بن علوي توفي بتريم سنة ٥٢٧ هـ)([9])، ثم أحال على الجندي في السلوك، والعقد الفاخر، وتحفة الزمن، وهذا جهل أو تدليس، أو كلا الأمرين، ومغالطة للقارئ أن ما يقصده المؤرخون بعلي باعلوي المذكور أنه خالع قسم، ولإبطال هذه الدعوى يجب فك الالتباس، وتوضيح الخلط بين ما قصدتْهُ كتب التاريخ عند أهل اليمن، وبين ما ورد في البرقة المشيقة وكتب المناقب كالغرر والمشرع التي تضمَّنت التزوير، وذلك من خلال ثلاثة أمور، هي:
١ ـ علي باعلوي كما وردَ في كتب تاريخ أهل اليمن.
٢ ـ علي باعلوي كما تصفه البرقة وكتب المناقب كالغرر والمشرع وتطلق عليه خالع قسم.
٣ ـ كشف التزوير الحاصل في انتحال شخصية حقيقية مذكورة في مصادر تاريخية بشخصية أخرى غير مذكورة من خلال تحليل أوجه التباين والتناقض بين كتب التاريخ وكتب المناقب.
ـ بيان الأمر الأول علي باعلوي في كتب تاريخ أهل اليمن:
أ ـ ما ورد في السلوك للجندي ونصه: (ومن بيت أبي علوي قد تقدم لهم بعض ذكر مع ذكر أبي جديد… ومنهم علي بن باعلوي، كان كثير العبادة، عظيم القدر، لا يكاد يفتر عن الصلاة، ثم متى تشهّد قال السلام عليك أيها النبي، ويكرّر ذلك، فقيل له؟ فقال: لا أزال أفعل حتى يردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكان كثيراً ما يكرّر ذلك، ولعلي ولد اسمه محمد، ابن صلاح، وله ابن عم اسمه علي بن محمد بعض تفاصيل أبا علوي أيضًا، أحمد بن محمد، كان فقيهًا فاضلًا توفي سنة ٧٢4 هـ تقريبًا([10]).
ب ـ ما ورد في تحفة الزمن هو الذي ورد في السلوك نفسه، بتعبير: (وكان يكرّر في تشهّده السلام عليك أيها النبي مترشحًا لردّ السلام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وله ولد اسمه محمد فيه صلاح، وله ابن عم اسمه محمد بن علي بن أبا علوي، تفقه بفضل، من بيت باعلوي أيضا، وله ابن عم اسمه أحمد بن محمد، وكان فقيه فاضلا توفي سنة 724 هـ)([11]).
ج ـ ما ورد في العقد الفاخر في موضعين: الأول في ترجمة ابنه عبد الرحمن بن علي بقوله: (والده علي بن باعلوي كثير العبادة لا يفتر من الصلاة…)([12])، وسيأتي الكلام عن عبد الرحمن هذا في نقطة مستقلة، والموضع الثاني من العقد الفاخر عند ذكر حفيد علي باعلوي واسمه حسن بن محمد بن علي فقال: (وكان علي بن باعلوي مجتهدًا عظيم القدر لا يكاد يفتر عن الصلاة… وكان لعلي ابن اسمه محمد بن علي بن باعلوي، كان فقيهًا صالحًا، وله ابن عم اسمه أحمد بن محمد، كان فقيهًا فاضلًا توفي سنة ٧٢٤ تقريبًا قاله الجندي ولم يذكر تاريخ وفاة الباقين)([13]).
د ـ نص طبقات الخواص للشرجي: (أبو الحسن علي بن باعلوي الحضرمي، كان شيخًا كبيرًا مباركًا عابدًا مجتهدًا كثير العبادة، لا يكاد يفتر عن الصلاة، وكان إذا تشهد… وكانت وفاته لبضع وعشرين وسبعمائة، وكان له ولد اسمه محمد، كان فقيهًا عالمًا صالحًا، وآل باعلوي هؤلاء بيت علم وصلاح…)([14]).
فهذه النصوص تتفق مع ابن حسان وفيها توضيح وزيادات مهمة.
وبيان الأمر الثاني وهو علي باعلوي كما ورد ذكره في كتب النسب والمناقب.
أ ـ نص البرقة المشيقة قال ما نصه: (نسب آل باعلوي من أوّل أجدادهم الشيخ الإمام واحد زمانه الذي إذا قال في أي وقت في صلاة أو غيرها ببلدة تريم أو غيرها من البلاد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سمع في ذلك الوقت كشفاً المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول له وعليك السلام يا شيخ، شيخنا الإمام الشيخ علي بن علوي بن محمد بن علوي…)([15]).
