ترجمة
منى عمر عوض العماري
عبارون البحر الأحمر: الهجرة الحضرميّة، ريادة الأعمال، واستراتيجيات الاندماج في إريتريا، 1840م–1970م
بقلم: جوناثان ميران
جامعة ويسترن واشنطن، بيلينغهام، واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية
ترجمة:
منى عمر العماري
2012
الملخص
تتناول هذه الدراسة الأدوار المحورية التي أدَّاها الحضارم في التاريخ الاقتصادي والسياسي والديني والعمراني والفكري لإريتريا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين؛ فقد انتقل رُوَّاد الأعمال والعمال الحضارم إلى إريتريا واستقروا فيها، وانتعشوا تحت الحكم المصري (1865–1885) ثم الإيطالي (1885–1941) في مجالات الاستيراد والتصدير، وتجارة الجملة والتجزئة، والبناء الحضري، والعقارات، والنقل، والمشاريع الصناعية الخفيفة والزراعية. كما أدّوا أدوارًا مركزية كقادة في المؤسسات البلدية والتجارية، وقدموا دعمًا سخيًا لتأسيس وإدارة المساجد والمؤسسات التعليمية الإسلامية.
أسهم الحضارم أيضًا في تشكيل الساحة السياسية الإريترية؛ إذ برز عدد من القادة البارزين في رابطة المسلمين من أصول حضرمية؛ إذ طرحوا خطابات سياسية تأثرت بالفكر الإسلامي الإصلاحي، والتيارات القومية العالمية، إضافة إلى الأيديولوجيات المرتبطة بالإصلاح الاجتماعي والتعليم والتقدم. ومع ذلك، فقد أدت السياسات القومية الطائفية، وتشديد الرقابة على تدفقات العملة الدولية، والحد من حركة التنقل عبر الحدود الوطنية الجديدة بحلول منتصف القرن العشرين، إلى تقويض الحضور الحضـرمي في إريتريا، وإضعاف شبكاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العابرة للحدود. فقد أدّت هذه التغيرات إلى تقليص قدرة الحضارم على التنقل، وتحجيم نفوذهم الاقتصادي، ومحدودية مشاركتهم في الحياة العامة، مما أسهم تدريجيًا في تهميش دورهم التاريخي في البلاد. وعلى الرغم من هذه التحديات، ظل تأثير الحضارم واضحًا في بعض المجالات، ولا سيما في الذاكرة الجماعية للمجتمعات المحلية وفي بُنى الحياة الحضرية والدينية والتعليمية في إريتريا.
الهجرة الحضرميّة العابرة للحدود في البحر الأحمر والمحيط الهندي: شبكة من المجتمعات
في مدى العقدين الماضيين، أنتجت الأبحاث المتعلقة بالشتات الحضرمي حول حافة المحيط الهندي دراسات مهمة، تناولت تاريخ الحضارم ومكانتهم وأدوارهم في سياقات متنوعة، تمتد من شرق إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا(1). وتُظهر هذه الدراسات مجتمعةً أن المهاجرين من منطقة حضرموت جنوب الجزيرة العربية شكّلوا مجتمعًا عابرًا للمحليات، يتميز بالحركة والمرونة والقدرة على التكيّف، وعلى الرغم من عددهم المحدود نسبيًا، غير أنهم قد أثبتوا نجاحًا ملحوظًا في مجالات التجارة والدين والسياسة في فترات وسياقات مختلفة (2). ورغم أن الحضارم في شرق إفريقيا حظوا ببعض الاهتمام الأكاديمي، لكن وجودهم في منطقة القرن الإفريقي، وتحديدًا في الأراضي الصومالية وإثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، لم يحظَ بالدراسة الكافية حتى الآن (3).
تَظهر أسماء الأفراد والعائلات ذات الأصول الحضرمية كعناصر بارزة في التاريخ الاقتصادي والسياسي والديني والفكري لإريتريا خلال القرنين الماضيين. تميّز الحضارم الناجحون في إريتريا كرُوَّاد في عالم الأعمال، ورعاة وداعمين، وقادة بلديين ومجتمعيين، ومتخصصين دينيين، وناشطين سياسيين وطنيين مؤثرين، على غرار أدوارهم في مجتمعات أخرى على امتداد حافة المحيط الهندي، وبطريقة قد تبدو غير متناسبة مع حجمهم العددي الإجمالي. كما نجح الحضارم في تجميع رأس المال وتنويعه وتحويله لبناء النفوذ وتعزيز مكانتهم، من خلال ما امتلكوه من مرونة استثنائية، وقدرة على التكيّف، ومهارات فردية، إضافة إلى الروابط المشتركة والقيم الأخلاقية التي تجمعهم. وقد تمكنوا بذكاء من التنقل بين مختلف الدوائر الاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية والعالمية، وتكيّفوا بمهارة مع تعاقب القوى التي حكمت إريتريا، بدءًا بالإمبراطورية العثمانية (حتى عام 1865)، ثم مصر الخديوية (1865–1885)، فإيطاليا (1885–1941)، ثم بريطانيا العظمى (1941–1952)، وأخيرًا إثيوبيا (1952-1991).
وإذا كان من المناسب تناول هذا الموضوع من منظور الكيان السياسي والإقليمي الذي أصبحت عليه إريتريا في أواخر القرن التاسع عشر، فإن دور الحضارم في المنطقة الإريترية يستحق أيضًا أن يُنظر إليه من زوايا أوسع.
كانت الهجرة النشطة للحضارم إلى هذه المنطقة نتيجة من نتائج التحوّلات الواسعة في الاقتصاد السياسي للبحر الأحمر، والتي أعقبت ما يُعرف بـ”ثورة النقل”، أي إدخال الملاحة البخارية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وافتتاح قناة السويس في عام 1869. وإذا ما اعتمدنا على فهم سوجاتا بوز* لمفهوم المحيط الهندي باعتباره “ساحة بين إقليمية”، فإن ثورة النقل وما ترتب عليها من آثار اقتصادية وسياسية يمكن اعتبارها من العوامل الحاسمة في إعادة ترتيب التكوينات والعلاقات الخاصة داخل الساحات الإقليمية ضمن هذا الفضاء المائي، وكذلك بين هذه الساحات المختلفة(4). استقر رُوَّاد الأعمال الحضارم في معظم موانئ البحر الأحمر وخليج عدن، وأدَّوا دورًا محوريًا في نسج شبكات متنوعة من الأعمال والعمالة والنقل، ما ساهم في خلق فضاء ديناميكي.
للتبادل والتفاعل. وقد عملوا ضمن شبكات إقليمية وبين إقليمية وعابرة للمحليات في منطقة جنوب البحر الأحمر، وفي إطار نظام شتاتي أوسع يربط الحضارم في مختلف مناطق المحيط الهندي.
حدثت الهجرة الحضرمية إلى إريتريا على مدى فترة زمنية طويلة، وتضمنت موجات واضحة من الهجرة إلى جانب تحركات أكثر عشوائية. فبعض المهاجرين قَدِمُوا واستقرُّوا استقرارًا دائمًا، في حين كان البعض الآخر من رجال الأعمال العابرين أو العمال اليدويين الذين أقاموا لفترة قصيرة لا تتجاوز بضع سنوات؛ إذ حافظوا على روابط محدودة وغير دائمة مع إريتريا قبل انتقالهم إلى مواقع أخرى ضمن الشتات الحضرمي الممتد. وكان الوجود الحضرمي في إريتريا يكاد يقتصر على ميناء مصوّع حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر480، حيث تمركز التجار وروَّاد الأعمال في إطار التكوينات الشبكية الجديدة التي كانت تتبلور في منطقة البحر الأحمر المتغيرة بسرعة. ومع مطلع القرن العشرين، وبالتزامن مع ترسيخ الوجود الاستعماري الإيطالي في إريتريا وإنشاء العاصمة الجديدة في المرتفعات الداخلية (أسمرا)، أعاد بعض الحضارم تنظيم حياتهم وأعمالهم ومشاريعهم سواء كانت اقتصادية أو دينية أو سياسية بما يتماشى مع هذا الكيان الإقليمي والسياسي الجديد.
ليس من المستغرب أن تكون النخب الحضرمية من السادة، والأثرياء، والناجحين الجدد أكثر حضورًا في السجلات التاريخية. ويمكن قراءة هذه الدراسة بأنها سيرة جماعية لمجموعة من الأفراد والعائلات الحضرمية الناجحة إلى حدٍّ ما. ومع ذلك، لا ينبغي لهذا التوجه أن يحجب حقيقةَ أنَّ جميع الحضارم في إريتريا لم يتركوا أثرًا مماثلًا في الوثائق التاريخية، كما أنهم لم يشكّلوا في أي وقت من الأوقات جماعة متجانسة أو مترابطة بشكل وثيق. ويعزى ذلك إلى كون بعضهم منتمين إلى أعلى طبقات المجتمع الحضرمي، في حين جاء آخرون من الطبقات الدنيا ضمن التسلسل الاجتماعي(5). وبشكل عام، كانوا أفرادًا منحدرين من إقليم واحد، هو حضرموت، لكنهم كانوا متنوعين في المكانة الاجتماعية والوضع الاقتصادي، وتفاوتت علاقاتهم مع مجتمعات شمال شرق إفريقيا بين التعايش والانخراط بدرجات وأساليب مختلفة(6).
