أ. صالح حسين الفردي
لم يكن الفنان والرياضي والتربوي يحيى عمر بن علي الحاج شخصيّة عابرة في حياة المكلا، المدينة التي شهدت صرخة ميلاده بحي السّلام في أجواء العام 1945م، ولم تكن رحلة حياته التي توزعّت على ثلاثية الحياة المفعمة بكل ألوان التألّق وتوابل الإبداع والفنون، فمن مداعبته لكرة القدم، يأخذنا إلى ثراء شخصياته في أبي الفنون (المسرح)، إلى قاعات الدّرس، وساحات المدارس التي خاض فيها رحلة العمر والعطاء وهو يتنفّس برئات ثلاث، حتى قبيل الرّحيل في يوم الأربعاء 13 من مارس من العام 2019م، رحمه الله.
(45) عاماً من العطاء المسرحي المشبّع بالكوميديا اللافحة:
الفنان الكبير يحيى عمر عبدالله بن علي الحاج ممثل مبدع، عرفته خشبات مسارح بلادنا، وتقمَّص الكثير من الشخصيات، تجاوزت (300) دورٍ نابضٍ بالحياة، وقد عُرِف هذا الفنان المسرحي الكبير بقدرته الفائقة على انتزاع الضحك من جمهور المسرح، وصار علماً من أعلام الكوميديا في المسرح الحضرمي لأكثر من (45) عاماً، كنت حريصاً في سنوات الصمت، وعدم توثيق ذاكرة مبدعي حضرموت الكبار على التقاط الفرص لتسجيل يوميات عمرهم، وعطاءات روحهم لأكثر من نصفٍ من الزمان مضى، وهو ما كان مع فناننا الكبير يحيى عمر بن علي الحاج، حين سعيت بمعية الدكتور سعيد سالم الجريري رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب بالمكلا – يومئذٍ – للبحث عنه والجلوس إليه لإقناعه بالحديث عن تجربته المسرحية في محاضرة خاصة وفق خطة الاتحاد الأسبوعية في مساء كل أربعاء، بالتزامن مع (27) مارس الذي يصادف اليوم العالمي للمسرح، وكان ذلك في عام 2005م، وظللنا نبحث عنه في الأماكن التي يرتادها كل يوم بمدينة المكلا – مقهى توفيق، مقهى العم جود، دِكّة البريد – قبل عودته آيباً إلى منزله بمدينة (فوة) حي (196) شقة، ولم نعثر عليه إلا بعد بحث طويل، وكان جالساً منتظراً (الباص) في رحلة العودة، فترجَّلْتُ من سيارة الدكتور الجريري، وعرضتُ عليه المشاركة، فرحَّب بالحديث عن تجربته المسرحية، وأكَّد لي – لحظتَها – استعدادَه لكتابة سيرته، وطلب منِّي عرضها على حضور في تلك الأمسية، ووعد بإحضار المكتوب يوم غد، وقد فعل.
وكان الحصاد لهذه السيرة العطرة، هذه الأوراق التي ننثرها على قراء مجلة (حضرموت الثقافيّة)، إذ بدأ سيرة حياته قائلاً:
المخرج عمر مرزوق حسنون عاشق للمسرح، ومكتشفي الأول: لاحظ أسلوبي في الكلام وحركاتي مع زملائي الطلاب، وأدرك أن لدي قدرات تمثيلية، واستدعاني وطلب مني المشاركة في العيد السنوي للمدرسة في مسرحية (الحلّاق) وقد أقنعني بذلك.
– مشواري مع المسرح منذ كنت أدرس في المدرسة الابتدائية (المدرسة الغربية) وهي – حالياً – مستشفى باشراحيل، وبالتحديد في الصف الرابع، يومها كانت الأنشطة المدرسية متنوعة ومتعددة، ويزاولها غالب الطلاب، وقد كان الأستاذ القدير والمخرج المسرحي عمر مرزوق حسنون يتلمَّسُ خطواته الأولى بعد تخرُّجه في طريق التدريس، وكان عاشقاً للمسرح والفنون الأخرى، وقد لاحظ أسلوبي في الكلام وحركاتي مع زملائي الطلاب، أدرك أنَّ لديَّ قدراتٍ تمثيلية، واستدعاني وطلب مني المشاركة في العيد السنوي للمدرسة في مسرحية (الحلّاق) وقد أقنعني بذلك، وقدمنا هذا العمل في عيد المدرسة نهاية الصف الرابع، وكنت – كما قال – عند حسن ظنه واختياره.