ب ـ نص غرر البهاء الضوي، ونصه: (أبو الحسن نور الدين علي بن علوي بن محمد بن علوي بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى، ذكره الأئمة في طبقاتهم، وعلماء التواريخ، وأثنوا عليه ثناء عظيمًا، ومدحوه مدحًا جميلًا،…، توفي سنة اثنين وعشرين وخمسمائة، قال الفقيه عبدالرحمن بن الفقيه علي بن حسان في تاريخه: ومنهم الفقيه علي بن علوي، وهو الذي كان إذا تشهد، وقال السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته: لا يزال يردد حتى يرد عليه جده المصطفى صلى الله عليه وسلم وأولاده محمد، وعبدالله، وحسين)([16]).
ج ـ نص المشرع الروي: (وكان رضي الله عنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله عن أمور تشكل عليه، فيبينها له ويوضحها، وكان إذا قال في التشهد أو غيره السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يسمع المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول له وعليك السلام يا شيخ ورحمة الله وبركاته)([17]).
د ـ نص شمس الظهيرة:(علي المعروف بخالع قسم وهو المذكور في التواريخ كتاريخ الجندي والخزرجي والأهدل وطبقات الشرجي وغيرها، لكن الشرجي وهم في طبقاته في اسمه وتاريخ وفاته، فقال: إنه توفي لبضع وعشرين وستمائة، والصواب ما أملاه الشيخ أبوبكر العدني العيدروس في حاشيته على الطبقات أنه لبضع وخمسمائة، وسمَّاه محمد بن علي أظنه تبع في ذلك الجندي في تاريخه، والصواب ما ذكرناه توفي بتريم وقبره بتربتها مشهورة سنة 529 هـ)([18]).
أما بيان الأمر الثالث وهو بيان الخلط بين شخصيتين.
فذلك من خلال المقارنة بين المرويات المتداولة السابقة، فقد تبلورت لدينا ثلاث نقاط رئيسة، هذه النقاط المستقاة من سجلات أهل اليمن وحضرموت وكتبهم، تشير مجتمعة إلى هُوِيَّة شخصية حقيقية من خلالها يتضح أنَّ عليًّا باعلوي المشار إليه في تلك المصادر يختلف عن علي بن علوي الملقب بخالع قسم في مرويات كتب المناقب، وأن محاولة الربط بين الشخصيتين في تلك المرويات تمثل عملية انتحال واضحة، وتفصيل النقاط على النحو الآتي:
١- نسبة علي باعلوي.
في الوقت الذي يذكر مخطوط ابن حسان صراحة أن من آل باعلوي علي بن علوي يأتي قوله بأن أول أجدادهم هو علي بن محمد بن جديد، وهذا يخالف كتب المناقب المزوَّرة التي جعلت علي بن علوي ينتهي نسبه إلى علوي بن عبيد، وبين الأمرين كما بين المشرق والمغرب، فقد جعلت أول أجدادهم شخصية أسطورية أطلقوا عليها خالع قسم.
٢- أولاده وبنو عمومته.
حين توضح كتب التاريخ أن عليًّا بن علوي له ابنان هما محمد وعبد الرحمن، وحفيد هو حسن بن محمد، وابن عم هو أحمد بن محمد ت 724 هـ، فإن هذا لا ينطبق إطلاقًا على من يطلقون عليه خالع قسم، فلم يرد في ترجمته عندهم أن له ابنًا اسمه عبد الرحمن، كما لم يرد عندهم أن لوالده علوي أخًا اسمه محمد، بل قدمت خالع قسم كفرد ضمن سلسلة نسبية يبدو فيها والده (علوي) فريدًا ليس له إخوة لديهم أبناء ليصبحوا أبناء عم لخالع قسم، هذا الاختلاف ليس مجرد تفصيل، بل يُشير إلى أن الأصول العائلية للشخصيتين مختلفة تمامًا، مما يُقوّض مزاعم الربط بينهما.
٣- الفارق الزمني بين الشخصيتين.
نقطة الخلاف الأكثر حسماً تكمن في تاريخ الوفاة تلميحًا وتصريحًا، فالتلميح في ذكر ابن عمه أحمد بن محمد توفي ٧٢٤هـ والتصريح عند الشرجي في طبقات الخواص تُحدِّد وفاة علي باعلوي الحضرمي بوضوح بأنها كانت لبضع وعشرين وسبعمائة أي بين 720 و 729 هـ، هذه المعلومة تؤكد أنَّ عليًّا باعلوي المشار إليه في تلك المصادر عاش إلى القرن الثامن الهجري.
