د. أحمد هادي باحارثة
الخيال ووظيفته
1
تعريف الخيال:
إن لفظة الخيال لم تكن مألوفة في النقد الأدبي القديم لدى العرب، واتخذ بعضهم لفظ “التخييل” صنوًا للمحاكاة، أو يخلط بين الخيال والوهم، وإن عدم وضوح الرؤية لمصطلح الخيال ووظيفته، ومن ثم الخلط بينه وبين الوهم، وبينه وبين المحاكاة أمر قديم في تاريخ النقد الأدبي، وقد وقع فيه كثير من النقاد العرب؛ مثل ابن سينا، وابن رشد، وحازم القرطاجني وغيرهم، وكذلك البعض من غير النقاد العرب حذر بعضهم منه، والخيال عند النقاد المحدثين هو القوة الحيوية في الصورة، التي تربط بين صور الطبيعة، وجواهر الأفكار والمشاعر. وقد ذكر ابن شهاب الخيال في منظومة نظام المنطق حيث قال:
ثم المخيلات وهي ما بها تأثر النفس لدى السمع لها
فيحصل القبض والانبساط من غير إذعان بها يناط
لاسيما إن كان بالتغني مقترنا أو سجع أو وزن
كقولنا الغيد رياحين القلوب أو قولنا النساء أشراك الكروب
ففي الأبيات الأربعة السابقة عرف ابن شهاب الخيال، عبر أثره في النفس، وأشار لأهميته ووظيفته، وقرن بينه وبين الصورة في المثال المضروب، ثم نثر ذلك التعريف في شرحه بقوله: “المخيلات هي القضايا التي تتأثر بها النفس رغبة ورهبة، وانقباضًا وانبساطًا، من غير إذعان بها، ويقوى تأثيرها حيث اقترن بها وزن، أو سجع، أو تغن بصوت حسن”، والتأثير النفسي يدركه كل متلق للشعر؛ إذ الخيال هو لغة العاطفة الحارة، ولسان الشعور الحي الفياض، لكن قوله “من غير إذعان بها”، يفصل بين الخيال والحقيقة، أو العقل، في حين أنَّ الخيال والعقل غير متناقضين، بل هما يتكاملان في الكشف عن جوهر الحقائق، وتكمن أهمية العقل والفكر في عملية الإبداع، كما عبر بعضهم، بأنه “يشرف على الأحاسيس وينظمها، ولولاه لكانت خليطًا مضطربًا لا تسوده وحدة، ولا يسوده نظام، فهو الذي يؤلف بين شتيتها، ويجمع بين منثورها، ويكوّن بناءها” (في النقد الأدبي للدكتور شوقي ضيف).
2
وظيفة الخيال:
وفي أهمية الخيال ووظيفته رأى ابن شهاب “أن النفس أطوع للخيال منها للتصديق؛ لأن الخيال أغرب، فإذا قلنا الغيد رياحين القلوب، رغبت النفس، وإذا قلنا النساء أشراك القلوب، نفرت”، وأشار إلى أن أسباب التخيل كثيرة وأساليبه كذلك، دون أن يضرب مثالًا عليها، لكن واضح مما أورده من مثالين للخيال أنهما قائمان على التشبيه، وبذلك يقرن بين الخيال والتصوير، وهو بذلك يتوافق مع النقد الحديث، الذي يرى في الخيال عنصرًا حيًا من أهم عناصر الصورة الأدبية، في حين أن وجوه البلاغة المتصلة بالصورة لم ترتبط بالخيال إلا في حدود ضيقة مقترنة بمعايير عقلية، الأمر الذي عكس نفسه على قيمة الصور الشعرية ووظيفتها لدى بعض النقاد المتقدمين، والربط بينهما هو أمر حديث بعد أن اكتسبت الصورة مفهومًا مغايرًا في النقد الحديث قائمًا على أساس التفكير بالصور، حسب طرق فنية تختلف باختلاف المذاهب الأدبية الحديثة، ومن ثم نستطيع القول بأن رؤية الخيال عند ابن شهاب تبدو أكثر جدة وحداثة، وهي تتمثل في أن الخيال يلون العاطفة، ويصورها.