من القيود التي تعتري النقاشات حول الاندماج والانصهار الاجتماعي والثقافي، الميل إلى الافتراض المسبق بأن كيانات ثقافية واجتماعية متميزة وثابتة قد اندمجت أو انصهرت مع كيانات مماثلة أخرى. إن مثل هذه الافتراضات الجوهرية تبدو غير منطقية في البيئة الديناميكية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا التي تميزت بها منطقة حافة المحيط الهندي، حيث كانت المدن الساحلية والموانئ تخضع لتحولات وتشكّلات اجتماعية وثقافية كبرى بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. وإذا أخذنا مدينة مصوّع في أواخر القرن التاسع عشر كمثال، يمكن القول إن المهاجرين الحضارم، في سعيهم لترسيخ وجودهم المحلي، شاركوا بنشاط إلى جانب جماعات أخرى في تشكيل الطابع السياسي والاجتماعي والثقافي المميز لتلك البيئة الحضرية متعددة الثقافات. فقد أدَّى الحضارم دورًا محوريًا في إنتاج أنماط حضرية وحداثية دولية في عالم المحيط الهندي (7). وكان نطاق الهويات التي يمكن أن يعبّر عنها الأفراد المنحدرون من حضرموت في إريتريا مشروطًا بعوامل عدَّة سياسية وثقافية؛ إذ كانت تشكيلات الهوية مختلفة، ووظيفية، ومرنة في الغالب، تتشكل عبر جدلية الوضعيات الذاتية من جهة، والتصورات والتسميات الخارجية، التي كانت سياسية أو ذات جذور سياسية، من جهة أخرى. فقد يستخدم الشخص الواحد مؤشرات هوية مختلفة مثل “حضرمي”، “عربي”، “مسلم”، “عربي- إريتري”، “إريتري”، أو “مصوّعي” حسب السياق والغرض. وبالطبع، كانت هذه الهويات تتغير بمرور الزمن. فعلى سبيل المثال، وكما أشارت أولريكه فرايتاغ**، يمكن اعتبار أن “الحضرميّة” لدى السادة لم تكن سوى جانب واحد من هويتهم، غالبًا ما كان يُعبَّر عنه في سياق انتمائهم الديني (8). ولذا لا أهدفُ في هذه الدراسة إلى نسب أي فهم تبسيطي أو ضيق للهوية إلى الفاعلين الرئيسيين فيها. إنني أستخدم مصطلح “حضرمي” بمعناه الأوسع والأشمل، للدلالة على الأشخاص الذين هاجروا من حضرموت، أو الذين ينحدر أسلافهم من حضرموت إلى إريتريا.
المهاجرون، ورُوَّاد الأعمال التجاريون، والوسطاء الاستعماريون
ترجع العلاقة التاريخية بين المناطق اليمنية والإريترية إلى عصور موغلة في القِدم؛ فقد كانت السلع والناس والأفكار والممارسات الثقافية تنتقل بين هاتين المنطقتين منذ ما قبل العصر الإسلامي. ولا تزال آثار هذه الروابط بين حضرموت والساحل الإريتري واضحة في أسماء الأماكن والبيئة المعمارية في منطقة مدينة مصوّع الكبرى، حيث توجد مساجد سُمِّيت بأسماء علماء دين وأولياء حضارم بارزين. فعلى سبيل المثال، تُعرَف جزيرة الشيخ سعيد الصغيرة وغير المأهولة، والتي تُعرَف اليوم باسم “الجزيرة الخضراء”، بمسجدها الذي سُمِّي تيمُّنًا بالشيخ سعيد بن عيسى العمودي (توفي عام 1272م)، وهو ولي صوفي ومؤسس النسب العمودي في وادي دوعن. وهناك مساجد أخرى سُميت بأسماء أولياء بارزين من جنوب الجزيرة العربية، مثل عبد الله أسعد
اليافعي (1298–1367م) وإسماعيل الحضرمي (توفي عام 1298م)، والذي كان عالمًا مرموقًا في الفقه الشافعي، وأستاذًا لعدد من فقهاء شمال شرق أفريقيا الذين نشروا الإسلام في تلك المنطقة (9).
رغم أن الضغوط السكانية والمجاعات والفيضانات والاضطرابات السياسية في جنوب الجزيرة العربية كانت تدفع بالمهاجرين إلى مغادرة حضرموت على نحو متقطع لقرون طويلة، لكنَّ الكُتّاب العرب سجّلوا هجرة كبيرة للحضارم وغيرهم من العرب إلى منطقة القرن الأفريقي في النصف الأول من القرن السادس عشر. وقد ارتبط هذا السياق مباشرة بالجهادات الإسلامية ضد “إثيوبيا المسيحية”، وهي الحملات التي جذبت علماء حضارم، وأولياء، ومجاهدين من الجزيرة العربية رأوا في المشاركة فيها واجبًا دينيًا في سبيل توسيع حدود دار الإسلام. وكان عدد من هؤلاء ينتمون إلى أنساب تعود إلى النبي محمد ﷺ (السادة، الأشراف)، وبالتالي كانوا يتمتعون بحق عرفي في الحصول على نصيب مميز من الغنائم (الخُمس، أي الخُمس من الغنيمة)، وكانوا يرون في أنفسهم الورثة الطبيعيين للمناصب الدينية في الأراضي التي تخضع للحكم الإسلامي. غير أن الفتوحات الإسلامية في مرتفعات إثيوبيا لم تدم طويلًا، وبعد الهزيمة، اختار كثير من الحضارم عدم العودة إلى موطنهم الفقير، واستقروا بدلًا من ذلك في عدد من مدن الموانئ في شمال أفريقيا وشرقها؛ إذ أكسبتهم مكانتهم الدينية و”البركة” مواقع مؤثرة، مثل مناصب القضاة وأئمة المساجد (10). وتُجسّد شجرة النسب لعائلة الحيّوتي الإريترية الحالية (من سلالة آل الحبشي) هذا النمط. فهذه الأسرة من السادة الذين تعود أصولهم إلى مدينة تريم في حضرموت، ويُعد مؤسس السلالة هو المقدّم محمد (توفي عام 1255م)، والذي يُعتقد أنه أدخل التصوف إلى حضرموت ويُعد مؤسس الطريقة العلوية الصوفية. وتُظهر الوثيقة أن أول أجداد آل الحيّوتي الذي استقر في مصوّع (ربما قادمًا من زيلع حيث تُوفي جده) كان شيخان بن حسين بن علي، وذلك حوالي عام 1552م (960 هـ)، أي بعد أقل من عقد من وفاة القائد الشهير أحمد بن إبراهيم الغازي (نحو 1506–1543م)، المعروف باسم أحمد “غرّان” (أي “الأعسر”) (11).
رغم أن الوجود الحضرمي في مدينة مصوّع ظل قائمًا بشكل مستمر منذ القرن السادس عشر، غير أن الوثائق المتوفرة عن هذا الوجود نادرة للغاية قبل منتصف القرن التاسع عشر. وتشير السجلات التاريخية الضعيفة إلى أن الحضور الحضرمي المبكر كان في الأرجح يقتصر على السادة وغيرهم من أفراد الطبقات العليا في المجتمع الحضرمي. ومن الأمثلة الجديرة بالاهتمام حالة تعود إلى منتصف القرن الثامن عشر تقريبًا، حين تزوّج أحد أفراد أسرة آل باعلوي في مصوّع من سيتّل، ابنة النائب عثمان أمير (حكم بين 1741–1781)، المنتمي إلى السلالة الساحلية من الزعماء المحليين. وانتقل الزوجان إلى البر الرئيس، الأكثر اعتدالًا في الحرارة وفقًا للتقليد المحلي، حيث أسّسا قرية أُمكُلّو. وتكشف هذه الحالة عن صعود الحضرميين في المشهد الحضري الساحلي، وكذلك عن استراتيجياتهم في الاندماج وبناء النفوذ؛ إذ دخل أحد أفراد نخبة السادة في علاقة مصاهرة مع الأسرة البلوية الحاكمة من خلال الزواج بابنتهم، وهي السلالة التي كانت تسيطر على مناطق واسعة من شرق إريتريا وشمالها. وتشير هذه الحالة إلى وجود استراتيجيات زواج خارج الجماعة، كما تدل على مرونة قواعد الكفاءة الاجتماعية أو الزواج الداخلي لدى الحضارم عندما تكون هناك مكاسب محتملة يُمكن تحقيقها (12).
ازدهار البحر الأحمر، بناء رأس المال وصناعة مصوّع (1840 إلى العقد الأول من القرن العشرين)
شهد البحر الأحمر تحوّلات جذرية بدأت في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. فقد أدى إدخال الملاحة البخارية وافتتاح قناة السويس إلى توسّع تجاري كبير، تميز بتزايد تدفق السلع والعمالة والمعرفة التجارية والخدمات عبر المنطقة على نطاق عابر للأقاليم. وقد مكّنت تكنولوجيا السفن البخارية من تجاوز نظام الرياح الفريد، الذي كان يقسّم البحر الأحمر سابقًا على مجالين شبه منفصلين للملاحة والتجارة، وأسّست لدور هذا الحوض كطريق مائي مميَّز يربط بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. وأسهمت هذه العملية كذلك في إعادة تشكيل تراتبية الموانئ وشبكات التجارة، وأطلقت أنماطًا جديدة من الحركة والتنقّل، بما في ذلك الحركة النشطة المرتبطة بالحج الإسلامي إلى مكة المكرمة. وقد تكيّفت شبكات الشحن التجارية العربية والهندية المتنافسة بسرعة مع التكوين الجديد للبحر الأحمر، الذي وعد بتحقيق ثروات جديدة للمبادرين التجاريين (13).
هاجر التجّار وغيرهم من رُوَّاد الأعمال التجاريين إلى مدن الموانئ الواقعة على البحر الأحمر، وأسهموا في تطوير مراكز حضرية دولية جديدة و”حديثة”، ذات طابع اجتماعي وثقافي معقّد. وقد شهدت الهجرة الحضرمية إلى منطقة البحر الأحمر نموًا سريعًا، وبرزت في البداية وربما بشكل أكثر وضوحًا في مدينة جُدَّة، التي كانت المنفذ التجاري الدولي الأهم في هذا الحوض البحري. كما سارع الحضارم إلى الانتشار في موانئ تهامة، مثل الحديدة، واللُّحيَّة، والقنفذة، وكذلك في عدن، وموانئ الساحل الإفريقي، وعلى رأسها سواكن ومصوّع. وعلى الرغم من وجود بعض الحضرميين في مصوّع في أوائل القرن التاسع عشر، لكنَّ التدفق الكبير إلى هذه المدينة الساحلية لم يبدأ فعليًا إلا في أربعينيات وخمسينيات القرن نفسه؛ إذ أورد تقرير بريطاني وجود 23 تاجرًا حضرميًا في مصوّع في عام 1858، في حين أشار تقرير آخر عام 1865 وهو العام الذي تولّى فيه الخديوي إسماعيل حكم الميناء الإرتري من العثمانيين، غير أن الحضرميين والهنود كانوا يهيمنون على التجارة في المدينة. وتشير أدلة تعود إلى منتصف القرن إلى أن بعض الحضرميين العاملين في مصوّع (مثل آل با جنيد) كانوا منخرطين في تجارة الرقيق، سواء كناقِلين بحريين أو ربما كتجّار، وإن كانت التفاصيل المتاحة عن ذلك محدودة للغاية. ويبدو أن المرسوم العثماني الصادر عام 1857 والذي حظر تجارة الرقيق الأفارقة، قد قوبل بمقاومة من قِبل تجّار حضرميين في مصوّع، الذين شاركوا بحماس في تمرُّد محلي ضد السلطات عام 1858 (14).