بالمقابل تُصِرُّ مرويَّات البرقة والغرر والمشرع على أن “علي بن علوي خالع قسم” توفي في القرن السادس الهجري، فغرر البهاء الضوي تحدِّد الوفاة بسنة 522هـ، في حين أنَّ شمس الظهيرة تُرجِّح 529هـ، وتذهب إلى حد اتهام الشرجي بالوهم في تاريخ الوفاة.
وهذا الفارق الزمني الكبير الذي يزيد على قرنين من الزمان هو تناقض قاطع لا يمكن تبريره بأي شكل، وهو يؤكد أننا أمام شخصيتين منفصلتين تمامًا من حقبتين تاريخيتين مختلفتين، إن محاولة التشكيك في صحة ما أورده الشرجي عن تاريخ وفاة علي باعلوي هي محاولة يائسة من قبل صاحب شمس الظهيرة؛ إذ إنَّ ما ذكره الشرجي تؤيده مصادر أخرى مستقلة ومتعددة، مثل الجندي والعقد الفاخر وتحفة الزمن، هذا الإصرار على فرض سرديَّة زمنية لا تتوافق مع الحقائق التاريخية الموثقة، يدعم بقوة فرضية الانتحال، وعليه فإن عليًّا باعلوي المشار إليه في المخطوط هو في الأصل من آل أبي علوي جديد، عاش إلى القرن الثامن الهجري.
ـ السادسة: إغفاله الأخطاء الواردة في النص.
ومن جهل المحقق في التعليق على النص الذي نحن بصدد تحليله عدم ملاحظته الخطأ الوارد فيه، والذي يناقض أصل الكتاب وهو السلوك، حيث ورد في النص عن علي باعلوي: (وولداه محمد وعبد الله) والذي في السلوك وتحفة الزمن: (له ابن اسمه محمد) وجزم في العقد الفاخر أن له ابن اسمه عبد الرحمن، فقال (أبو محمد عبد الرحمن بن علي باعلوي كان رجلًا صالحًا ناسكًا ورعًا، وكان والده علي بن باعلوي كثير العبادة لا يفتر من الصلاة وكان إذا تشهد في صلاته…)([19]).
ـ السابعة:دعواه أنَّ محمداً بن علي هو صاحب مرباط
ذكر نص ابن حسان أن الفقيه محمدًا بن علي من آل باعلوي الذين أول أجدادهم علي بن محمد بن جديد، فادعى المحقّق في تعليقه أن المراد به من يطلقون عليه صاحب مرباط فقال: (توفي سنة ٥٥٦هـ وهو الشهير بلقب صاحب مرباط)([20])، ثم أحال على السلوك، والعقد الفاخر، وتحفة الزمن، وهذا جهل أو تدليس، ومغالطة للقارئ أن مراد المؤرخين السابقين بمحمد بن علي المذكور صاحب مرباط، ولإبطال هذه الدعوى يجب فك الالتباس، وتوضيح الخلط بين كتب التاريخ عند أهل اليمن، وبين ما ورد في كتب المناقب من خلال ثلاثة أمور، هي:
١ ـ محمد بن علي كما تصفه كتب تاريخ أهل اليمن السابقة.
٢ ـ محمد بن علي كما ورد في البرقة والغرر والمشرع.
٣ ـ تحليل أوجه التباين والتناقض بين كتب أهل اليمن وكتب المناقب حول شخصية محمد بن علي باعلوي؛ لكشف التزوير الحاصل في انتحال شخصية حقيقية مذكورة في مصادر تاريخية بشخصية أخرى غير معروفة.
ـ محمد بن علي في كتب تاريخ أهل اليمن:
أ ـ ما ورد في السلوك للجندي ونصه: (ولعلي ولد اسمه محمد، ابن صلاح)([21]).
ب ـ ما ورد في تحفة الزمن عند ذكر علي بن علوي: (وله ولد اسمه محمد، فيه صلاح)([22]).
ج ـ ما ورد في العقد الفاخر في موضعين: الأول قوله: (وكان لعلي ابن اسمه محمد بن علي بن باعلوي، كان فقيهًا صالحًا)([23])، والموضع الثاني عند ذكر حسن بن محمد فقال: (وكان يحفظ الوجيز للغزالي غيبا وكان أبوه محمد بن علي صالحا)([24]).