وفي المثال الذي ضربه إشارة إلى تغاير المعنى أو الوصف في الشيء الواحد، وهو أمر اهتم به بعض المشتغلين قديمًا بالأدب وفنونه في سياق ما قيل في ذم كذا، ثم ما قيل في مدحه، ومما يذكر بالمثال الذي ساقه عن النساء أن مما قيل في ذمهن قول الشاعر:
إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شرّ الشياطين
فنقض بذلك قول من قال:
إن النساء رياحين خلقن لنا فكلنا يشتهى شم الرياحين
ثانيًا: الحقيقة والمجاز
1
تعريف الحقيقة والمجاز
يعد هذا المبحث من المباحث المشتركة بين علم البلاغة وعلم أصول الفقه، وابن شهاب عالجها في إطار حديثه عن علم أصول الفقه، لأجل صلة مباحث الحقيقة والمجاز الوطيدة بعلم البلاغة (البيان تحديدًا)، وعمق ارتباط ابن شهاب بالإنتاج الأدبي، وممارسته نظمًا وكتابة.
والحقيقة في اللغة على زنة فعيلة، بمعنى مفعول، وهي إما من حقّ الأمر يحقّه بمعنى أثبته، وإمَّا من حققته إذا كنت منه على يقين، والمجاز من جاز الشيء يجوزه إذا تعدّاه، فإذا عدل بالّلفظ عما يوجبه أصل اللّغة، فهو مجاز بمعنى أنهم قد جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أوّلًا.
وفي كتابه الأصولي (الترياق) عرف ابن شهاب الحقيقة بأنها “لفظ مستعمل فيما وضع له ابتداء”، وهو التعريف نفسه لدى البيانيين، من غير زيادة ابتداء، وقال شارحوه إنما عبر بلفظ الابتداء دون لفظ أولًا بسبب الخلاف في أن الأول هل يستلزم ثانيًا؟ فإن كان يستلزمه لزم أن الحقيقة تستلزم المجاز، ولا قائل بذلك، وإنما اختلفوا في عكسه، وهو استلزام المجاز الحقيقة.
ثم عرف ابن شهاب المجاز بأنه: “اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع ثان لعلاقة بين الموضوع لهما”، ولاحظ أن البيانيين قد زادوا في تعريفه: مع قرينة صارفة عن إرادة ما وضع له أولًا، ورأى أن مرادهم من هذه الزيادة منع أن يراد باللفظ الحقيقة والمجاز في سياق واحد؛ فإن استعمال اللفظة الواحدة مجازًا وحقيقة دفعة واحدة في وضع واحد لمعنى واحد أمر محال باستحالة اجتماع النفي والإثبات، فاللفظ باعتباره حقيقة مستعمل في موضوع ما، وباعتباره مجازًا غير مستعمل في موضوع آخر.
ثم اتجه إلى مسألة وجود أسلوب المجاز في الخطاب اللغوي، فذكر أن المجاز واقع في الكلام، خلافًا لأبي إسحاق الإسفراييني، أو أبي علي الفارسي في نفيهما وقوعه، لكنه رأى أن هذا الخلاف في استعمال العرب للمجاز إما راجع إلى التسمية فهو خلاف لفظي، وإمَّا يكون القول بنفيه مطلقًا مكابرة.
والمقصود بكونه راجعًا إلى التسمية فهو لفظي، أن من أنكر المجاز في اللغة مطلقًا ليس مراده أن العرب لم تنطق به، ولكن هو يرى أن جميع الألفاظ حقائق بالاستعمال، فيطلق الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن بأصل الوضع، أما المكابرة فتكمن في إرادة استواء الكل في أصل الوضع؛ لأننا نفهم أن العرب مثلًا لم تضع اسم الحمار للبليد، ولو قيل للبليد حمار على الحقيقة كالدابة المعروفة، فهذا جحد لما هو معلوم بالضرورة. لكن شكك آخرون في نسبة نفي المجاز إلى أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي علي الفارسي، فلهما تأويلات هي من صميم المجاز.
ثم رأى ابن شهاب أن الظاهرية نفوا وقوع المجاز في الكتاب والسنة، بحجة أنه كذب بحسب الظاهر؛ وكلام الله تعالى، وكلام رسوله، صلى الله عليه وسلم، منزَّه عن الكذب، وأجيب بأنه لا كذب مع وجود القرينة على المعنى المجازي؛ لأن النفي لا يصح بالنسبة إليه، وإنما يصح نفي المعنى الحقيقي.
