كتابات
طارق بن محمد سكلوع العمودي
كنتُ كتبتُ قبل سنين مقالة بعنوان: “من على فراش الموت كيف كان رد الإمام الألباني؟”
وقلت فيها: (إن الصورة التي نقلناها عن الألباني وهو على فراش الموت حريّ أن تلتحق بمثيلاتها عن العظماء المذكورين في الكتاب القيم الرائق الفريد: “على فراش الموت” للأستاذ الأديب طاهر أحمد الطناحي – رحمه الله -).
وقبل فترة وجيزة ؛ وبالتحديد في اليوم الأول من عيد الفطر المبارك من عامنا هذا (١٤٤٦ه / ٢٠٢٥م) كتبت مقالة بعنوان: “من درر فارتر” لأديب الألمان الكبير وفيلسوفهم يوهان غوته (ت ١٨٣٠م)؛ قلت في ختامها: ( كما ذكّرني قول غوته بقصةٍ لأمير الشعراء أحمد شوقي (ت ١٩٣٢م) – رحمه الله -، حدثتْ له في آخر أيامه، محزنة مؤثرة ذات عبرة وعظة، بما يدخل تحت مقولة غوته، لعلي أرجاؤها في مقالة مفردة، والله ولي التوفيق).
وها أنا اليوم بنعمة من الله وفضل؛ قد فسح وأذن لي بأن أوفي بمقصود ما ذكرت؛ بذكر قصة أمير الشعراء أحمد شوقي – رحمه الله – المؤثرة المحزنة المعبرة التي حدثت في أواخر أيامه؛ من ذلكم الكتاب البديع : “على فراش الموت” للطناحي – رحمه الله -.
لقد قرأتُها قديًما من سنين طويلة، ولطالما حدَّثتُ نفسي بإعداد مقالة لها، وكان يصرفني عن ذلك أمور، منها: كيف أجاري الطناحي في تعبيره وبلاغته الذي لا يجارى، وهل يصح ذكر قصة شوقي كذا بتمامها بالحرف – وهي طويلة – بقلم الطناحي الرشيق؛ ثم أعدُّ ذلك مقالة بقلمي؟!
هكذا جلستُ في حيرة، واضطربت أفكاري، من خلف قضبان الموانع التي حسبتُها موانع؛ وهي في الحقيقة صوارف ليس إلا، حتى مرَّت الأيام و السنون؛ ولكني لم أنس أبدًا قصة شوقي، ولا كتاب الطناحي، فمتى ما سنحت الفرصة ذكرتهما في مقالاتي، وما في صدر مقالي هنا إلا تمثيل وتدليل على ذلك.
واليوم قررت ذكر قصته؛ ولو كان مجرَّد نقلٍ، مادام في ذلك فائدة للقارئ وعظة وعبرة، وإيقاظ للقصة من رقادها في ذلكم الكتاب العتيق، من خلال إحيائها بذكرها.
وزاد إصراري على ذلك، من أنَّ الغالب الأعم؛ إنْ لم يكن على التمام؛ إغفال تلكم القصة التي بطلُها شوقي عند مترجميه، ولولا تسطير الطناحي لها لما علمْنا بها أصلًا.
وأحمد شوقي شخصية سامقة عالية، حياته حافلة بالأحداث والخطوب، واختلفت فيها الآراء في جوانب معينة، وخاصة في تلقيبه بأمير الشعراء.
وكنتُ في كتابي المطبوع: “كل ما هو حضرمي من العود الهندي”، (ص٤٢) عقدتُ عنوانًا هو: (المصنِّف وأمير الشعراء أحمد شوقي)، وأقصد بـــ (المصنّف) العلَّامة الفقيه الأديب عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف (ت ١٣٧٥ه) – رحمه الله -؛ إذ ذكر له بيتًا؛ هو:
مرحبًا بالربيع في ريعانه *** وبأنواره وطيب زمانه
فكتب مقالة في نقده، فلتنظر هناك لمن رام التفصيل.
وفي: “إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت” للسقاف كذلك، (ص٨٦٩) قال بالحرف: (أمَّا شوقي؛ فلم أقرأ شعره إلا بعد ذلك، فلم يكن عندي شيئًا في جانب جيد حافظٍ، وما أرى إغراق بعضهم فيه وتأميره وتفضيله إلا من جنس تفضيل جرير على الفرزدق، بدون حق، حسبما فصَّلتُه بدلائله في “العود الهندي”).