ـ محمد بن علي كما ورد في البرقة والغرر والمشرع.
أ ـ نص البرقة المشيقة قال ما نصه: (أبو عبد الله محمد صاحب مرباط ابن علي بن علوي، كان إماما متفننا في جميع أجناس العلوم… وانتشرت علومه بجهات اليمن، وحضرموت وظفار انتشارًا عظيمًا…)([25]).
ب ـ وفي غرر البهاء الضوي: (وحذوا أولاده الأسياد الحافظ عبد الله، وعلي، وعلوي، وأحمد حذوه… وتوفي سنة 556 هـ)([26]).
ج ـ نص المشرع الروي: (ولد بتريم، ونشأ بها، وحفظ القرآن العظيم، وتربى في حجر والده، وتخرج به جماعة من السادة اشتهروا بالعلم والعرفان، والزهادة، منهم أولاده الأربعة: الشيخ الجليل عبد الله، والشيخ أحمد، والولي علي، ومنهم شيخ الإسلام سالم بن فضل، والشيخ علي بن أحمد بامروان، والقاضي أحمد بن محمد باعيسى، والشيخ علي بن محمد الخطيب، صاحب الوعل،… وكانت وفاته إحدى وست وخمسين وخمسمائة)([27]).
تحليل أوجه التباين والتناقض بين كتب أهل اليمن وكتب المناقب حول شخصية محمد بن علي باعلوي.
من خلال الاعتماد على المقارنة بين المرويات المتداولة السابقة تبرز ثلاث نقاط رئيسة، هي:
١- نسب محمد بن علي باعلوي.
في حين يوضح مخطوط ابن حسان أن محمدًا بن علي ينتمي إلى آل باعلوي، وأن أول أجدادهم هو علي بن محمد بن جديد تتناقض معه كتب المناقب المزوَّرة التي تزعم أن نسب محمد بن علي بن علوي ينتهي نسبه إلى علوي بن عبيد وتطلق عليه لقب صاحب مرباط.
٢- أبوه وأخوه وابنه.
تُظهر الكتب السابقة بوضوح أن والد محمد بن علي هو علي باعلوي وأن أخاه عبد الرحمن بن علي، وابنه حسن بن محمد الذي كان يحفظ الوجيز، هذه المعلومات لا تنطبق إطلاقا على الشخصية الملقبة بصاحب مرباط حيث لم يذكر في ترجمته أنه كان له ابن اسمه حسن، أو أخ اسمه عبد الرحمن.
٣ ـ الفارق الزمني الحاسم بين الشخصيتين.
تاريخ الوفاة يمثل نقطة خلاف حاسمة، ففي حين تذكر مصادر أهل اليمن أن وفاة أحمد بن محمد ـ ابن عم والد محمد بن علي ـ كانت سنة 724 هـ، مما يشير إلى أن محمدًا بن علي عاش إلى القرن الثامن الهجري، فإن كتب آل علوي بن عبيد تسجّل وفاته سنة 551هـ، أو 556هـ، هذا التفاوت الشاسع الذي يزيد على قرنين يؤكد بشكل قاطع أننا أمام شخصيتين متمايزتين تمامًا، تنتميان لحقبتين تاريخيتين مختلفتين، مما يجعل الربط بينهما غير مبرر.
ولتأكيد زيف ما أوردتْه كتب المناقب عن شخصية محمد بن علي باعلوي توجد هناك نقطتان حاسمتان في كتاب المشرع، الأولى؛ تتعلق بتاريخ ميلاد صاحب مرباط، والثانية؛ بمن تخرَّج به، كالشيخ علي بن أحمد بامروان، وسيتم دحضهما بالاستناد إلى مخطوط ابن حسان نفسه.
1 ـ نقطة ولادته
تعدّ نقطة تاريخ ميلاد صاحب مرباط التي ذكرها المشرع وهي كونه ولد بتريم ذات أهمية جوهرية حاسمة، وهذا الادعاء لا يتعارض مع كتب تاريخ أهل اليمن ومخطوط ابن حسان فحسب، بل يتناقض مع مروياتهم المزوَّرة، ففي الغرر عند ذكر انتقال آل أبي علوي إلى تريم قال: (قال الفقيه عبد الرحمن بن حسان: وفي سنة 561هـ حلّ أبناء علوي تريم، فعل ذلك علي بن علوي خالع قسم وسالم أخوه، وقبره معروف بها، فبعد ذلك انتقلوا إليها بأجمعهم مع بني عمهم جديد وبصري)([28]).