لكن ابن حزم (المتوفى 456هـ)، وهو من رؤوس الظاهرية، لم ينف المجاز في القرآن بشكل مطلق، بل أثبته إذا وجد له مقتضى، ومنه قوله: “كل خطاب خاطبنا الله تعالى به، أو رسوله-صلى الله عليه وسلم- فهو على موضوعه في اللغة، ومعهوده فيها، إلا بنص، أو إجماع، أو ضرورة حس، نشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى، أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن موضوعه إلى معنى آخر، فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه” (كتابه الإحكام).
لكن من عرف عنه بأنه تصدى لإنكار المجاز، وبشدة في اللغة والقرآن معًا، هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وأقام دعائم، بنى عليها الإنكار وأفاض في بيانها ما أفاض. وتبعه تلميذه ابن قيم الجوزية في الموقف من إنكار المجاز ولاسيما في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
ومع هذا فإن ابن تيمية يرى كذلك أن الخلاف لفظي بين مثبتي المجاز ومنكريه؛ إذ يقول (الفتاوى الكبرى): “قول القائل هذا اللفظ حقيقة، وهذا مجاز، نزاع لفظي، وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن”؛ ولهذا فإنَّ مَنْ سلَّم بوجود المجاز، وقال: لا أُسمِّيهِ مجازًا، فهو نزاع في لفظ أو اسم الاصطلاح، ولا مشاحة فيه.
ثم أورد ابن شهاب دواعي اتجاه المتكلم نحو استعمال المجاز وتفضيله على الحقيقة لفظًا أو تعبيرًا، فمنها “ثقل الحقيقة على اللسان كالخنفقيق اسم للداهية”، ومنها بشاعتها كلفظة “الخرأة يعدل عنها إلى الغائط”، ومنها “جهلها للمخاطب دون المجاز أو بلاغته نحو زيد أسد؛ إذ هو أبلغ من شجاع، أو شهرته دونها، أو غير ذلك كإخفاء المراد عن غير المخاطبين”، ومنها “عظم معنى المجاز، نحو سلامي على المجلس العالي، فإنه أحسن من سلام عليك”.
كما تطرَّق إلى ذكر نسبة فُشُوِّ المجاز في اللغة، بأن المجاز “ليس غالبًا في كل لغة على الحقيقة، خلافًا لابن جني، في قوله إنه غالب في كل لغة عليها؛ إذ ما من لفظ إلا ويشتمل في الغالب على مجاز، فيكون استعماله مجازًا أكثر من استعماله حقيقة، تقول رأيت زيدًا وضربته، والمرئي والمضروب جزؤه”.
وقد نص أبو الفتح ابن جني في كتابه (الخصائص) على تلك المسألة بقوله: “اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة”، لكن اللغة لا تنبني على مثل هذا التضييق والتكلف في التعبير، فلم يشترط أحد لغةً استغراق الفعل لجميع أجزاء المفعول ليكون حقيقة؛ لأن المعتبر في الفعل هو إيقاع الحدث على المفعول به مطلقًا، سواء عم ذاته أوْ لا.
2
العلاقة بين الحقيقة والمجاز
ثم عرض ابن شهاب بعضًا من أنواع العلاقات بين الحقيقة والمجاز، وبدأها بأقربها إلى روح البلاغة والبيان، وهي علاقة المشابهة، وحينئذ يطلق على المجاز اسم آخر هو الاستعارة، ورأى أن المشابهة تكون إما في صفة ظاهرة، كإطلاق الأسد على الرجل الشجاع، أو في الشكل كإطلاق الفرس على صورته المنقوشة في الجدار، ومن الثاني حديث عائشة -رضي الله عنها-، أن النبي-صلى الله عليه وسلم- «لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه»، بمعنى أشكال الصليب، أو تصاوير كالصليب.