قلتُ: وهذا مثال عابر ذكرتُه حيال اختلاف الناس في أحمد شوقي، وما الاختلاف في شخصيته؛ إلا دلالة على بُعْدِ صيتها، وتأثيرها فيما تكتب أو تقول.
وحقيقة القول: إنَّ أحمد شوقي ترك خلفه إرثًا أدبيًّا لا ينكره أحد، فهو شاعر القصر، وهو الشاعر المنفي، وهو شاعر الوطن والشعب، فمن قال عنه أمير الشعراء ما كذب.
واشتهر عنه أن آخر ما كتبه هو:
قِف دوّن رأيكَ في الحياة مُجاهِدًا *** إنّ الحياة عقيدةٌ وجِهادُ
ما دامَ هذا العُمر يأتي مرّةً *** مُتْ واقِفًا .. يُقهر بِكَ الجلّادُ
قالوا: كتبَ ذلك ليلًا، فأصبح ميتًا – رحمه الله -.
ولنعد إلى صلب موضوعنا من خلال ما نثره الطناحي، فلتُنصِتْ أخي القارئ، ولو كان بجانبك فنجان من القهوة لكان أحسن، وافتح قلبك قبلَ عقلِكَ لما هو آت. علمًا أني قد أتجاوز بعض الأبيات والكلمات؛ طمعًا في الاختصار؛ غير المخلِّ قطعًا.
لـمَّا قال أمير الشعراء أحمد شوقى في رثاء شاعر النيل حافظ إبراهيم:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي ***
يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامة ***
قدر، وكل منية بقضــــــــــــــــــــــاء
قلنا: لقد نعى أميرُ الشعراء نفسَهُ، وآذنت شمسُ حياته بالمغيب، وما نحسب أنه مقيمٌ بيننا طويلًا، وقد لا ينتهي العام، حتى نفتقده بين الصفائح والرجام.
وكنا وقتئذ في آخر يوليو سنة ١٩٣٢م، ولم يجفَّ دمعنا على شاعر النيل، ثم مضتْ بعدَ وفاته ثلاثة وثمانون يومًا، وفي صبيحة اليوم الرابع والثمانين – وهو ١٤ من أكتوبر – طوى مصر والجزيرة العربية والشرق كلَّه نبأٌ، فزعت فيه دولة الأدب بآمالها إلى الكذب ؛ لأنه كان نبأً مفاجئًا، ولأنها كانت تتمنى لشوقي حياة طويلة، ولها من نبوغه ثروة جديدة.
وقبل أن يموت بأيام عاد في المساء إلى داره «كرمة ابن هاني»، فلمَّا دخلَها وقف بالحديقة وقال لسكرتيره:
كم قبرًا تسعُ هذه الدار؟
فدُهِشَ السكرتير، وقال له:
ولماذا هذا السؤال يا باشا؟!
فقال: لا شيءَ، لكنَّهُ خاطرٌ مرَّ بنفسي، فذكرتُ الموتَ، وطالما خالجتْني ذكراه في هذه الأيام، فهَبْ أنِّي مِتُّ فماذا يكون؟!
_ عشتَ يا أمير الشعراء، ولا رُوِّعَتْ فيك مصر، ولا نجع بك الشرق العربي.
– لا تخف فليس الموت بالمصيبة العظمى، وقد يكون منجاة من حَسَدِ حاسدٍ أو حِقْدِ حاقد، والقبر أبقى من هذه الدار، وهو لا يشغل غير عشرة أمتار، أمَّا هي فقد شغلتْ خمسة آلاف مترٍ، فلو بُنِيَتْ في مكانها قبورٌ لاتَّسعَتِ الخمسُمائة قبر، أليس كذلك؟
فأُسْقِطَ في يد السكرتير، وعاد شوقي فاستأنفَ كلامَهُ، فقال: أيْ إنَّ “كرمة ابن هاني” تشغلُ من الأرض ما يكفي ثلاثة آلافٍ من الموتى. فما أعظمَ طمعَنا في دار الفناء!، وقناعتَنا في دار البقاء!.