أدّى إعادة ترتيب هياكل الموانئ، وشبكات الشحن، وأنماط التجارة، إلى انتقال بعض الحضرميين إلى مدينة مصوّع من موانئ أخرى على البحر الأحمر، وليس مباشرة من حضرموت. وينطبق هذا مثلًا على محمد سالم باطوق (العمودي) (نحو 1843–1935)، الذي وُلد في جُدَّة لأب حضرمي وأم مصرية، ممثّلًا إلى حدّ ما نموذج “إنسان البحر الأحمر” الجديد في منتصف القرن التاسع عشر. انتقل مع والدته إلى مصوّع في فترة مراهقته المبكرة، ودخل مجال تجارة الأقمشة من خلال زواج يُحتمل أنه كان مفصليًا من ابنة أكبر تاجر أقمشة في مصوّع آنذاك، عبد النبي القَبولي. وقد تمكّن محمد سالم من تجميع قدر كبير من رأس المال في طريقه ليصبح أحد أغنى مواطني المدينة.
انتقل بعض الحضرميين إلى مصوّع مباشرة من حضرموت بين خمسينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. وغالبًا ما كانوا يصلون وهم في سن المراهقة، وبشكل فردي، ثم يجلبون أفراد أسرهم إلى إريتريا بعد أن يحققوا استقرارًا ماليًا نسبيًا. وكان الأبناء، والإخوة، وأبناء العم، وأبناء الأخ، الذين يُجلبون إلى إريتريا – وغالبًا لا يزالون مراهقين – ينضمون إلى أعمال تجارية عائلية الطابع. وقد انخرط بعض الحضرميين في عمليات استيراد وتصدير، وتاجروا في الأقمشة، والحبوب، والجلود، والبُن، ومنتجات بحرية متنوعة، في حين بدأ آخرون من الصفر، وعملوا كباعة متجوِّلين، وحمّالين، وعمّال أرصفة، وفي وظائف يدوية بسيطة أخرى. وتُظهر قصص عدَّةٌ نجاح نوع الفرص التي وفّرها هذا الازدهار التجاري للأفراد الطموحين والمجتهدين وذوي الحظ. ومن أبرز هذه القصص، قصة عبيد بن أحمد بن عبد الله باحبيشي (1871–1934)، الذي وُلد في وادي دوعن بحضرموت، ووصل إلى مصوّع عام 1886، وبدأ عمله كبائع متجوِّل يبيع التبغ والبهارات في الشوارع. وخلال سنوات قليلة، تمكّن من توسيع أعماله التجارية في التوزيع والتسويق، وجمع رأس مال مكّنه لاحقًا من امتلاك عقارات كبيرة. وقد وصفه شهود في مصوّع بأنه مثال على قصة “من الفقر إلى الثراء”؛ إذ انتقل من بائع متجوِّل بسيط إلى مالك عقارات بارز (15).
شهدت مدينة مصوّع نموًا وتطورًا ملحوظين في ظل الحكمين المصري والإيطالي، أتاح ذلك فرصًا في مجالات الاستيراد والتصدير، وتجارة الجملة والتجزئة، وصرافة الأموال، والشحن البحري. ويُظهر دليل تجاري خاص بتجّار ومؤسسات مصوّع يعود إلى عام 1912 وجود 31 اسمًا حضرميًا يمكن تمييزه، منهم 20 مقرُّهم في جزيرة مصوّع، والبقية في ضواحي المدينة وأطرافها. ويُبيّن الدليل أن أبرز الحضرميين الناجحين اقتصاديًا مثل باطوق، وصافي، وباجنيد، وبا حمدون، وبا مشمش، وبازرعة كانوا يتاجرون في اللؤلؤ، وأصداف اللؤلؤ، والجلود، والأقمشة، والدخن. وكانوا ينافسون بقوة التجّار الهنود من طائفة البانيان، الذين كانوا أيضًا بارزين في تجارة هذه السلع. وتشير البيانات إلى أن نحو نصف الحضرميين المدرجين في الدليل كانوا يتاجرون في الدخن، في حين تاجر عدد آخر في الذرة، والتوابل، والتمر، والعطور، والمواد الغذائية، والبقالة. كما سُجّل اثنان يعملان كـ “سماسرة”، وواحد كجزار (16). لكن لم يكن جميع الحضرميين في إريتريا من التجّار. فقد لاحظ تقرير إيطالي استعماري من عام 1895 أن الحمالين القادمين من جنوب الجزيرة العربية حلّوا تدريجيًا، خلال السنوات السابقة، محلّ الحمالين الإريتريين المحليين العاملين في القوافل. وتضمنت قائمة مرفقة بالتقرير، تضم 44 حمّالًا يعملون لدى السلطات الإيطالية، في الأقل ثمانية أو تسعة أسماء (حوالي 20%) يمكن تمييزها بسهولة كأسماء حضرمية، وكانوا قد بدأوا العمل في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر وأوائل التسعينيات منه (17).
شهدت مدينة مصوّع ازدهارًا في قطاع البناء والعقارات منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. واتّبع الحضرميون الذين نجحوا اقتصاديًا نمطًا مألوفًا، يتمثل في تنويع استثماراتهم من خلال تملّك العقارات، كما هو الحال في مناطق أخرى ضمن نطاق المحيط الهندي. كما تُظهر سجلات المعاملات العقارية الموثّقة في المحكمة الشرعية الإسلامية في مصوّع كيف استحوذ أفرادٌ من عائلتي با جنيد وبازرعة – وهم من كبار مستوردي الأقمشة ومصدّري البن والعاج – على عدد كبير من المحلات التجارية، والمنازل، وقطع الأراضي في المدينة بين أواخر ستينيات القرن التاسع عشر وأواخر الثمانينيات منه (18).
بينما توحي هذه الملكيات العقارية الواسعة بأن الحضرميين “اشتروا المدينة”، فإن الأرقام السكانية التي تعكس التدفق اللافت للمهاجرين الوافدين من الخارج تشير إلى أن الحضرميين وسواهم من العرب “استحوذوا” عليها فعليًا؛ فبيانات التعداد السكاني تظهر أن عدد السكان المصنّفين “عربًا” في مصوّع قد تضاعف تقريبًا ثلاث مرات، من 358 نسمة في عام 1886 إلى 924 نسمة في عام 1910، من أصل مجموع سكاني مقداره 4,335 نسمة. وتُظهر هذه البيانات أن في عام 1910، كانت 37 من أصل 83 عائلة مقيمة في جزيرة مصوّع -أي نحو 45%-تعود أصولها إلى شبه الجزيرة العربية (منها 12 عائلة من حضرموت، و11 من الحجاز، و14 من جيزان واليمن)(19). ومن المؤكّد أن بعض الأفراد المصنّفين تحت “الحجاز” كانوا في الواقع من أصول حضرمية.
وقد بذلت السلطات الاستعمارية المصرية ثم الإيطالية جهودًا كبيرة لجعل مستعمراتها في منطقة القرن الإفريقي ذات جدوى اقتصادية، منتجة، ومربحة. ومن هذا المنطلق، فقد اعتبرت الحضرميين وسائر التجار العرب البارعين شركاء تجاريين متميّزين، يُسهِمون في تحقيق تلك الأهداف الاقتصادية. كما أن الخيال الاستشراقي لدى النخبة الاستعمارية الإيطالية صنّف الحضارم – بوصفهم عربًا ومسلمين- كمنتمين إلى حضارةٍ تُعَدُّ، في نظرهم، أرقى من الحضارات الإفريقية المحلية (20). ونتيجة لذلك، فإنَّ كثيرًا ما صُنّف العرب (إلى جانب الهنود والأتراك) في تعدادات سكان مصوّع ضمن الفئة القانونية الاستعمارية المعروفة بـ”المستوعَبين”، وهي فئة قانونية استعمارية إيطالية، تشير إلى الأفراد المنتمين إلى “حضارات” تشبه (أو تطمح إلى أن تشبه) الحضارة الأوروبية.
وحرص الحضارم، من جهتهم، على بناء علاقات جيدة مع الإدارات الاستعمارية. فقد حقق بعضهم، مثل محمد سليم با طوق، ثروات طائلة من خلال تزويد القوات الاستعمارية الإيطالية بإمدادات حيوية، مثل المواد المعدنية والماشية. كما أشار الحاكم الإيطالي فرديناندو مارتيني في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر (1897–1907) إلى أن كبار تجار مصوّع كانوا يأتون إليه في مناسبات متعددة لمناقشة الأوضاع التجارية، وكانوا يتقدمون بمطالب لتحسينها، من بينها خفض الرسوم الجمركية على الواردات. وفي عام 1900، قدموا أيضًا التماسًا لتحويل مصوّع إلى منطقة حُرَّة ذات أنظمة جمركية مخففة؛ ليساعدها على مواجهة المنافسة القادمة من جيبوتي (21). شغل بعض الحضارم وظائف في الإدارات الاستعمارية، بما في ذلك مناصب تتعلق بالشؤون السياسية. فعلى سبيل المثال، عمل حسن أحمد حيّوتي (1850–1939) سكرتيرًا للبعثة المصرية التي تفاوضت في أسمرة مع رأس ألولا، بعد معاهدة هيويت عام 1884، بشأن شروط رفع الحصار الذي فرضتْه قوات الدراويش على القوات المصرية في كسلا (22).
أسّس عدد من رجال الأعمال الحضارم المقيمين في مصوّع علاقات تجارية ورعاية مع المنتجين والمورّدين في المناطق الداخلية. فقد نظّم محمد سالم باطوق قوافل وأرسلها إلى قوندار لشراء البضائع، في حين موّل أحد أفراد عائلة بازرعة المدعو “عبد الجيلين” (على الأرجح خطأ في كتابة الاسم) في كرن برأس مال لشراء المواشي والأراضي (23). وفي أواخر القرن التاسع عشر، امتلك محمد عمر بازرعة عددًا من المراكب، وكان أحدها في الأقل يعمل بين مصوّع وسواكن. وأنشأ أفرادٌ من عائلة بازرعة شركات استيراد وتصدير في كل من أديس أبابا، ودسي، وجيبوتي في أوائل القرن العشرين (24). واستطاع كل من بازرعة وباطوق السيطرة على عمليات تجارية تربط مناطق في إريتريا وإثيوبيا بشبكات الشحن والتجارة الحضرمية واسعة النطاق في هذه الحالات.