يثير هذا تناقضًا واضحًا؛ إذ كيف يمكن لمحمد بن علي بن علوي أن يكون قد ولد بتريم في حين والده انتقل إليها سنة 561هـ وكانت وفاة الابن سنة 556هـ؟ وللتغلب على هذا المأزق وتفادي التضارب بين سنة الوفاة وسنة دخول تريم فقد اختار صاحب المشرع سنة أخرى فقال: (وكانَ حلولُهم بمدينةِ تريمَ سنة 521هـ)([29]).
لكن تبقى هنا إشكالية أخرى تتمثل في أن سنة انتقالهم إلى تريم والتي نقلها صاحب الغرر عن ابن حسان لم تذكر في المخطوط الذي نسبه باذيب لابن حسان، وقد حاول باذيب إيجاد مخرج لهذا المأزق، فقال: (هذا النص غير موجود في كتابنا هذا، فهو إمَّا ضمن الأوراق الساقطة، أو أنه منقول عن (مناقب بني علوي) لابن حسان، وتقدم أيضَّا أن أقدم من نقله عن ابن حسان كان السيد محمد خرد في الغرر)([30]).
حتى وإن صحت تخمينات المحقّق باذيب وتبريراته فإن إشارة ابن حسان دخولهم تريم سنة 561هـ لا تعني آل علوي بن عبيد، الذين ينحدر منهم صاحب الغرر، بل يقصد بها آل علوي أول أجدادهم علي بن محمد بن جديد، فأين المخرج من هذا المأزق الذي أوقعهم فيه صاحب الغرر سواء صحّ نقله عن ابن حسان أم لم يصح.
2 ـ من تخرَّج به
تعدّ هذه النقطة مصدر إحراج كبير للمزوِّرين؛ إذ ذكر المشرع الروي أن من بين تلاميذ صاحب مرباط المتوفى سنة 556هـ جماعة، منهم الشيخ علي بن أحمد بامروان، لكن هذا الادعاء يتعارض مع ما جاء في الكتاب المنسوب لابن حسان ففيه: (وفي سنة 555هـ ولد الفقيه عليّ بن أحمد بامروان رحمه الله تعالى)([31]).
وهذا التناقض الصارخ يكشف بوضوح حجم التلاعب في التاريخ الحضرمي، وما قد يضع أكثر من علامة استفهام حول هذه الشخصية، وحقيقة وجودها التاريخي الذي وصفها الباحث الروسي (كنيش) بشبه الأسطورية إذ قال: (بالنسبة لمؤرخي السادة فإنّ هذه الشخصية شبه الأسطورية ـ صاحب مرباط ـ يكتسب أهمية مطلقة لشغل الحلقة الحرجة في سلسلة أنساب السادة ووضعهم ضمن الخارطة التاريخية في فترة غامضة جدًا)([32]).
كلام صالح الحامد:
قال في كتابه تاريخ حضرموت: (وفي المشرع أن صاحب مرباط ولد بتريم، وهذا الذي غير مرتاح إليه، ولست أدري كيف يكون هذا ووفاته سنة ٥٥١هـ، فهل ولد قبل تحول العلويين إليها عن بيت جبير؛ إذ لا يصح أن يكون، لأن أمه علوية النسب، وهي فاطمة بنت الشيخ محمد بن علي بن جديد، ولم ينقل أنَّ أحدًا من العلويين انتقل بأهله عن بيت جبير إلى تريم قبل عام إحدى وعشرين وخمسمائة، ولا يستقرب عقلًا أن يكون بعد تحولهم إلى تريم؛ إذ من المستبعد أن يكون عمره كله لا يزيد على نيف وثلاثين عامًا على أكبر تقدير، مع ما ذكر من تخرج أولاده به، وهم أربعة، ولو عقل تخرج أكبرهم به لما عقل تخرج أصغرهم وهو في أقل من عشر سنين مع تقاطر الناس اليه للأخذ عنه لا سيما شيوخ تريم وعلماؤها أولًا، ثم تحوله بعد إلى ناحية ظفار، وانتشار صيته، وأخذ الكثير في ذلك الصقع عنه، هذا مع ما رواه صاحب المشرع نفسه من كونه أخذ عن والده ولازمه، وأنه ألبسه وصافحه إلخ، مع أن والده توفي سنة اثنين أو نيف أو تسع وعشرين على أكبر تقدير، فهو على القول الأول