في المدرسة الوسطى ورفقة بن غودل: وجدتُ في المربي الفاضل مديحج تعويضاً عن أستاذي ومكتشفي الأول حسنون، ولكنني في المدرسة الوسطى لم أكنْ وحدي، إذ شكّلت ثنائيّاً مسرحياً كوميدياً مع عزيزي وصديقي وحبيبي وزميلي الفنان الملحن – اليوم – مسرحي الأمس أحمد صالح بن غودل.
– كانت المدرسة الوسطى بحق تجمع بين التعليم والثقافة والرياضة، وهي منبر مهم في حياة المجتمع، وقد تم توفير كل الإمكانيات من مسرح وملاعب رياضية ومكتبة رائدة، وكل هذه المنظومة التعليمية الأكاديمية المصغرة يقودها بحنكة الأستاذ القدير محمد سعيد مديحج – يرحمه الله – وهو الرياضي والمربِّي، والحامل لكل الأوصاف الجميلة والأساليب الحضارية، وهو حتى نبرة صوته كانت جاذبة للإقناع بقوة، وقد وجدتُ في المربي الفاضل مديحج تعويضاً عن أستاذي ومكتشفي الأول حسنون، ولكنني في المدرسة الوسطى لم أكن وحدي، إذ شكّلت ثنائياً مسرحياً كوميدياً مع عزيزي وصديقي وحبيبي وزميلي الفنان الملحن – اليوم – مسرحي الأمس أحمد صالح بن غودل، وقد كنا نقوم بتمثيل مواقف مسرحية، وفكرة مصغرة كل أسبوع، تنوَّعتْ بين التراجيدي والكوميدي والمنولوجات، نتوِّجُها بعرض كبير في نهاية كل شهر، يعرض على مسرح الوسطى، يحضره كل القاطنين بمدينة غيل باوزير- رجالاً وشيوخاً، نساءً وأطفالاً- وكان أستاذنا القدير مديحج يدعمنا ويساعدنا بسخاء ماديّاً، فقد كان محبّاً للمسرح، وقريباً منّا كثيراً في السنوات الأربع التي قضيناها في مرحلة الدراسة بمتوسطة غيل باوزير، ومما أذكره حتى هذه اللحظة من الأعمال المسرحية الكوميدية:
– عنتر بن شدّاد.
– أبو دُلامة.
– البخيل.
– العلم نور.
ومن المعلمين الذين رفدوا حركة ونشاط المسرح بالمدرسة الوسطى المعلم السوداني محمد الأمين، وقد أسهم مع الأستاذ مديحج في إخراج مسرحية: (أبو دلامة).
في دار المعلمين ورفقة جديدة مع ابن غودل: كنّا لا نهدأ إلا إذا كان المشاهد مَنبسطاً وسَالِياً، ويطلق الضحكات المجلجلة.
– بعد ذلك جاء الانتقال إلى الدراسة في مدرسة المعلمين بمدينة غيل باوزير، أيضاً، ورافقني إليها زميل الدراسة والعشق للمسرح والفن أحمد صالح بن غودل، وحرصنا معاً على الاستمرار في التمثيل على خشبة المسرح، وقد تطور أداؤنا بشكل أرقى، وعمدنا إلى تمثيل منولوجات ساخرة ومسرحيات كوميدية هزلية، وكنا – حينها – لا نهدأ إلا إذا كان المشاهد منبسطاً وسالياً، ويطلق الضحكات المجلجلة، ولم نقف عند هذا الحد، بل كنّا نشكّل ثنائياً خفيف ظل، نعمد إلى توفير أجواء فرائحية وحبيّة بين الجميع من معلمين وطلاب، وعلى الرغم من قلّة الإمكانيات المادية في مدرسة المعلمين وصغر المسرح، وتراجع اهتمام معلمي المدرسة بجوانب المسرح وعدم تشجيعهم ومتابعتهم لهذا النشاط، لكنَّنا كنّا لا نكلُّ ولا نملُّ من تأليف مواقف مسرحية وموضوعات كوميدية ساخرة، نقوم بتمثيلها على مسرح المدرسة الصغير، حتى كان التخرّج.
– في عام (1964) كان التخرّج من دار المعلمين، وأول نقلة تربوية قد وضعتنا في المدرسة الغربية – بعد نقلها إلى موقعها الجديد – وهو مدرسة الجماهير حالياً.