كما اشترط فيها تحقق المناسبة بين طرفي الاستعارة، فالاستعارة عنده “لابد في المشبه والمشبه به من علاقة جامعة بينهما… ألا ترى أنهم انتقدوا قول بشار بن برد:
وجذت رقاب الوصل أسياف هجرنا
إذ لا مشابهة بين الرقاب والوصل ولا بين الأسياف والهجر، وانتقدوا أيضًا قول ابن المعتز:
كل يوم يبول زب السحاب
لعدم المشابهة أيضًا”.
ومن جانب آخر رأى أنه لا يشترط أن ينحصر استعمال المجاز في الصور التي استعملتها العرب فيها، بل هو راجع للمتكلم على ألا يخرج عما اعتبرتْهُ العرب من أنواع علاقة المجاز، ومن تلك الاعتبارات اشتراط مناسبة المستعار منه للمستعار له في بناء الاستعارة، وهو ما يندرج ضمن ما يعرف في النقد القديم بـ(عمود الشعر)، ويقصدون به التقاليد الفنية التي كان يتبعها الشاعر الجاهلي في ألفاظ القصيدة، ومعانيها، وأخيلتها، وموسيقاها، وابن شهاب كرر نقد الأبيات نفسها المنقودة في بعض كتب النقاد الأقدمين.
لكن التوازن اختل بين النُّقَّاد والشعراء القرن الثالث؛ فإن أكثر النُّقَّاد من الرُّواة واللغويين آنذاك لم يتصلوا بالثقافة الوافدة على الثقافة العربية، وتعلَّقوا بما اتصل بعمود الشعر العربي وآثروه على المائلين نحو المعاني والفلسفة من الشعراء، مثل الشاعر العباسي أبي تمام وأنصاره ممن يُغرِبُونَ أحيانًا فيأتون باستعارات غير مألوفة في المزاج النقدي السائد، وخارجة عن تقاليد العرب في استخدام الاستعارة؛ كما يقول الآمدي في الموازنة: “إنما استعارت العرب المعنى لما ليس له إذا كان يقارب المشبه ويدانيه، أو يشبهه في بعض أحواله، أو يكون سببًا من أسبابه، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه”، ومثله يقول الجرجاني في الوساطة: “وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من المناسبة، وطرف من الشبه والمقاربة”.
ومع ذلك فإن بعض النقاد المحافظين اعترفوا بشيء من القبول لاستعارات لأبي تمام وأضرابه؛ لوجود نظائر مماثلة لها في الشعر العربي القديم، كقول ابن سنان الخفاجي (ت 466ه): “هذا الفن قد أورده المحدثون كثيراً، وإن كان المتقدمون بدأوا به، وممن أكثر استعماله أبو تمام حبيب بن أوس، فأورده منه في شعره الجيد المحمود والرديء” (سر الفصاحة)، ورأى بعض النُّقَّاد المحدثين أن هذا الفن هو نوع آخر في الاستعارة مغاير للاستعارة المألوفة، ودعا إلى أن يطلق عليه اسمًا جديدًا لا يتصل بالاستعارة، لكن ابن شهاب بقي متمسكًا في رؤيته للاستعارة بأهداب الموقف القديم التقليدي منها.
ثم عرض ابن شهاب عددًا من علاقات المجاز المرسل، فمنها اعتبار ما كان عليه، ومثله بإطلاق لفظ العبد على من عتق من الرق، ومنها اعتبار ما سيكون، وقسمه إلى قطعي، ضرب مثالا عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وظنِّي، ضرب مثالًا عليه قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، والمثال الذي ضربه للمجاز وافقه فيه بعض المفسِّرين، إلا أن آخرين حملوها على الحقيقة؛ لأن العرب تقول لِـمَنْ لَـمْ يَـمُتْ: إنك ميِّت، بتضعيف الياء، لكنَّ الأزهري رأى أن القول بأن (الميِّت) بتضعيف الياء: ما لم يمت، و(الميْت) بسكونها: ما قد مات، هو خطأ، وأنَّ كلا الوصفين يطلقان على ما سيموت ولم يمت، مستشهدًا بقول الشاعر عدي بن الرعلاء الغساني:
ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
وهو شاعر جاهلي، وقد جمعَ بين اللُّغتين فجعل (الْمَيْتَ) مخفَّفًا مثل (الْمَيِّت)، ومن ثم فإن ما اتفق القُرَّاء على تَخفيفه وتشديده هو سنة لا تُتَعَدَّى، وبذلك يكون للمجاز المرسل وجه صحيح في الآية كما اختاره ابن شهاب.