توفي بعد سكنى العلويين تريم بعام واحد، وعليه يكون توفي وابنه – إذا كان صحيحًا انه ولد بتريم – ابن عام واحد، وعلى أكبر تقدير إذا صح القول الأخير من أن وفاة والده سنة تسع وعشرين يكون ابن سبع أو تسع سنين على فرض أن أمه تحولت إلى تريم وقد حملت به، ولا يوافق أخذه عن والده أو تخرّجه به، ثم إننا لو سلمنا هذا، وعدنا ففرضنا أنه احتضر وهو لا يزال في غضارة العمر في ثلاثين أو خمس وثلاثين عاماً على أكبر تقدير بفرض دخوله إلى تريم وهو حمل في بطن أمه تفريعًا على القولين من أن وفاته سنة إحدى أو سنة ست وخمسين، فلو فرض هذا وسلمنا جوازًا أن يكون وفاته في سن الشباب أفليس هذا مما يستحق التنويه به كلّ التنويه؟ وأن يشاد بهذا النبوغ المبكر المقتضي لتأهله لجثوم الكثير من مشايخ ذلك العصر بين يديه للأخذ عنه، وهو لا يزال في غضارة العمر، ومقتبل الشباب هذا إلى كونه غدًا ذا جاه عريض، وصيت طائر طبّق حضرموت وظفار بل وجهات اليمن ايضاً حتى أصبحت ملوك هذه الجهات تهابه وصار كل ذي سطو يخافه إلى غير ذلك؟؟. إن هذا مما لا يستسهل العقل إساغته، فالمستقرب أن الإمام صاحب مرباط ولد ببيت جبير، وتحول مع أبيه وعمه وبني عمومتهم إلى تريم سنة 521هـ إحدى وعشرين وخمسمائة، وأن الظاهر أن القول بكونه ولد في تريم ناشئ عن وهم وسهو، وسبحان من لا يسهو والله أعلم)([33]).
يكشف المؤرخ الحامد في تساؤلاته اضطرابًا وتناقضات خطيرة في الروايات التاريخية المتداولة بين مؤرخي آل باعلوي، لا سيما بخصوص شخصية صاحب مرباط هذه التناقضات تشير بقوة إلى غياب الدليل التاريخي وتثير شبهات جدية حول احتمالية التزوير وخلط الشخصيات، مما يقوض مصداقية تلك المرويات.
أبرز النقاط المثارة في نص الحامد:
١- تناقض مكان وتاريخ ميلاد ووفاة “صاحب مرباط” :تشير الروايات إلى ولادته في تريم ووفاته عام ٥٥١هـ، في حين أن العلويين لم ينتقلوا إلى تريم قبل عام ٥٢١هـ هذا الفارق الزمني الكبير لا يتوافق مع عمره المزعوم (٣٠-٣٥ عامًا) ولا مع ما يُنسب إليه من تخرج أبنائه وشيوخ كبار على يديه، هذا التضارب الزمني يوجه أصابع الاتهام نحو خلط متعمد في الأحداث والشخصيات التاريخية، وهذا يدعم ما ذهبنا إليه في تحليلنا السابق بخصوص علي خالع قسم وابنه وأنهما شخصيتان أسطوريتان ليس لهما وجود حقيقي في التاريخ.
٢- استحالة الأخذ عن الوالد زمنياً: رواية “صاحب المشرع” بأن “صاحب مرباط” أخذ عن والده تتناقض كليًا مع وفاة الأب عام ٥٢٢ أو ٥٢٩هـ. فكيف يمكن أن يأخذ الابن عن والده إذا كان قد ولد بعد وفاته بسنوات قليلة، أو كان رضيعًا لا يعي؟ هذا التناقض يدحض صحة الرواية ويؤكد وجود تزييف واضح في التسلسل الزمني.
٣- غياب التوثيق لنبوغ مبكر غير مسبوق: لو كان “صاحب مرباط” بهذا النبوغ الذي أهَّله لأن ينهل منه كبار المشايخ وهو في مقتبل العمر، لكان ذلك حدثًا تاريخيًا يستدعي توثيقًا واحتفاءً واسعين. غياب مثل هذا التوثيق البارز يعزز الشكوك حول صحة هذه الادعاءات المبالغ فيها، ويوحي بأنها قد تكون جزءًا من بناء أسطوري لا يستند إلى الواقع.