_ أراك اليوم تذكَّرُ الموت، وقد نهيْتَنا عن ذكره في مجالسك، وتمنَّيْتَ لنا منه النجاة.
_ نعم، ولكنِّي ما خِفْتُهُ يومًا، وما ذَمَمْــتُهُ قطُّ، ولا لُذْتُ منه بالفرار، ولا نقمتُ لأجله على الأقدار.
أنا من لا يرى الفرار من المو ***
ت، ومن لا يرى من الموت بُدَّا
إنما الموت منتهـــــى كــــل حـــي ***
لم يصبْ مالك من الملك خلدا
سنــــــــة الله في العبـــــــــــــــــاد، وأمــر***
ناطق عن بقائـه، لـــــــــــــــــــــــــــــن يردا
ولماذا الفرار من راحةٍ بعد عناء، ونعيم بعد شقاء، فإنَّ الحياة كعهدك بها معصية، عن الحظيرة مقصيَّة، وخلوة حلوة عواقبها نقص، ومشاربها غصص، أفعى خداعة، ولذَّة لذاعة، شوك بعض الورد، وقذى نقص الورد، أمور شتَّى الأعنَّة، وحوادث وقع وأجنَّة، فقُلْ لمن أطال التفكير، وبالغ في التفكير، وكدَّ باله، ومد بلباله، واحترق احتراق الذبالة:
خل اهتمامك ناحيه ***
وخذ الحياة كما هيه
ولنعد إلى ” كرمة ابن هاني”، أليستْ واسعةَ الجوانب؟ ثم أليستْ تتَّسع الخمسمائة قبر، في كل قبر ستةُ أموات، فتكفي إذن ثلاثة آلاف ميت؛ فبئس حرص الإنسان، وبئست نفسه المدمنة على الشهوات.
أين روميةُ وقَيصرُها، وجنَّةُ الطَّــلْحِ ومعتمدُها، وأين نابليون وصولته، وصقرُ قريش ومنيته؛ لقد صار القصرُ له قبرًا، ثم ذهب القبر وصاحبه، وأصبح ذكرًا في الأفواه، وخاطرًا في النفوس، أو سطرًا في الطروس.
ثم ماذا، أنَسِيتَ السؤالَ:
كم قبرًا تسع هذه الدار ؟
– .. .. .. ..
– أليستْ ” كرمة ابن هاني” تسع خمسمائة قبر؟ وأليست هذه القبور تتسع الثلاثة آلاف من الموتى؟ ثم ألسنا مسرفين جدًا؟. لقد شغلنا من الأرض كبيرًا، وعطَّلنا من منافع الناس كثيرًا. فبُعدًا لطمع الإنسان يطلب الجاه، ويستزيد من المال، ويستعمر من الأرض آلافًا، ويكلِّفُ نفسه المتاعب، ويبني حولَ حجرته حجرات، وفوق طبقته طبقات، ويرجو أنْ ينطح بها عَنَانَ السموات، وما درى أنَّ الحياة دقائق ولحظات. فما أضلَّه وأعجب عقله!. لقد شغل بنفسه عن رَمْسِهِ، ونسي أنه زائلٌ ولو طال به المدى، وأنه واصل ولو أبطأت به المطيَّة.
إنِّي لأشعر بتعب في هذه الأيام، وقد استهلك جسمي الضعفُ، وعصرتني الشيخوخة، فما أبقتْ مِنِّـي غيرَ مُخٍّ في عظام، وما أحسبُ أنِّــي مقيمٌ طويلًا، فيا ترى على أية الحالين يأتيني الأجل؟ أبعدَ الرُّقادِ أيَّامًا؟ أمْ في غفلةٍ من النفس، وسِنَةٍ من الحسِّ:
وأيُّ المصرعَيْنِ أشدُّ، موت ***
على علم ، أم الموت الفوات
وهل تقع النفوس على أمان ***
كما وقعت على الحرم القطاة
وكان أمير الشعراء قد اشتد ضعفُه في السنوات الأخيرة، وبدا أكبر من سنه، وقد دفعته شدة ضعفه إلى زيادة عطفه على الفقراء ومواساة البؤساء، وكان يقول: (حسبي أن أسمع من إنسان أنه مريض، أو ضعيف أو بائس، فيعروني ألـمٌ عميق، ووَجْدٌ شديد، هل ترونني أزورُ الآن العظماء أو ذوي الجاه؟ لا، إنني ضعيفٌ وأُحِبُّ الضعفاء).