أدَّى الحضارم دورًا مهمًا في عمليات الشحن البحري من ميناء مصوّع؛ إذ تُظهر قوائم المراكب المسجلة في مصوّع عامي 1901 و1908 أن كلًّا من باجنيد، وباطوق، وباعلوي، وصافي، وباحمدون كانوا من بين كبار مالكي السفن في الميناء (25). وكانت غالب هذه المراكب من نوع السنبوك، وتُستخدم لنقل البضائع عبر البحر الأحمر، إضافة إلى عمليات الغوص لاستخراج اللؤلؤ في أرخبيل دهلك. ولا شك أن بعض هذه المراكب استُخدم في أنشطة غير قانونية، مثل تهريب العبيد واللآلئ غير المصرَّح بها. ويُعَـدُّ محمد سالم باطوق أحد أبرز رُوَّاد الشحن البحري في مصوّع؛ إذ امتلك خمس سفن، وبتفويض من الإدارة الاستعمارية، بدأ في نقل الحجاج المسلمين، وكان كثيرٌ منهم من “التكرور” القادمين من غرب إفريقيا عبر البحر الأحمر إلى موانئ تهامة والحجاز. كما قام باطوق بشراء 20 مركبًا من نوع السنبوك، ووسّع نطاق هذه الخدمة في عام 1915 (26).
إن الجهود الإيطالية لتعزيز التجارة الإريترية مع اليمن وشبه الجزيرة العربية من جهة، وتزايد رغبة السلطات في السيطرة على الفضاء والتنقل، ولا سيما تحركات مَنْ وصفتْهم السلطات الاستعمارية بـ”الرعايا المسلمين الخطرين المحتملين” من جهة أخرى، أدّت إلى إطلاق مبادرة لتنظيم خدمات الشحن البحري انطلاقًا من ميناء مصوّع بشكل أكبر. حيث تم تأسيس شركة مشتركة خاصة إيطالية–مصوّعية تُدعى “الشركة البحرية الإريترية“(Società Marittima Eritrea) في عام 1916، كان هدفها توفير خدمات النقل البحري بالبواخر لتعزيز التجارة مع سواحل شبه الجزيرة العربية، وكذلك نقل الحجاج المسلمين عبر البحر الأحمر. وقد تم تمويل هذه المبادرة من خلال رؤوس أموال إيطالية ومحلية من مصوّع، وكان من بين المساهمين الستة من سكان المدينة اثنان من الحضارم. وواصلت الشركة عملها لسنوات عدَّة إلى أن انهارت أمام منافسة الشركات الإيطالية الخاصة، فأدى إلى تصفيتها في عام 1921(27). واصل محمد سالم باطوق تشغيل خدمات النقل الخاصة به حتى وفاته في عام 1935، ثم تولّى ابنه حسن محمد باطوق إدارة الأعمال لسنوات عدَّة. وفي عامي 1948 و1951، وخلال فترة الإدارة العسكرية البريطانية (BMA)، حاول حسن محمد مرتين إحياء المشروع من خلال التقدم بطلب رسمي للسماح له بشراء قوارب جديدة تعمل بمحركات. غير أن السلطات البريطانية رفضت طلبه، مفضّلة توجيه الحجاج إلى ميناء سواكن لاجتياز البحر إلى جدة (28).
من الأمثلة الأخرى على المشاريع الريادية التي نُفذت بالتعاون مع الحكومة الاستعمارية، تلك المرتبطة بمجال الزراعة. فقد شارك عدد من الحضارم في جهود مشتركة مع السلطات الاستعمارية الإيطالية لتطوير الإنتاج الزراعي في المناطق الساحلية شمال مدينة مصوّع. حصل السيد حسن محمد الصافي على امتياز لزراعة 300 هكتار من الأراضي في منطقة ويقيروفي عام 1905، في حين حصل محمد سالم باطوق في عام 1908 على امتياز آخر بمساحة 906 هكتارات في المنطقة نفسها وللغرض نفسه. وكان الصافي رائدًا استثنائيًا في مجال ريادة الأعمال؛ إذ قام بتطوير أنظمة ري مبتكرة لزراعة التبغ، والقطن، والدخن الرفيع (المعروف محليًا بـ”بلتك” – bultuk)، والقمح، والذرة (granturco)، والدخن (dura). وقد استأجر الصافي فلاحين وعمالًا زراعيين من اليمن، كانوا قد فرّوا نتيجة للاضطرابات السياسية التي أعقبت صعود الإمام الزيدي يحيى محمد حميد الدين إلى السلطة في عام 1904. وأُطلق على هؤلاء العمال اسم “برّع عرب” أي “العرب الغرباء” من قِبل سكان السواحل، وقد عملوا في مزارع ويقيرو وأسّسوا قريتي دبّت وربربت. وقد اعترفت السلطات الاستعمارية الإيطالية بإنجازات الصافي ومنحته جوائز تقديرية على مبادراته خلال المعرض الدولي الذي أُقيم في مدينة ميلانو عام 1925 (29).
الانتقال نحو المرتفعات: ريادة الأعمال الحضرمية في أسمرة والمناطق الداخلية (من العقد الأول من القرن العشرين حتى أربعينياته)
كانت مدينة مصوّع تُعد العاصمة الإدارية لمستعمرة إريتريا حتى عام 1899، حينما قررت السلطات الاستعمارية نقل مقر الحكم إلى أسمرة الواقعة في المرتفعات. وقد شهدت أسمرة نموًّا تدريجيًّا، لكنَّ وصول خط السكك الحديدية من مصوع عام 1911 شكّل نقطة تحوّل رئيسة في تسارع وتيرة تطورها العمراني والاقتصادي (30). وفي هذا السياق، انتقل عدد من الحضرميين من مصوّع إلى المدينة الجديدة الآخذة في الازدهار. وتُظهر قائمة الأعمال التجارية في أسمرة لعام 1912 وجود سبعة أسماء حضرمية واضحة، جميعهم منخرطون في تجارة البضائع المستوردة. وعلى الرغم من أن هذه القائمة لا تؤكد أن عدد الحضرميين في العاصمة الاستعمارية الوليدة كان محصورًا في هؤلاء السبعة، فإنها تُشير إلى أن التجار الهنود من طائفة البنيان كانوا أكثر سرعة لاقتناص الفرص التجارية؛ إذ تضمّن الدليل التجاري 28 تاجرًا هنديًّا يعملون في بيع الأقمشة، وتصريف العملات، وتجارة اللوازم الصغيرة (الكُلف). وتُبرز بعض الأسماء الحضرمية أيضًا وجود نشاطات تجارية في مناطق أخرى، مثل غيندا، كرن، أغوردات، وبارِنتو، ما يعكس اتساع رقعة الحضور الحضرمي في الفضاء الاستعماري الإريتري المعاد تشكيله (31).
بذلت إيطاليا الفاشية جهودًا حثيثة لتطوير اقتصاد إريتريا وجعله مكتفيًا ذاتيًا في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. كما سعت السلطات الاستعمارية إلى تنشيط القطاعات الزراعية والتجارية والصناعات الخفيفة، واستثمرت الدولة في تنفيذ مشاريع الأشغال العامة وتطوير البنية التحتية لوسائل النقل. وقد كان تدفق رؤوس الأموال خلال ثلاثينيات القرن نتيجةً للاستعدادات الضخمة التي سبقت الحرب الإيطالية- الإثيوبية في عامي 1935–1936، وهي عملية تميّزت بالتوسع الكبير في مشاريع البنية التحتية والتوسع الحضري. وأصبح نحو 20% من سكان إريتريا يعيشون في المدن والبلدات بحلول منتصف الأربعينيات. كما شهدت مدينة أسمرة، على وجه الخصوص، زيادة سكانية هائلة في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن؛ إذ ارتفع عدد سكانها من الإيطاليين من 5,000 إلى 60,000، في حين ارتفع عدد السكان الإريتريين، الذين اشتملوا على أعدادٍ كبيرة من العمال والخدم، من 15,000 إلى 120,000 ما بين عامي 1935 و1941 (32).
استفاد الحضارم من الجيل الثاني والمقيمون الجدد من ازدهار التجارة ونمو قطاع الخدمات خلال تلك الفترة. وقد أسهم غزو إثيوبيا وتأسيس الإمبراطورية الإيطالية الواسعة في شرق أفريقيا (Africa Orientale Italiana) عام 1936، إلى جانب السياسات الاستعمارية الفاشيَّة المتعاطفة صراحةً مع المسلمين، في تحفيز روّاد الأعمال على توسيع أنشطتهم التجارية إلى مختلف أنحاء هذا الكيان السياسي والإقليمي الجديد (33). لذا انتقل أفراد من عائلات حضرمية مستقرة في إريتريا، مثل آل بزارعة، وآل حبيشي، وآل عقيل مع اليهود والهنود إلى أديس أبابا ومدن إثيوبية أخرى خلال ثلاثينيات القرن العشرين والأربعينيات المبكرة (34). وقد وسّع اثنان من أبناء عبيد باحبيشي، وهما أحمد (1900–1959) وعمر (1910–1966)، نطاق أعمالهم في مجال الاستيراد والتصدير (شملت الأقمشة، والغزول، والحبوب، والزيوت)، فعزّزوا فرع شركتهم في أسمرة، وافتتحا فرعًا جديدًا في أديس أبابا عام 1935. وكان كلاهما يسافر بانتظام إلى جُدَّة، والسودان، ومناطق مختلفة من إثيوبيا ضمن إطار تعاملاتهم التجارية، واستمرا في استثمار رؤوس الأموال في قطاعي العقارات والمصانع. أما شقيقهما سالم فكان يملك مشاريع تجارية في إريتريا، منها فرع لشركة إطارات بريدجستون (ربما في أسمرة)، إضافة إلى مصنع للبسكويت في ديكيمهاري (35). كما تميزت عائلة بازحام أيضًا بنجاح كبير خلال تلك السنوات. فقد عمل عمر عبيد بازحام، الذي قدم والده إلى إريتريا عام 1870، وعمل في مجال الصرافة مع والده حتى عام 1918، ثم التحق بالعمل لدى حضرمي آخر يُدعَى حسين علي العمودي، قبل أن يؤسس عمله الخاص في تجارة المنسوجات. ثم وسّع نشاطه التجاري ليشمل المنتجات البحرية بين عامي 1930 و1935، ولاسيما عرق اللؤلؤ وصدف التروكوس، وكان ناشطًا أيضًا في مناطق أخرى من حوض البحر الأحمر الجنوبي، مثل عصب، والحديدة، وكمران. وأدار وكالات للاستيراد والتصدير في كل من مصوّع وأسمرة خلال الفترة الممتدة من 1936 إلى 1947 (36).