تساؤلات الحامد لا تمثل مجرد ملاحظات عابرة، بل هي تحليل نقدي معمق يكشف أن هذه المرويات تفتقر إلى الاتساق المنطقي والتاريخي، وهذا يقود إلى استنتاج أن غالب ما ورد فيها مبني على التخمين والتلفيق. هذه التناقضات بين مؤرخي آل باعلوي وغياب الرواية المتماسكة في مروياتهم تدعو إلى إعادة النظر في تلك الروايات بعين ناقدة بعيدًا عن العواطف والانحيازات التي قد تشوه الحقيقة التاريخية ولا تخدم البحث العلمي.
ـ الثامنة: عدم استدراك الحذف من النص.
من أوجه العيوب البارزة في تحقيق باذيب عدم استدراكه لوجود حذف في نص المخطوطة، وتحديداً في قوله: “(ومنهم حسن بن علي أبا علوي)” فالتصحيح الدقيق لهذه العبارة، كما هو موثق في عدد من المصادر التاريخية الموثوقة مثل كتاب “السلوك “و”تحفة الزمن “و”العقد الفاخر” هو: حسن بن محمد بن علي.
والأكثر إثارة للاستغراب هو تعليق المحقق على هذا الموضع بقوله: (ولم أجد في تراجم بني علوي من سمي حسن وانطبق عليه هذا الوصف نعم هناك حسن “الترابي” بن علي بن الفقيه المقدم ت ٧٢١ هـ)”([34]).
هذا التعليق يكشف عن جهل المحقق بسياق النص الأصلي؛ فالنص يتحدث بوضوح عن “حسن بن محمد بن علي أول أجدادهم علي بن محمد بن جديد”، وليس له علاقة بالشخصية التي ذكرها المحقق (حسن الترابي). هذا الخطأ ليس مجرد إغفال، بل هو دليل على عدم فهم المحقق لتسلسل الأنساب والشخصيات التي يتناولها النص، مما يؤدي إلى تضليل القارئ وتشويه الحقائق التاريخية.
خاتمة:
تكشف التحليلات السابقة عن وجود تلاعبات وإغفالات وأخطاء جسيمة في تحقيق “باذيب” للمخطوط المنسوبة لابن حسان، كان من المفترض أن يدفع غياب المعلومات الأساسية عن المخطوطة المحقق إلى توخي المزيد من الحذر والدقة، بدلًا من استخدامه كذريعة للتدخلات غير الشرعية دون دليل موثوق، تؤثر هذه الأخطاء في دقة التحقيق وتضر بالأمانة العلمية ومصداقية العمل البحثي بشكل عام، بناءً على الأدلة المقدمة في هذا النقد، ندعو المحقق “باذيب” إلى مراجعة شاملة لعمله وتقديم الأدلة الموثقة على كل ادعاء تم دحضه، وقد أشرنا في الدراسة النقدية ـ لنص واحد ـ إلى أمورٍ مهمة:
ـ إن الجدّ الذي ينتسب إليه علي بن محمد بن جديد كما في كتب تاريخ أهل اليمن ليس له علاقة إطلاقًا بثلاثية (علوي، وبصري، جديد)، ودعواه أن جميع المؤرخين يعلمون أن لبني جديد بني عمومة هم بنو علوي وبنو بصري باطلة، ونمهله سنة كاملة لإثباتها.
ـ إن ما زعمه في التعليق على علي بن علوي الذي ورد في المخطوط والسلوك أنه هو من يطلقون عليه خالع قسم زعم باطل، ونمهله سنة ثانية لإثبات دعواه.
ـ لا دليل على ما ادعّاه أنَّ محمدًا بن عليّ بن علوي الوارد في المخطوط والسلوك هو من يلقبونه بصاحب مرباط، ولإثبات هذه الدعوى يأخذ سنة ثالثة.
إن حماية التراث العلمي والتاريخي تتطلب منهجية صارمة لا تقبل التكهنات أو التلاعب. وفي مثل هذه المواقف، نتذكر قول الشاعر معروف الرصافي:([35])
إذا شطَّ جيلٌ خطّ مَن جاء بـعده أكاذيبَ عنه بالثنــاء تُزوَّقُ
فما كتب التاريخ في كل ما روَت لقرَّائها إلا حــديثٌ ملفَّقُ
نظرنا لأمر الحاضـــرين فرابَنا فكـيف بأمر الغابرين نصدِّقُ
وفي كتب التاريخ المزوَّرة المليئة بالمغالطات يأتي قول الرصافي:
أبت كتب التاريخ للحق ملتقى فبينهما من زخرف القولِ موبق
فإن شرّقت في الحق فهو مغرّب وإن غرّيت في الحقّ فهو مشرّق
تجورُ بها الأهواء جورا وإنــما على مزلقات المَين تمشي فتزلق
إن هذا النقد ليس سوى خطوة أولى نحو تصحيح مسار تحقيق كتب التراث الحضرمي، وتأكيد على أن التاريخ والأنساب لا يمكن أن تكون عرضة للاجتهادات غير المنهجية أو المصالح الشخصية التي تشوه الحقائق.