– في عام 1964م كان انتقالنا للعمل في سلك التدريس وبمعية رفيق الدرب بن غودل، وكانت أول نقلة تربوية قد وضعتنا في المدرسة الغربية – بعد نقلها إلى موقعها الجديد – وهو مدرسة الجماهير حالياً، ولكنْ لمْ نستمرَّ طويلاً في العمل بهذه المدرسة؛ إذ حصل الزميل الفنان (بن غودل) على فرصة ابتعاث إلى جمهورية مصر العربية في منحة خاصة بالمسرح، وظللتُ وحيداً، بعد رحيله، أبحث عن سمراء قامتُها هيفاء، ولكنَّ الفنان أحمد بن غودل ما أن وضع قدميه على أرض الكنانة مصر، حتى قام بتغيير تخصص المنحة من دراسة المسرح إلى دراسة الموسيقى والتخصص في آلة القانون، وقد كان ملمّاً ببعض أبجدياتها، ويعلم قليلاً عن النوتة الموسيقية، وقد نجح نجاحاً مبهراً في دراسته وممارسته للعمل الموسيقي، ولكنني خسرته مشاكساً على خشبة المسرح، وربنا يطول عمره.
– من جميل ذكريات الطفولة والبدايات، وعبارات التشجيع التي لم تفارقني في كل مشوار حياتي، الوالد هامساً: أنت دمي وروحي.
– العزيز صالح، قبل أن نستكمل مشوار الحياة والمسرح دعني أتوقف قليلاً عند البدايات الأولى، وقد كان عمري (12) عاماً، عندما كنت بدأت أقوم ببعض الأدوار المسرحية وهي كثيرة جداً لا أتذكرها، ولكنني لن أنسى دور والدي – رحمه الله رحمة الأبرار – الذي شجعني بقوة، وكان يحضر كل العروض المسرحية التي أشارك فيها في مدينة المكلا، وما زال حديثه معي -رحمه الله – في يوم من الأيام وهو يهمس في أذني برقَّة الأب وحنانه الفياض:
يا ولدي أنا فخور بك جداً، وعندما أشاهدك على خشبة المسرح تذهب همومي ومشاكلي، لأنك دمي وروحي، هذه العبارات التشجيعية التي سكبها والدي الراحل في قلبي دفعتْني إلى الاستمرار في هواية التمثيل المسرحي، حتى تجاوزتْ أعمالي المسرحية (300) عمل، وهو تاريخ فني كبير، وما زالت حتى اللحظة أتذكر الكثير من الأعمال التي حصدتُ بفضلها الكثير من الجوائز والشهادات التقديرية، وقد كان للمسرح في حضرموت حضور طاغ، صبغ الحياة الثقافية والفنية بصبغته الخاصة، وبرزت الكثير من الأسماء والأعلام التي حملت هموم المسرح وقضاياه ونحتتْ فِيَّ الصخر لكي تنجز الكثير من الأعمال المسرحية التي تعد – بحق – أعمالاً لا تَقِلُّ فنيَّةً ومعالجة عن غيرها من الأعمال التي عرفها المسرح العربي.
– كان هناك فرقتان مسرحيتان – في مدينة المكلا – تتنافسان بقوة لجذب الجمهور والاستحواذ على الإعجاب والمتابعة، وكان الفيصل في هذه المنافسة – بلا شك -النص والمخرج والممثل ومجموعة العمل المساعدة، والراحل باناجة ضمّني إلى فرقة بارادم.
– كان يغذي النشاط المسرحي لفرقة بارادم، عقل رائد المسرح الاجتماعي التربوي وفكرُه وفنُّه الكاتب الراحل سالم عبداللاه الحبشي – رحمه الله – المبدع الذي ألّف نصوصاً مسرحية عالجتْ قضايا ومشكلاتٍ اجتماعية واختلالات بيروقراطية، بدأت تبرز في جسد المؤسسات الحكومية.