أدَّتْ ريادة الأعمال الحضرمية دورًا حاسمًا في عملية التحضر في إريتريا. ويُقال إن محمد سالم باطوق – وربما يكون ذلك مبالغًا فيه – قد شيّد 40 مبنى في مصوّع وحوالي 60 مبنى في أسمرة (37). وموّل أحمد عبيد باحبيشي بناء عددٍ من المنشآت العامة والتجارية والمباني السكنية في أسمرة خلال الفترة ما بين ثلاثينيات القرن العشرين والخمسينيات منه، وكان بعضها مميزًا من حيث التصميم والطابع المعماري العصري. وقد أدى تمويله لمبنى سكني مكوّن من ستة طوابق في شارع حرّنت (بالقرب من ساحة باهتي مسكرم) عام 1955 إلى إفلاسه، وهو الإفلاس الذي واجه صعوبة في التعافي منه لاحقًا (38). لكن الحضرميين لم يقتصر دورهم على تمويل مشاريع البناء فحسب؛ بل أدَّوْا كذلك دورًا محوريًا في توفير مواد البناء والسلع الأخرى للمدن المتوسعة. فقد ازدهر نشاط عائلة بامشمش في هذا المجال، وهي العائلة التي أسست أعمالها التجارية في مصوّع عام 1857. التحق حسين عبد الله بامشمش (1876–1950) بوالده في مصوع مع إخوته العشرة عام 1889، وأنشأ نشاطه التجاري الخاص هناك، كما افتتح فرعًا في أسمرة عام 1925. وقد وسّع ابناه: حسن (مواليد 1908) ومحمد (مواليد 1918)، نطاق عملهم في تجارة المواد الإنشائية في أسمرة. وفي ظل الحرب العالمية الثانية، خلال أربعينيات القرن العشرين، كانا من المورّدين الرئيسيين لشركة “جونسون، دريك آند بايبر” الأمريكية، والتي تولّت تنفيذ مشاريع هندسية وإنشائية لصالح الجيش الأمريكي (مثل القواعد البحرية، والمخازن، والأحواض الجافة، والمستشفيات) في كل من مصر والسودان وشبه الجزيرة العربية (39).
في ظل إدارة الاحتلال العسكري البريطاني (BMA) في أوائل أربعينيات القرن العشرين، شهد الاقتصاد الإريتري ازدهارًا جديدًا، وإن كان لفترة وجيزة، وهذه المرة بالتزامن مع الحرب العالمية الثانية. فقد أدى التباطؤ في واردات الشرق الأوسط من أوروبا التي مزَّقتها الحرب إلى زيادة الطلب على السلع الإريترية. وقد أسفر هذا الازدهار القصير الأمد – سواء في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي أو أوائل أربعينياته – عن تدفق عدد من اليمنيين، ومن ضمنهم بعض الحضارم، إلى إريتريا. كان غالبهم من العمَّال، لكن بعضهم كانوا من رُوَّاد الأعمال الذين قدموا من مناطق أخرى ضمن الشتات الحضرمي الواسع الانتشار. فعلى سبيل المثال، كان محمد عمر بابخير مقيمًا في جاكرتا، ويعمل مع والده في مجال الاستيراد والتصدير ضمن خط التجارة بين إندونيسيا وحضرموت. ثم انتقل إلى أسمرة في أربعينيات القرن العشرين، ربما نتيجة للثورة الوطنية الإندونيسية (1945–1949)، والتي شارك فيها الحضارم في صفوف متباينة ومتصارعة (40).
تُعد البيانات الديموغرافية إشكالية؛ إذ إن التعدادات السكانية في الحقبة الاستعمارية عكست تصنيفات استعمارية عنصرية وعرقية ودينية، كانت تميل إلى دمج الحضارم مع عرب آخرين (يمنيين، حجازيين، مصريين… إلخ)، أو مع “المسلمين الأصليين” في إريتريا بشكل عام. ومع ذلك، استنادًا إلى تعداد سكاني أُجري عام 1931، أفاد ألبرتو بوليرا بأن عدد سكان مدينة مصوّع بلغ 9,300 نسمة، كان من بينهم 2,700 عربي، أي ما نسبته 29 بالمئة من إجمالي السكان. أما في مستعمرة إريتريا ككل، فقد بلغ عدد العرب حوالي 5,500 نسمة، غالبيتهم من اليمنيين، في حين كان بعضهم من مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية. وأشار بوليرا إلى أن غالب اليمنيين كانوا يعملون كحمّالين وخدم منازل، وكان لديهم، كما هو الحال مع مهاجرين يمنيين آخرين، جمعية عمالية خاصة بهم تحت قيادة “مُقدَّم” منتخب. وكان نظام المُقدَّم هذا يقوم على أن يتولى المُقدَّم دور الوسيط بين العمال اليمنيين وأرباب العمل المحليين، من خلال تجنيد العمال وتوزيعهم في أماكن العمل (41). لكننا نعلم أنه في عامي 1935–1936، ومع تسارع الاستعدادات للحرب، جرى توظيف عدد كبير من اليمنيين في مشاريع بناء الطرق وغيرها من المشاريع المماثلة. وشملت التعدادات البلدية التي أُجريت في أسمرة اليمنيين ضمن فئة “المسلمين” في عامي 1937 و1938، الذين ارتفع عددهم إلى نحو 9,500 نسمة، أي ما يعادل 25 بالمئة من إجمالي السكان “الأصليين”، و10 بالمئة من مجموع سكان أسمرة (42). وكما تم تسجيل عدد السكان “العرب” في أسمرة بـحوالي 4,000 نسمة في عام 1949؛ وفي عام 1952، قُدِّر عدد العرب في عموم إريتريا بما بين 10,000 و12,000 نسمة؛ أما في عام 1958، فقد أفاد القنصل الأمريكي في أسمرة بأن عدد “اليمنيين- الحضارم” في المدينة وحدها بلغ نحو 6,000 نسمة (43).
السلطة المجتمعية، الرعاية الدينية، وأنماط الزواج
اندمج الحضارم في البيئات الاجتماعية والدينية والثقافية التي عملوا ضمنها في إريتريا بطرق متعددة ومتنوعة. فقد وصل بعضهم إلى شمال شرق إفريقيا وهم يحملون مكانة دينية رفيعة مسبقًا، مثل الانتساب إلى السادة أو امتلاكهم خبرة دينية متقدمة (في الفقه الشافعي)، وهو ما مكّنهم من ترسيخ سلطة أخلاقية بين المسلمين المحليين ومؤسساتهم. كذلك، فإن عددًا من الحضرميين الذين نجحوا في مشاريع تجارية واستثمارية مختلفة، حوَّلُوا رأسمالهم الاقتصادي إلى أشكال أخرى من السلطة والنفوذ؛ إذ تولوا أدوارًا قيادية في الهيئات البلدية الحاكمة، وموّلوا مؤسسات دينية وتعليمية. وبحسب ما تمكنت من استنتاجه، فإنه – خلافًا لما حدث في بعض المناطق في شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا – لم يشكل الحضارم في إريتريا جمعيات طائفية خاصة بهم أو تنظيمات حضرمية منفصلة، بل أدَّوْا أدوارًا قيادية في إطار الجماعة الإسلامية أو العربية الأوسع في إريتريا، من خلال تأسيس وتطوير وقيادة مؤسساتها الحديثة.
من أبرز السمات اللافتة للحضور الحضرمي (وحضور العرب الآخرين) في سواحل إريتريا في أواخر القرن التاسع عشر هو بروزهم في المؤسسات البلدية والتجارية والقضائية المحلية. فعلى سبيل المثال، شغل محمد عمر بازرعة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر مناصب عدَّة في آنٍ واحد؛ فقد كان عضوًا في اللجنة البلدية لمدينة مصوع، وقاضيًا مساعدًا في المحكمة، وعضوًا في غرفة التجارة، وتولى منصب المفوض البلدي بين عامي 1894 و1896. خلفه في هذا المنصب عمر عبد الله باجنيد، الذي تولى المهمة للفترة التالية (1896– 1898)، وكان أيضًا قد شغل سابقًا منصب قاضٍ مساعد في المحكمة (44). إنَّ تولّي مثل هذه المناصب الرفيعة في الهيكل الإداري المحلي من قبل أشخاص إمَّا استقروا حديثًا في الميناء أو كانوا مجرَّد تُجَّارٍ عابرين من غير عائلات مقيمة في مصوع، يثير تساؤلات عن مفاهيم السلطة والمواطنة في المدن الساحلية الدولية الديناميكية في المحيط الهندي خلال أواخر القرن التاسع عشر. فَلِمَنْ كانت تنتمي مدينة مصوّع في نهاية المطاف؟ هل كانت لأولئك الذين يستطيعون الادعاء بتاريخ عائلي طويل في المدينة، أم لأولئك القلة من رجال الأعمال الحضارم والمصريين الذين راكموا ثروات كبيرة من العقارات الحضرية، وأقاموا علاقات وطيدة مع السلطات الاستعمارية، بحيث باتوا عمليًا يديرون شؤون المدينة بالشراكة معها؟
كان للحضارم أيضًا دور محوري في الشؤون الدينية؛ فقد شغل السيد محمد مساوى (حوالي 1785–1855)، إلى جانب اثنين من أفراد أسرة آل باعلوي السادة (عيدروس)، منصب القاضي في المحكمة الشرعية بمدينة مصوّع في فترات مختلفة من القرن التاسع عشر (45). واعتبر السادة الحضارم بشكل عام، وغيرهم أيضًا، أنفسهم حُرَّاسًا على الدين. وقد سَعَوْا إلى ترسيخ سلطتهم الدينية محليًا، وبذلوا جهودًا كبيرة في تعزيز المؤسسات الإسلامية، والتعليم، والممارسات الدينية، والأخلاق العامة. ويُحتمل أن بعضهم شارك في الحراك الرامي إلى توطيد الشافعية في محيط المحيط الهندي بصفتهم من أتباع المذهب الشافعي (46). ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر، اندلعت توتُّراتٌ بين الحضارم الشافعية وأتباع الطريقة الشاذلية الصوفية من جهة، وبين أتباع المذهب المالكي أو الحنفي وربما الطريقة الختمية السائدة محليًا من جهة أخرى؛ من أجل طقوس صلاة الجمعة والزعامة الدينية في مصوع وضاحيتها هيتملو، وانتهت هذه التوترات بشكل درامي بطرد عبد الله باجنيد من مدينة الميناء (47). وتجددت الخلافات بين التيارات الإصلاحية “الأرثوذكسية” والحساسيات الصوفية في حادثة أخرى خلال العقد ذاته. إذ وجّه الفقيه والمصلح الديني الحضرمي، علي بن أحمد بن سعيد باصبرين، المتعلّم في مدينة زبيد، والذي أمضى فترة من الزمن يدرّس في أحد مساجد مصوّع، انتقادات علنية للسيد هاشم المرغني (1849/50–1901)، زعيم الطريقة الختمية في مصوّع، بسبب تساهله (أو ربما تحريضه – فالمصدر لا يحدد) تجاه ممارسات دينية اعتبرها “غير سليمة”. وقد شملت تلك الانتقادات النياحة على الموتى، وتمزيق الثياب، وممارسة الجلد الذاتي. وبحسب الروايات الشفوية، انتهى هذا الخلاف بسلام نسبي؛ إذ قيل إن باصبرين والمرغني توصلا إلى مصالحة عقب تبادل الرسائل، أقنع فيها المرغني باصبرين بأرثوذوكسيته (48).