والله الهادي للصواب. 22 ذو القعدة من سنة ١٤٤٦هـ الموافق ٢٠ مايو ٢٠٢٥م
سالم القاضي باوزير
[1] ) تاريخ ابن حسان، دراسة وتحقيق محمد بن أبي بكر باذيب 2/ 427 .
[2] ) المرجع السابق ٢/ ٤٧٤ .
[3] ) البرقة المشيقة لعلي بن أبي بكر السكران (ص 151).
[4] ) النفحة العنبرية في أنساب خير البرية لمحمد الكاظم الموسوي ص ٥٢، فرغ من تأليفه سنة 991 هـ.
[5] ) عقود الألماس ص 147.
[6] ) تاريخ ابن حسان ٢/ ٤٧٤.
[7] ) المرجع السابق.
[8] ) البرقة المشيقة ص ١٥٠.
[9] ) تاريخ ابن حسان، دراسة وتحقيق محمد بن أبي بكر باذيب 2/ 426.
[10] ) السلوك في طبقات العلماء والملوك للجندي المتوفى سنة 732 هـ، ج 2 ص 463، تحقيق محمد بن علي الأكوع.
[11] ) تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن للحسين بن عبد الرحمن الأهدل توفي سنة 855 هـ، تحفة الزمن ٢/٤٢٨.
[12] ) العقد الفاخر الحسن في طبقات أعيان اليمن لعلي بن الحسن الخزرجي توفي سنة 812 هـ، ص 1150.
[13] ) المرجع السابق 2/ 727.
[14] ) طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص لأحمد بن أحمد الشرجي فرغ منه سنة 867، انظر ص 223 .
[15] ) البرقة المشيقة لعلي بن أبي بكر السكران (ص 151).
[16] ) غرر البهاء الضوي لخرد ص128-129.
[17] ) المشرع الروي للشلي 2/230.
[18] ) شمس الظهيرة للمشهور (ص70 – 71).
[19] ) العقد الفاخر الحسن في طبقات أعيان اليمن لعلي بن الحسن الخزرجي توفي سنة 812 هـ، ص 1150.
[20] ) تاريخ ابن حسان، دراسة وتحقيق محمد بن أبي بكر باذيب 2/ 427.
[21] ) السلوك في طبقات العلماء والملوك للجندي المتوفى سنة 732 هـ، ج 2 ص 463.
[22] ) تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن للحسين بن عبد الرحمن الأهدل توفي سنة 855 هـ، تحفة الزمن ٢/٤٢٨.
[23] ) المرجع السابق 2/ 727.
[24] ) العقد الفاخر الحسن في طبقات أعيان اليمن لعلي بن الحسن الخزرجي توفي سنة 812 هـ، ص 1150.
[25] ) البرقة المشيقة لعلي بن أبي بكر السكران ص 137.
[26] ) غرر البهاء الضوي لخرد ص 130.
[27] ) المشرع الروي للشلي 2/230.
[28] ) غرر البهاء الضوي ص 77.
[29] ) المشرع الروي ص 1/129.
[30] ) تاريخ ابن حسان دراسة وتحقيق محمد باذيب 1/ 129، في قوله (ومما نقله باحنان عن تاريخ ابن حسان قوله في جواهره وفي سنة 561هـ.
[31] ) المرجع السابق 1/ 31 هـ.
[32] ) السادة في التاريخ، دراسة نقدية في التاريخ الحضرمي، الكسندر كنيش، ترجمة الأستاذ محمد سالم قطن.
[33] ) تاريخ حضرموت لصالح الحامد 2 /464 ـ 465.
[34] ) تاريخ ابن حسان دراسة وتحقيق محمد باذيب 2/ 426.
[35] ) ديوان معروف الرصافي قصيدة (ضلال التاريخ) التي مطلعها:
أقول وطرفي في المحال محدِّقُ أبالدهر مسٌّ أم بأهليه أولقٌ