وكان شوقي قد أصيب بمرض تصلُّب الشرايين، وكانت أعصابه طول حياته ضعيفة، وقد زادت ضعفًا بهذا المرض، وبما كان يبذله من مجهود أدبي في شیخوخته، فأصبحتْ تتأثر بأقلِّ مؤثِّر، حتى تكاد تتأثر بخطرات النسيم، أو بلمس الحرير. وكان إذا دخل عليه إنسان مِـمَّنْ يعرفُهم ومَنْ لا يعرفهم اختلجتْ أعصابُه، فيسلِّم عليه في حركة عصبية ترتعشُ لها يدُه، ويمكثُ نحو دقيقتين في هذه الرعشة فلا يطمئن الزائر إلى حديثه إلا بعد بُرهَةٍ، أو بعد أن يشرب القهوة.
وقد نصحه طبيبُه كثيرًا بالكفِّ عن العمل والإنتاج، والانقطاع إلى الراحة من عناء الحياة، ولكن العمل الأدبيَّ له طبيعة، والإنتاج الشعريُّ له دَيْدَن، فكان من المحال أن يحقّق رجاء الطبيب.
واستمر يسهر الليل كله، ويعاني قرض الشعر، وتأليف الروايات، حتى نزلت به المنيَّة فجأة بعد ما مهَّد لها بهذا الضعف الجسمي، والمجهود النفسي الذي كابده أربعين عامًا، فخلف للأدب العربي ثروة ضخمة، وبنى لنفسه مجدًا خالدًا.
وكانت أوائل أكتوبر، فاعتزمتْ جمعية القرش إقامة احتفال في يوم ١٤ من هذا الشهر لافتتاح مصنع الطرابيش، ورغبتْ إليه أن يتوّج هذه الحفلة بقصيدة من قصائده، فنظم لها هذه القصيدة:
الملـــــــك بالمال والرجـــــــــــــال***
لم يبن ملك بغير مال
والمال ركن الشعوب يؤوى***
إليــــه في السلم والقتال
ثم قال:
الحمد لله قـــــــــــــــــــام منـــــــا ***
أواخر تممـــــوا أوالي
وسد جيل مكان جيل ***
لله من سابق وتال
وما درى أحدٌ أن أمير الشعراء سيغادر عالم الشقاء في اليوم الذي تُلقَى فيه آخر قصيدة له وهو على فراش الموت.
ففي اليوم السابق لهذا اليوم أحسَّ شوقي بتحسُّنٍ في صحته، فطابت نفسُه الصباح، ذلك اليوم الهنيء، الذى ذاق فيه من لذة الشفاء مالم يَذُقْهُ منذ سنوات، وكاد يستعيدُ بما خالجه من طربٍ وسرور بهجة الماضي، وما طوى فيه من عيشٍ ظليل، وعهد باسم الوجنات جميل.
وفي منتصف السابعة مساءً ركب أمير الشعراء السيارة مع سكرتيره، وذهب للرياضة في مصر الجديدة… وفى الطريق قال له:
أراني اليوم منشرح النفس جدًا، فإني أشعر براحة تامة، واعتدال في بنيتي، وقد تناولت الغداء بشهوة.
وفى عودته مرَّ بأحد المطاعم، فتناول فيه العشاء، ثُمَّ توجَّه إلى دار الجهاد، فدخل حجرة السكرتير، وعلم الأستاذ توفيق دياب بقدومه، فانتقل إليه، قدَّم له شوقي بك سيجارة، ولاحظ الأستاذ دياب أنه يسعل سعالًا خفيفًا، فسأله عمَّا به؟ فأجاب:
_ ذلك برد بسيط، وهو عارض منتشر في هذه الأيام.
_ لعله من اختلاف الفصول.
_ أظنُّ ذلك.
ومكث شوقي إلى الساعة الحادية عشرة، ونهض قائلًا: (إنِّي ذاهبٌ إلى داري لأستريح، وألتمسُ شيئًا من الدفء).