شارك الحضارم أيضًا في الترتيبات اللوجستية المرتبطة بالحج السنوي إلى مكة المكرمة. وسعيًا من السلطات الاستعمارية الإيطالية إلى تلبية احتياجات رعاياها المسلمين أثناء الحج، وممارسة الرقابة والإشراف عليهم في الوقت نفسه، سعت تلك السلطات إلى امتلاك نُزُل لإقامتهم في مكة والمدينة. ولذا تم تشكيل بعثة خاصة أُطلق عليها “البعثة الإسلامية الإيطالية إلى مكة” في يوليو 1917، وضمَّتْ ممثِّلين عن المسلمين من ليبيا وإريتريا والصومال. وقد مثل مسلمي إريتريا في هذه البعثة كلٌّ من أحمد الغول ومحمد سالم باطوق، وكان الأخير أكثرهم مكانة وخبرة. سافرت البعثة إلى مكة، حيث حدّدت نُزُلًا مناسبًا يتّسع لـ 200 حاج، بلغت تكلفته 3000 جنيه إسترليني. صادقت السلطات في روما على شراء العقار، وتم إنشاء هيئة خاصة، تضم أعضاء من جميع المستعمرات الإيطالية؛ لتتولى إدارته. وأدَّى باطوق، الذي كان أكثر دراية بمدينة جُدَّة – مسقط رأسه – من بقية المندوبين، دورًا محوريًا في هذه المهمة؛ إذ يُنسب إليه الفضل في العثور على العقار، وإنهاء تفاصيل الصفقة العملية (49).
دعم الحضارم المؤسسات الإسلامية والمدنية من خلال الرعاية الخيرية ومن خلال نظام الوقف، مسهمين بذلك في تشكيل الطابع المعماري والبيئة العمرانية، ولا سيما في مدينتي مصوّع وأسمرة. وقد خلّدوا أسماءهم بشكل رمزي في معالم المدينتين من خلال بناء منازل ومبانٍ خاصة، بعضها فخم الطراز، أصبحت مع مرور الوقت معالم بارزة ومميزة، مثل: بيت صافي، وبيت با حمدون، وبيت با طوق، وبيت با زرعة في مصوع، وغيرها .زيادة على ذلك، أوقف الحضارم ممتلكات لصالح مرافق عامة، مثل المقابر (كمقبرة با جنيد في مصوع)، وآبار المياه (كبير باحبيشي في مصوّع)، ولا تزال هذه المواقع تُعرف بأسمائهم حتى يومنا هذا (50).
في دراسة مفصّلة أخرى عن ممارسات الوقف في مصوّع خلال القرن التاسع عشر، جادلتُ بأن الحضارم وروّاد الأعمال المصريين الذين استقروا في المدينة خلال سنوات “الازدهار” استخدموا مؤسسة الوقف كإحدى الاستراتيجيات المتعددة للاندماج في المجالات الاجتماعية والتجارية والسياسية لمصوّع ومؤسساتها. فقد شكّل تقديم الرعاية عبر الأوقاف إحدى الوسائل لاكتساب رأسمال رمزي في سياق عملية الاندماج في هياكل الحكم المحلي وتطوّر السلطة والنفوذ السياسي. وبهذا، أسهموا في تشكيل نظام اجتماعي محلي و”مجتمع أخلاقي” ضمن إطار التحولات الاجتماعية والاقتصادية السريعة وما رافقها من صراعات على السلطة الأخلاقية. كما أُشير سابقًا، بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كان هؤلاء الروّاد قد بلغوا مناصب رئيسة في مؤسسات المدينة البلدية والقانونية والدينية، بما في ذلك المجلس الوقفي الذي تم إنشاؤه حديثًا (51). ومن الدلالات المهمة أن أول مجلس للأوقاف في مصوّع عام 1882 ترأسه المصري حسن موسى العقاد، إلى جانب الشيخ الحضرمي عبد الله عمر بن سعيد باجنيد (52). وترأس محمد سالم باطوق إدارة الأوقاف لكامل المستعمرة في أوائل القرن العشرين، في حين شغل ابنه سالم منصب رئيس مجلس الوقف بين حوالي 1923 و1931. وترأس حسن صافي الذي كان يشغل منصب “سَر تُجّار”، -أي رئيس نقابة التجار- المجلس بعد عقد من الزمان بين عامي 1940 و1948، في حين شغل منصب سكرتيره محمد عثمان حيّوتي، وهو حضرمي أيضًا (53).
كان دعم الحضارم ورعايتهم للمؤسسات الإسلامية في أسمرة منقطع النظير. وكان أبرز الرعاة من أسرة آل باحبيشي، وتحديدًا أبناء عبيد باحبيشي. فقد تولى أحمد عبيد باحبيشي قيادة أعمال العائلة بعد وفاة والدهم عام 1934، وشرع في أنشطة دؤوبة لخدمة المجتمعات العربية والإسلامية في إرتيريا طوال أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته. وشغل منصب نائب رئيس مجلس أوقاف أسمرة، وعمل عن كثب مع مفتي إرتيريا العام، الشيخ إبراهيم المختار أحمد عمر (1909–1969)، الذي كان يقود إصلاحات واسعة في المجالات التعليمية والقضائية. كما كان لأحمد دور محوري في تمويل توسعة مجمّع مسجد أسمرة (جامع الخلفاء الراشدين) وتجديده بالتعاون مع إخوته (عمر، أحمد، سعيد، وسالم)، وهو المشروع الذي شمل بناء أجنحة جديدة، ومكتبة (بما في ذلك اقتناء مجموعة كبيرة من الكتب) (54)، وسكنًا للطلاب، والمعهد الديني الإسلامي، الذي افتُتح في أكتوبر 1944. وقد تم تمويل المسجد ومؤسساته المرافقة بفضل إسهامات مالية من حضارم ميسورين آخرين، مثل حسن عبدالله بامشمش، والشيخ عمر باعقيل وإخوته، إضافة إلى تركة محمد باحمدون. كما أسهم أحمد وعمر باحبيشي في توسعة المدرسة العربية الأهلية (وكان اسمها الأول: المدرسة الخيرية الإسلامية)، التي أسسها الحضرمي باعقيل عام 1942. واتبعت المدرسة المنهاج المصري، واستعانت بمعلمين حضارم (مثل الشيخ عبد الله با صالح). وكانت الشؤون التعليمية من القضايا العزيزة على قلب أحمد باحبيشي؛ إذ شغل عام 1948 منصب أمين صندوق المجلس الإسلامي الأعلى للتعليم في إرتيريا.
اضطلع الحضارم بدور محوري في تمويل تشغيل هذه المؤسسات وإدارتها بين ثلاثينيات القرن العشرين وستينياته، وذلك بشكل رئيس من خلال نظام الوقف، عبر تخصيص العقارات كأوقاف. وقد شكّلت عائلات باحمدون، بامشمش، باحكيم، باحميد، آل العي، آل العمودي، وآل عقيل أكبر مجموعة من المُوقِفِين الذين أوقفوا ممتلكاتهم لصالح مسجد الجمعة، والمعهد الديني الإسلامي، والمكتبة الملحقة به (55). وقد أوقف بعضهم أيضًا ممتلكات لمؤسسات في مدن أخرى؛ ومثال ذلك وقف عائلة باخشب لصالح مسجد الجمعة في مدينة كرن. كما ارتبط الحضارم والعرب في إريتريا بالعالم العربي في نطاقه الأوسع، ففي عام 1948 جمع أفراد من المجتمع آلاف الجنيهات كتبرعات لضحايا النزاع في فلسطين، وكان أمين صندوق لجنة التبرعات لفلسطين هو الحضرمي باعقيل (56). كما كانت للحضارم في إريتريا صلات بالتطورات السياسية في حضرموت؛ فبعد ما عُرف بـ”أحداث المكلا” في أواخر عام 1950، عبّر الحضارم في إريتريا عن دعمهم للحزب الوطني الحضرمي المحلي ومطالبته بتحسينات وإصلاحات سياسية ومالية. ولتحقيق هذا الهدف، بعث الحضارم الإريتريون بتقرير مطوّل نُشر في صحيفة فتاة الجزيرة العدنية (57). وتبرز في هذا السياق قضية مهمَّة تستدعي المزيد من البحث، وهي: إلى أي مدى حافظ الحضارم في إريتريا على روابط وعلاقات اجتماعية وثقافية ودينية وسياسية مع حضرموت- وطنهم الأم؟
وتتطلب الدراسة المتعمقة كذلك مسألة ما إذا كانت الطريقة العلوية الحضرمية قد وُجدت أصلًا في إريتريا في أي مرحلة زمنية. فمصادري تكشف عن أن بعض الحضارم (بمن فيهم السادة) شغلوا مناصب قيادية في عدد من الطرق الصوفية التي كانت نشطة في إريتريا. فعلى سبيل المثال، عُيِّن ياسين محمود باطوق نائبًا (نقيبًا) للطريقة الشاذلية عام 1958، خلفًا للخليفة الحاج صالح محمد بشير باسعد، وهو حضرمي آخر، ليصبح بذلك سادس نقيب للطريقة (58). وقد انضم عددٌ من الحضارم إلى الطريقة الشاذلية، غير أن الانتماء الطرقي كان في الغالب مرنًا ومرتبطًا بالظروف والسياقات، ويعكس في كثير من الأحيان مصالح اعتبارات دنيوية ومراعاتها. فقد أخبرني أحد أفراد عائلات السادة بأنه كان أحمديًا، ثم انضم إلى الطريقة الختمية في أربعينيات القرن العشرين؛ لأن قادة الطريقة حينها كانوا من مؤسسي حزب الرابطة الإسلامية الإريترية المؤيد للاستقلال عام 1946. لكنه في سنوات لاحقة بعد زوال ذلك الحزب، عاد إلى الطريقة الأحمدية (59).