وذكر من علاقات المجاز المرسل أيضًا الضِّدِّيَّة، ومثَّل لها بإطلاق لفظ المفازة على البَرِّيَّة المهلكة، وبقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، ورآه بقصد الإنذار، ورآه آخرون بقصد التهكُّم، كما إن لفظ مفازة جاء أيضًا في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ} [آل عمران: 188]، والمفازة: الفلاة المهلكة، قيل سُمِّيَتْ بذلك على سبيل التفاؤل، أو لهلاك من يسلكها؛ لأنَّ الفوز لغة هو النجاة والظفر بالخير، والفوز أيضًا الهلاك، وتقول فوز فلان بمعنى مات، ومنه قول الشاعر كعب بن زهير:
فمن للقوافي شانها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
وذكر منها علاقة المجاورة، وهي أن يسمى الشيء باسم ما يجاوره، ومثل به نقل اسم الراوية من ظرف الماء وإطلاقه على ما يحمله من جمل أو بغل أو حمار، وتجمع على الروايا، كما قال الشاعر:
تمشي من الردة مشي الحفل مشي الروايا بالمزاد الأثقل
وذكر منها علاقة الزيادة، ممثلا لها بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]؛ وذلك بناء “على قول من قال إن الكاف زائدة، أي لأنها بمعنى مثل، ولو لم تكن زائدة لكان له تعالى مثلا، وهو محال، وإنما قصد بالكلام نفي المثل”، لكن قيلت أقوال أخرى في تخريج الكاف، فقيل إن المراد مثل الشيء ذاته وحقيقته، كما يقال مثلي لا يفعل كذا، أي أنا لا أفعل، وعلى هذا لا تكون زائدة. وقال ابن فورك: هي غير زائدة والمعنى ليس مثل مثله شيء وإذا نفيت التماثل عن الفعل فلا مثل لله على الحقيقة.
وذكر منها علاقة النقصان، وقد يسمى الحذف، ومثل له بقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، أي أهلها، وجعله بعضهم مجاز مرسل علاقته المحلية؛ لأن القرية بمعناها الحقيقي محل لساكنيها، وقيل هو حقيقة لا مجاز فيه، والمعنى: واسْألِ القرية والعير؛ فإنَّها تجيبك، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا؛ لأنك من أكابر الأنبياء، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد، والبهائم. وقيل: إنَّ الشيء إذا ظهر ظهورًا تامًّا كاملًا، فقد يقال فيه: سَلِ السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجال، لكن سؤال القرية وإجابتها وإنْ كان لا يستحيل عقلًا، فإنَّ المناسبة تقتضي أنهم لا يقيمون الحجة بسؤال الجمادات التي إجابتها من خوارق العادات التي قد تتفق للأنبياء، وقد لا تتفق في جميع الأحوال.
ولعل ابن شهاب شعر بضعف التعبير بالعلاقة عن النوعين السابقين بوصفي الزيادة والنقصان، فرأى فيهما ضربًا من التسامح والتجوز؛ معلِّلًا ذلك بأن اللفظ فيهما لم يخرج عن موضوعه إلى استعماله في غيره، حسب حد المجاز الذي قرَّره؛ لذا قال بعضهم إن ما يسميه البلاغيون مجاز النقص، ومجاز الزيادة، ليس بمجاز حتى عند جمهور القائلين بالمجاز من الأصوليين، لكن رأى آخرون أن المجاز القائم على الزيادة والنقصان قد نقل أيضًا عن موضوعه إلى موضوع آخر؛ لأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يفيد ألَّا شيء مثل مثله، وقد نقل عن هذا المعنى إلى نفي المثل عن الله سبحانه، وقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} موضوع لسؤال القرية، وقد نقل إلى أهلها، وبذلك يتوافق الشاهدان مع التعريف الذي أورده ابن شهاب.
ثم ذكر من علاقات المجاز المرسل علاقة السببية، ومثَّل له بقولهم: للأمير يد، أي قدرة، فالقدرة مسببة عن اليد لحصولها به، ومنها علاقة المسببية، كإطلاق الموت على المرض الشديد؛ لأنه مسبب له عادة، ومنها أيضًا علاقة الكُلِّيَّة للبعض، وشهد له بقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] أي أناملهم، وذكروا أن نكتة التعبير عنها بالأصابع هو الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة من الفرار.