– في بداية ثمانينيات القرن الماضي كان هناك فرقتان مسرحيتان – في مدينة المكلا – تتنافسان بقوة لجذب الجمهور والاستحواذ على الإعجاب والمتابعة، وكان الفيصل في هذه المنافسة – بلا شك – النص والمخرج والممثل ومجموعة العمل المساعدة، إضافةً إلى تنوّع الحركة الفنية وتعدّد أوجه نشاطها، كل هذه العوامل وغيرها دفعت بفرقتي حضرموت التابعة لمكتب الثقافة، وفرقة بارادم التي كانت تتبع فرع اتحاد نقابات عمال حضرموت، – على الرغم من هذا التنافس الفني الشديد – إلى أن التعاون والتكامل، الذي ظل سائداً بينهما، لذا لم يكن مستغرباً أن تشاهد أحد ممثلي الصف الأول لهذه الفرقة يستعان به لأخذ بطولة العمل للفرقة الأخرى، وقد كان من أبرز مخرجي فرقة بارادم المخرج المسرحي عمر مرزوق حسنون، إلى جوار المخرج المتمكن عوض سالم باعطب، وقد كان للمخرج حسنون والممثل الراحل أبوبكر باناجة الدور الكبير والمؤثر في ضمّي إلى قوام هذه الفرقة، التي شكّلت رافداً كبيراً من روافد نهر الفن المسرحي الخالد في حضرموت، وقد تعدَّدتْ أعمالي المسرحية مع طاقمها الكبير الذي كان يغذيه عقل وفكر وفنّ رائد المسرح الاجتماعي التربوي وفكرُه وفنُّه الكاتب الراحل سالم عبداللاه الحبشي – يرحمه الله – الذي ألّف نصوصاً مسرحية عالجت قضايا ومشكلات اجتماعية واختلالات بيروقراطية، بدأت تبرز في جسد المؤسسات الحكومية، ومن أشهر مسرحياته (عاشق الوظيفة، الناقوس، شمعة فوق شمعة تصبح مشعال) وغيرها من المسرحيات.
بعد أن حققتُ نجاحاً كبيراً في الكثير من الأعمال التي قدَّمتُها مع فرقة بارادم للفنون المسرحية، بدأ مكتب الثقافة يغازلني للانضمام إليه.
– كان الانضمام إلى فرقة مسرح حضرموت التابعة للثقافة مرحلة جديدة من مراحل مشواري المسرحي، ومن أبرز الأعمال التي قدَّمتُها مع هذه الفرقة مسرحية (عرس البيارق)، تأليف فيصل صوفي، إخراج جميل محفوظ، وتمثيل عدد كبير من ممثلي حضرموت، وقد شاركت الفرقة بهذا العمل في المهرجان الأول للمسرح التجريبي بجمهورية مصر العربية في نوفمبر 1989م، كما أتذكّر، وكانت تجربة ثريّة ومفيدة، أفادتْنا كثيراً في الاطلاع على التجارب المسرحية للكثير من الشعوب المشاركة في المهرجان، وقد أشادت الصحافة المصرية بهذه التجربة الوحيدة التي كانت لنا خارج الحدود، ورصدت نجاحنا في الكتاب الذي أصدرته في ختام المهرجان.
تكريم ولا تكريم:
– عزيزي صالح تكريم ولا تكريم، للأسف، لم نكرم إلا العام قبل الماضي (2003م)، من قبل وزارة الثقافة، ولكن ما يحزّ في النفس، ويعتصر القلب هذا الجحود الكبير والنكران البغيض لعطاءاتنا الكبيرة وعدم تقديرها في حضرموت، إذ إنني وكل زملائي لم ننل أي التفاتة تكريم لا في يوم مسرح عالمي ولا في عيد.
– وقفتُ كثيراً عند قول الفنان الكبير والممثل الكوميدي يحيى عمر بن علي الحاج، وهو يهمس بصوت يقطر ألماً وحسرة، إذ همس: م . م . ر، هي أحرف دمي:
– عندما يأخذون من دمي لتحليله – هكذا ختم الفنان، والمسرحي الكبير يحيى عمر بن علي الحاج مذكراته – التي منحني إيَّاها ذات يوم بعيد قائلاً: سيجدون حرفين (م .م) وحرف واحد (ر) أي، عنصرا مسرح اثنان وعنصر رياضة واحد، وهذه البلازما هي التي شكلت حياة فنَّاننا المسرحي مرتين والرياضي مرة، وقد بقي دمُه يحمل هذه التركيبة الحياتية، وهو مع غيره كثر من فناني عصره عاشقي المسرح لم يسقطوا الرّاية، ولم يقنطوا – يوماً – من عودة نهر المسرح الحضرمي الصافي والنقي إلى مجراه العذب النشط، مهما تكالبت عليه (شيولات) الردم العشوائي، محاولين طمس معالمه وتدمير كل مقوماته.