تكشف أنماط الزواج الكثير عن طبيعة الاندماج الاجتماعي في أي بيئة معينة. كان أول مهاجر يمني أو حضرمي إلى إريتريا يتزوج من امرأة محلية غير عربية في كثير من الحالات خلال القرن التاسع عشر. ومع ترسّخ الوجود الحضري وتحقيق النجاح، بدأت تظهر ميول إلى الزواج الداخلي (مثل عائلات النهاري، وصفي، وباحبيشي). وتُظهر عينة من عقود الزواج التي أبرمت في مصوع بين خمسينيات القرن التاسع عشر وخمسينيات القرن العشرين (استنادًا إلى سجلات الزواج في المحكمة الإسلامية في مصوع وجمع البيانات الشفوية) معدلًا مرتفعًا من الزواج الداخلي بين السادة. ومع ذلك، وكما في مناطق أخرى من الساحل السواحلي في شرق إفريقيا، فإن الصرامة في الزواج الداخلي التي كانت سائدة في حضرموت بدأت تتراجع بمرور الوقت، لتشمل الحضارم من مختلف الطبقات في مواقع جديدة في إفريقيا (60). كما تراجعت المسافة الاجتماعية التي كانت حاضرة في حضرموت عند انتقالهم إلى إفريقيا. وتُعد القدرة على التكيف مع الظروف المحلية، كما في استراتيجياتهم الزوجية، واحدة من عوامل عدَّة التي تفسر نجاح الحضارم في عالم المحيط الهندي عمومًا. فقد فضّل السادة من الحضارم الزواج من السادة، ولكنهم تزوجوا أيضًا من غير السادة ومن عرب ومسلمين آخرين من الخارج. غير أن الزيجات الخارجية ظلت تأخذ بعين الاعتبار الوضع الاقتصادي. فمثلًا، كانت عائلات العيدروس، وباعلوي، وصفي، ومساوى، وحيوتي، وجميعها من السادة، ترتبط ببعضها بعلاقات مصاهرة وثيقة. لكنها أيضًا كانت مرتبطة بعائلة النهاري اليمنية غير الحضرمية، وهي عائلة سادة ثرية كوّنت ثروتها في تجارة اللؤلؤ. وفضّل الحضارم غير السادة الزواج من حضارم أو من عرب آخرين من ناحية أخرى، لكنهم، على غرار السادة (مثل علاقة باعلوي– نائب)، عقدوا زيجات مع عائلات محلية “إريترية” ساحلية ذات مكانة دينية أو نفوذ سياسي، مثل با حمدون– آل الشيخ، صفي– بيت القاضي من زولا، وصفي– سفاف من غيندا. ومكّنت هذه التحالفات الحضارم من توسيع شبكاتهم الاجتماعية باتجاه الداخل وترسيخ مكانتهم محليًا (61).
السياسة الوطنية، القمع المعادي للعرب، والعودة إلى الجزيرة العربية (من أربعينيات إلى سبعينيات القرن العشرين)
أدى ظهور السياسات الوطنية وانتقال الدول القومية إلى الاستقلال في سياقات متعددة حول المحيط الهندي خلال العقود الوسطى من القرن العشرين إلى إعادة تموضع الحضرميين في المجتمعات التي استقروا فيها بطرق متباينة. ففي أماكن مثل ماليزيا وسنغافورة وكينيا، دعم الحضرميون القوى السياسية التي استطاعت الانتقال إلى أنظمة حكم مستقرة. أما في إندونيسيا خلال منتصف أربعينيات القرن العشرين وأواخره، فقد وجدوا أنفسهم على طرفي نقيض في صراع عاصف من أجل الاستقلال. كما تورط الحضرميون في النزاع الطائفي بين الهندوس والمسلمين في الهند وباكستان. وارتكب الثوار الأفارقة مجازر وحشية ضد العرب الذين شكّلوا الطبقة الحاكمة في الجزيرة لقرون عديدة في زنجبار عام 1964 (62).
أما في إريتريا، فقد شكّل انهيار الحكم الاستعماري الإيطالي في عام 1941 بداية عقدٍ من الزمن حافل بالنقاشات السياسية المحتدمة والصراعات لمستقبل المستعمرة السابقة وسكانها. وقد تولّت بريطانيا المسؤولية عن الإدارة المؤقتة للإقليم بانتظار اتخاذ قرار نهائي بشأن مصيره. وشجعت الإدارة العسكرية البريطانية (BMA) على تسييس المجتمع الإريتري في تلك الأثناء، مما أفضى إلى نشوء مجموعة من التصورات المتنافسة على الهوية، وإلى مواقف سياسية طائفية. وكان الانتقال إلى عملية سياسية تفتقر إلى أي تجربة ديمقراطية غربية سابقة تحولًا مفاجئًا ولم يخلُ من المعاناة. فقد أدت هذه العملية إلى تسييس الدين وإلى تعزيز الانقسامات داخل المجتمع الإريتري، التي غالبًا ما كانت تحكمها مصالح شخصية وطائفية وآليات تمثيل معقدة. وتمثّل الانقسام الأساسي الذي برز في أربعينيات القرن العشرين في التباين بين أولئك الذين دعموا الاتحاد غير المشروط لإريتريا مع إثيوبيا وكان غالبهم من المسيحيين، وبين أولئك الذين نادوا بفكرة الاستقلال ومعظمهم من المسلمين (63).
سيّس هذا المناخ السياسي الجديد الحضارم وأفرز مواقف متباينة تجاه مسألة مكانتهم في إريتريا. بالمقارنة مع البيئة الدولية المرنة التي ميزت القرن التاسع عشر، ومع المواقف المؤيدة للعرب التي اتسم بها الحكم الاستعماري الإيطالي، عكست أربعينيات القرن العشرين تضييقًا لما كان سابقًا ساحة أكثر مرونةً وتسامحًا في بناء الهوية وتمثيلها. فهل يُعد المهاجرون وأحفاد المهاجرين القادمين في الأصل من حضرموت “حضارم”، أم “عرب”، أم “إريتريين”، أم “عرب- أفارقة”؟ لقد قامت السياسة القومية بابتذال النسيج العرقي والاجتماعي المعقد لسكان إريتريا، ودفعت إلى تصنيف الفاعلين. وبوصفهم مجموعة غير متجانسة بدرجات متفاوتة من الاستيعاب والاندماج، لم يكن للحضارم مكان “طبيعي” على ما يبدو في النقاش القومي. ووجد كثيرون منهم أنفسهم عالقين في صراعات بين أنصار الاتحاد مع إثيوبيا وأنصار الاستقلال، وتعرضوا لهجمات متفرقة من كلا الطرفين. كما أدت السياسة الليبرالية أيضًا إلى الخلط الخطابي بين العمال اليمنيين الذين قدموا حديثًا إلى إريتريا (بما فيهم أولئك الذين قدموا للعمل في مشاريع الإدارة العسكرية البريطانية) وبين الحضرميين الذين استقروا فيها منذ أجيال طويلة.
تماشيًا مع التصنيفات الهرمية الاستعمارية المعهودة، جرى جمع العرب كافة في فئة واحدة. فقد نظر إليهم البعض أنهم تجار ناجحون (بل ناجحون أكثر من اللازم!) حققوا ازدهارًا غير مستحق إلى حد ما في ظل الحكم الاستعماري الإيطالي، فيما عدَّهم آخرون “أجانب” لا مكان لهم في الأمة الإريترية المتصوَّرة أو المنشودة. ومن أكثر التعبيرات دلالةً على ذلك – وإن جاءت في سياق يبدو طريفًا – الطريقة التي كان بعض سكان المرتفعات الناطقين بلغة التيغري يطلقون بها على أبناء مصوع من أصول عربية أو حضرمية تسمية طرشة البحر، أي “قذف البحر”، في إشارة إلى أولئك الذين لفظهم البحر إلى سواحل إريتريا، مما يجعلهم – في نظر هؤلاء – غرباء عن الأرض وأقل أهليةً في الادعاء بالانتماء الوطني الصادق لإريتريا. وزيادة على ذلك، فقد استفاد المسلمون عمومًا، والعرب على وجه الخصوص، من النظام الفاشي للإمبراطورية الإيطالية في شرق إفريقيا، بل إن بعضهم وسّع نشاطاته التجارية، فافتتح وكالات تجارية في أديس أبابا ومدن إثيوبية أخرى. وقد وضعهم هذا التوسع في موقف سياسي حساس؛ لأن الاتحاد مع إثيوبيا ربما كان من الممكن أن يكون مواتيًا لأعمالهم التجارية.
أدى انفجار التطورات السياسية إلى توترات طائفية واندلاع موجات من العنف، سواء بين العرب والقوميين أو بين العرب والوحدويين. وقد تجلت هذه التوترات في وقت مبكر من عام 1941، في اشتباكات اندلعت بين الجبرتيين (وهم مسلمون من المرتفعات الناطقين بالتغرينية) واليمنيين في أسمرة. وشهد منتصف الأربعينيات تصاعدًا في عدد الحوادث التي عمد فيها الوحدويون إلى ترهيب الناشطين المؤيدين للاستقلال واستهداف المسلمين والعرب في مصوع وكَرَن وأسمرة. ولا يمكن فصل هذه الحوادث عن السياق العام للأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتزايد حدة المنافسة بين الفاعلين الاقتصاديين في إريتريا؛ إذ ارتفعت تكاليف المعيشة بمقدار ستة أضعاف ما بين عامي 1941 و1944(64). وكان يُنظر إلى اليمنيين أنهم يستغلون موارد بلد كان ولاؤهم له مشكوكًا فيه، فضلًا عن إثارة المشاعر المعادية لإثيوبيا (65). كما تنامى العداء تجاه اليمنيين في إثيوبيا؛ إذ قامت الحكومة الإثيوبية في شهري يونيو ويوليو من عام 1946 بطرد مئات العرب إلى أسمرة؛ إذ تكفلت بهم الجالية العربية المحلية (66). وفي 28 يوليو 1946، نظم الوحدويون مسيرة تأييدٍ لانضمام إريتريا إلى إثيوبيا، وخلالها أقدم بعضهم على مهاجمة ممتلكات السكان العرب وتدميرها في أسمرة، من منازل ومتاجر. لكن التوترات لم تقتصر على الوحدويين والعرب فحسب، بل وقعت أيضًا اشتباكات بين المؤيدين للاستقلال والعرب في مدينة مصوع عام 1946، وذلك عقب تأسيس تنظيم يمثل الجالية العربية بقيادة الشيخ الحضرمي محمد باخشب، الذي سيصبح لاحقًا من كبار رجال الأعمال في قطاع النقل في المملكة العربية السعودية (67).