وركب السيارة حتَّى وصل إلى “كرمة ابن هاني”، وقبل أن يدخل غرفته وقف برهة في الحديقة، وقال لسكرتيره:
_ هيه كم قبرًا تسع هذه الدار ؟
_ لماذا يا باشا نعود إلى هذا السؤال؟!
_ لا شيء… لكنه خاطر مرَّ بنفسي كما مرَّ بها منذ أيام.
_ إنه خاطر يمر كثيرًا بنفوس الناس، وهو وَهْمٌ باطل.
_ بل إنَّ الموتَ حقٌّ .. ثم .. ألمْ أَقُلْ لك: إن هذه الدار تسع خمسمائة قبر، وإنها تتَّسع لثلاثة آلاف من الأموات.
_ لقد ذكرتَ لي إنك بصحة جيدة، فلماذا هذا الخاطر المخيف.
_ لا شيء .. لا شيء .. اذهبْ ونم.
وأوى أمير الشعراء إلى مضجعه، وأراد النوم، فاعتراه أرقٌ وسُعَال، فتدثَّـر حتَّى دفئ، لكنه لم يسكن إلى الدفء، ولم يطمئنَّ إلى الفراش، وشعر بآلامٍ في صدره، ثم ضيقٍ في تنفُّسه فأيقظَ الخادمَ وأمرَهُ أن يقوم بإسعاف خاصٍ بالتصلُّب الشرياني، فلمْ يُفِدْهُ هذا الإسعاف. فأمره أن يستدعي الدكتور جلاد، وأن يوقظ أسرته.
وكان الموت يسرع إليه الخطى، وينشر أجنحته على سريره، ويناجي شاعرًا طالما ناجى النُّجُومَ في أفلاكها، والطَّيرَ في أجوائها، والأزهارَ على أفنانها، وطوى القرون القهقرى حتى أتى الرشيد في ناديه، والمأمون في مغانيه، وسيف الدولة في مجالس متنبِّيه، فسحر النفوسَ بعجائبَ سِحرِهِ، وامتلك القلوب بعظمة شعره، وشأى الأوائل بعظيم إنتاجه، وبزهم بفيض نفسه، وباهر تفنُّنِه.
وعاد الخادمُ، فوجد سيِّدَهُ يجودُ بنفسه، فطمأنه إلى حضور الطبيب.
فقال شوقي:
لا أملَ بعدَ الآن. إنَّ أمري قد انتهى، فسلام على أولادي وأصدقائي.
وحضرت السيِّدة زوجتُه وأولادُه، فرأوه في النزع الأخير، فارتاعوا. وجاء الطبيب، فوجد الشاعر العظيم يختتمُ حياةً لم تتح للعربية منذ أجيال.
قلتُ: هذا كل شيءٍ، مِـمَّا سطَّره يَــرَاعُ الطناحي حِيَالَ الأيام الأخيرة، ثم الساعات المتعاقبة، فالدقائق والثواني النهائية من أنفاس الشاعر والأديب الكبير أحمد شوقي.
فكَمْ فيها من عظات، وعبرات؛ تسيل لها الدموع، وتحفر لوعةً، بل لوعات في خلجات النفس لا تمحى، بل من الصعب التعبير عنها، مع خيانة القلم في تبيينها.
ويبقى سؤالُ شوقي الكبير الذي كرَّره قبل موته بأيام، ثم أعاده قبل سويعات من لقاء ربه ذي العزة والجلال والملكوت: كم قبرًا تَسَعُ هذه الدار؟
*انظر: “على فراش الموت”، (ص١٥١-١٥٧).
ودارُ (كرمة ابن هاني)، هُو المنزلُ الذِي قضَى فيهِ أميرُ الشعراءِ «أحمد شوقي» أزهَى سنواتِ عمرهِ، تمَّ تحويلهُ فِي عام 1973م إلى متحفٍ وصرحٍ ثقافيٍّ في عهدِ الرئيسِ الأسبقِ محمد أنور السادات.
أطلقَ علَى منزلِهِ لقبَ «كرمة ابن هاني» تيمُّنًا بالشَّاعرِ العباسيِّ «الحسن بن هاني»، الذِي اشتُهِرَ بلقبِ «أبي نواس».