وقيل لا مجاز هنا؛ لأن ذكر الجعل موضع الإدخال، وهو أدلُّ على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، دلالة على المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة، وكذلك لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه، كما يقال: دخلت البلد، وجئت ليلة الخميس، ومسحت بالمنديل، فإن ذلك حقيقة. وذكر منها علاقة البعضية للكل، ومثل لها بعبارة عتق رقبة، أي إنسان.
ثم خرج ابن شهاب إلى الكلام في المجاز العقلي، وقد يسمى المجاز الإسنادي، وعرَّفه بأنه: “إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل”، وهو تعريفه نفسه عند البيانيين، ثم مثل عليه بقوله تعالى: {وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} [الأنفال: 2]، فرأى أن الزيادة قد أُسنِدَتْ إلى الآيات، مع أن الزيادة من فعل الله، وأعاد ذلك إلى علاقة السببية؛ بمعنى أن الآيات المتلوة سببًا لها عادة، ورأى عبد القاهر الجرجاني أن هذا النوع من المجاز موجود بكثرة في القرآن الكريم، وأورد تلك الآية في جملة شواهده.
ثم ذكر ابن شهاب أنه قد خالفَ بعضُهم في إثبات المجاز العقلي، فيجعلون أمثلته مندرجة في المجاز اللغوي إما بتصنيفه استعارة مكنية، مثل العالم البلاغي السكَّاكي، وكان السكَّاكي قد أنكر في مفتاحه المجاز العقلي تمامًا، وذهب إلى أن أمثلته مندرجة في نوع الاستعارة بالكناية، فنحو قولهم: (أنبتَ الربيعُ البقلَ) يصف الربيع بأنه استعارة عن الفاعل الحقيقي، ويعتبر إسناد الإنبات إليه قرينة للاستعارة، والمراد هو المبالغة في التشبيه.
ومنهم من يصنف أمثلته مجازًا مرسلًا واقعًا في المسند، مثل ابن الحاجب، وعضد الدين الإيجي، وعندهم أن في الفعل (زادتهم) مجاز مرسل علاقته سببية، أي أن الآيات تسببت في زيادة إيمانهم.
وقد يأتي المجاز في الأفعال بالتجوز للفعل الماضي للمستقبل أو العكس، وأشار له ابن شهاب بقوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44]، أي ينادي، فيجعل ما هو متوقع كالواقع، فيعبر عنه بصيغة الماضي؛ تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع، فلا يكون تعبيرًا عن المستقبل بلفظ الماضي، بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة، وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، أي تلتْه فكان السياق يقتضي أن يقال ما تلتْه الشياطين على ملك سليمان، ولكن الله أراد أن نفهم أن هذا الاتباع مستمر؛ لأن معاصري نزول القرآن من اليهود قد رضوا وأخذوا من فعل أسلافهم الذين اتبعوا الشياطين.
وكذلك قد يتحقق المجاز في حروف المعاني، ومثَّل عليه ابنُ شهاب بقوله تعالى: {فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} [الحاقة: 8]، وهو قول العز بن عبد السلام في كتابه المجاز، بأن العرب قد تجوزت في الحروف، كـ(هل) تجوَّزوا بها عن الأمر، نحو: {فهل أنتم مسلمون} أي فأسلموا، أو النفي {فهل ترى لهم من باقية} أي ما ترى، والتقرير {هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم}، لكن في كتب البلاغة وعلم البيان تعالج هذه المعاني في إطار الإنشاء الطلبي وأنواعه، وليس ضمن مباحث المجاز.
وهكذا نجمل ما سبق بأن ابن شهاب قد أحسن، بحسه الجامع بين ما هو بلاغي وأصولي، أن يعرض مباحث الحقيقة والمجاز بصورة جمعت بين لطافة علم البيان وصرامة علم أصول الفقه، سواء منه ما يتصل بالتعريفات، أو الأنواع، أو الأقسام، أو الشواهد والأمثلة المختارة، مع ميله للشواهد القرآنية.