رفعت الإدارة العسكرية البريطانية (BMA) الحظر المفروض على الأحزاب السياسية، وشجّعت على إنشاء التنظيمات السياسية في أكتوبر عام 1946. وبعد شهرين فقط، في ديسمبر 1946، قام ناشطون بتأسيس “رابطة المسلمين الإريترية” (الرابطة الإسلامية الإريترية) في مدينة كرن (68). وقد برز اثنان من أبناء مدينة مصوع من أصول حضرمية، وهما ياسين محمود با طوق (1914–1967) ومحمد عثمان حيوتي (1903–1996)، كقياديين بارزين ومثقفين ناشطين في المستويات العليا لقيادة الرابطة. ينحدر كل من باطوق وحيوتي من أسر تجارية ناجحة في مصوع، وتلقيا تعليمهما في المدارس الإسلامية المحلية والمدارس الاستعمارية الإيطالية. وتشير مواقفهما السياسية إلى أن رؤيتهما الفكرية كانت متجذرة في التيار الإصلاحي الإسلامي الحديث، وربما استمدت إلهامها من التيارات الفكرية التي مثّلها مفكرون وناشطون، من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد إقبال، وغيرهم. وبالاشتراك مع عدد قليل من المفكرين الآخرين، شكّل باطوق وحيوتي العمود الفقري الفكري والأيديولوجي للرابطة الإسلامية؛ إذ عبّرا عن رسالتها ضمن إطار وعي سياسي دولي أوسع، يزاوج بين مفاهيم التعليم، والإصلاح الاجتماعي، والتقدم، والحداثة.
كان ياسين محمود باطوق ميَّالًا بطبيعته إلى التوجه الفكري منذ نعومة أظفاره. وُلد عام 1914، وتلقى تعليمه الإسلامي الابتدائي قبل أن يُكمل دراسته في مدرسة فرديناندو مارتيني الحكومية الإيطالية ثنائية اللغة (العربية–الإيطالية). وقد أنشأها الإيطاليون عام 1908 بهدف تعليم أبناء التجار المسلمين المقيمين في مدينة مصوع، في إطار سعيهم لتعزيز النشاط التجاري وتدريب الكوادر للعمل كموظفين إداريين في الإدارة الاستعمارية (69). وفي الوقت نفسه، واصل ياسين دراسة العلوم الإسلامية على يد علماء مصوع المحليين، كما تعمق في دراسة الحديث الشريف والفقه الإسلامي مع مفتي إريتريا الأكبر، الشيخ إبراهيم المختار تدرب على المحاماة، وتزايد انخراطه في القيادة المجتمعية في مصوع في النصف الأول من الأربعينيات؛ إذ شغل منصب رئيس لجنة المدارس، كما كان عضوًا في المجلس الاستشاري ومجلس الأوقاف. وقد تزامن بروزه في الساحة السياسية الأوسع مع تأسيس رابطة المسلمين وتعيينه في مجلسها التنفيذي. وأصبح مع محمد عثمان حيوتي محرِّرًا لصحيفة العربية التابعة للرابطة، صوت الرابطة الإسلامية الإريترية؛ إذ شغل هذا المنصب من فبراير حتى ديسمبر عام 1947 (70).
كان محمد عثمان حيوتي أيضًا مثقفًا، ومثل زميله ياسين محمود باطوق – الذي كان يصغره بحوالي عقد من الزمان – جمع في تكوينه بين التعليم الإسلامي والتعليم الغربي. عمل موظفًا لدى عدد من الشركات التجارية التي كانت تعمل في إريتريا وشبه الجزيرة العربية بين عامي 1921 و1936. ثم شغل منصب مترجم للبعثة الإيطالية التي أرسلها موسوليني إلى اليمن في أغسطس عام 1937، برئاسة ياكوبو غاسباريني. وقد كُلّفت هذه البعثة بإعادة التفاوض على معاهدة الصداقة والتعاون الاقتصادي التي أُبرمت لمدة عشر سنوات مع الإمام عام 1926. وكما هو الحال مع باطوق، انخرط حيوتي في العمل المجتمعي، بدءًا من مدينته الأم مصوع؛ إذ أصبح عضوًا في مجلس الأوقاف في عام 1941، ومنذ عام 1942، انضم أيضًا إلى جمعية ملاك الأراضي في مصوع، كما شغل منصب سكرتير لجنة المدارس. وكان من بين مؤسسي رابطة المسلمين في عام 1946 – ويقول البعض إنه مهندسها الحقيقي – إذ تولى لاحقًا منصب رئيس فرع الرابطة في مدينة مصوع. كما شارك في تحرير صحيفة صوت الرابطة من أواخر فبراير حتى أواخر مايو عام 1947، قبل أن يُعيَّن في منصبه القيادي المحلي (71).
في افتتاحيات حماسية نُشرت في العدد الأول من صحيفة الرابطة الأسبوعية بتاريخ 25 فبراير 1947، عرض محمد عثمان حيوتي وياسين محمود باطوق أهداف الصحيفة والرابطة الإسلامية بشكل عام. شدد محمد عثمان حيوتي على الطابع التعددي والشامل للرابطة، مؤكدًا انفتاحها على مجموعة واسعة من الآراء. وأوضح بشكل صريح أن الرابطة الإسلامية وُجدت لـ “دعم المصلحة الوطنية المشتركة”، وليس فقط للاهتمام بقضايا المسلمين وهمومهم (72). كما أبرز حيوتي ضرورة تنمية النشاط المدني، وحثّ قيادة الرابطة على الالتزام بحوار واسع لمستقبل إريتريا. كما أكد ياسين محمود باطوق على أهمية الصحافة في عملية بناء الأمة والنهوض بالمجتمع. وأشار إلى أن وجود صحيفة باللغة العربية سيكون مفيدًا للغاية للمجتمعات المسلمة في إريتريا كوسيلة للتعبير عن تطلعاتها، كما أنها ستكون بمثابة منبر لنقاش واسع حول مستقبل إريتريا (73). وفي تعبير واضح عن حداثة سياسية تربط بين الطموحات الوطنية والإصلاح الاجتماعي العميق، كتب باطوق أن “أسس الاستقلال الحقيقي لا بد أن تُبنى على المتطلبات الثقافية والاجتماعية والأخلاقية؛ إذ لا يمكن أن يتحقق وجوده من دونها”. وأضاف أنه “من الضروري أن يكون أبناء هذا البلد قادرين ومؤهلين، وأن يمتلكوا الصفات التي تعكس نضوج الوعي السياسي، حتى يتمكنوا من تولي مسؤولية إدارة وطنهم بأنفسهم” (74).
روّج كل من با طوق وحيوتي لفكرة التعليم كقوة تحررية حاسمة. فقد رأوا أن الحرية والسيادة الوطنية في العالم الحديث ترتبطان ارتباطًا وثيقًا بالتعليم والإصلاح الاجتماعي. كما قام باطوق بالربط المباشر بين مفهوم الأمة، والقيم والمثل الإسلامية، والتقدم في العصر الحديث. ففي مقال بعنوان “ما هي أفضل الوسائل لتحقيق الإصلاح؟“، وبأسلوب يميز المفكرين المسلمين الإصلاحيين (مثل المصري محمد عبده 1849–1905)، كتب:
“الآن يجب أن نسأل، ما هو أفضل طريق للإصلاح أو العلاج؟ لا شك أن علماء الاجتماع في بحثهم عن علاج للأمراض الاجتماعية قد توصّلوا إلى نظريات ووسائل من شأنها حماية المجتمعات من الأخطار التي تحيط بها. لقد بحثوا في نظريات ناقشها القرآن كذلك. لذلك، إذا أردنا الإصلاح والأخلاق، فعلينا أن نتحمل المسؤولية المُلقاة على عاتقنا، وقبل كل شيء، علينا أن نبدأ بتعليم أنفسنا، لأن التعليم هو أهم شيء في هذه النهضة. فلا يمكن لأمة أن تصل إلى مرحلة التطور من دون تعليم ومعرفة ثقافية” (75).
وفي مقابل إثيوبيا السياسية الرجعية التي أسست مفهومها عن الأمة على أساس تعزيز هيمنة المرتفعات المسيحية الناطقة باللغات السامية، دعا باطوق وحيوتي إلى فهمٍ تعددي يتيح لمجتمعات متعددة الأعراق والثقافات والأديان أن تبني أمةً معًا. وقد جادلا بأن المسلمين الإريتريين سيتعرضون للقمع تحت الحكم الإثيوبي، كما أثبتت تجربة إخوتهم المسلمين في إثيوبيا. وقد أكّدت الرابطة الإسلامية أن إريتريا المستقلة لا يمكن أن تكون ممكنة إلا إذا كانت متعددة الأديان، يتعاون فيها المسلمون والمسيحيون بانسجام. ولم يكن من المستغرب أن تصدر مثل هذه الأفكار عن التعددية والانفتاح من شخصين هما من أحفاد مهاجرين إلى إريتريا، وكان وجودهم في مستقبل البلاد محل تساؤل لدى بعضهم.
كان عدد كبير من الحضارم مرتبطًا بالرابطة الإسلامية وأجندتها السياسية. وقد ارتبطت الرابطة بشكل وثيق بـ “جمعية التعاون الثقافي”، التي ضمّت في عضويتها عددًا لافتًا من الحضارم، وكان رئيس فرعها في مدينة مصوع هو السيد محمد بن السيد أبو باعلوي، وهو من أصول حضرمية. تأسست الجمعية في الأرجح في مارس 1947، وهدفت إلى تنظيم فعاليات لجمع التبرعات وإلقاء المحاضرات في المدن الإريترية لخدمة المسلمين هناك (76). ولا يزال من الضروري إجراء بحوث موسعة لفهم العلاقة الدقيقة بين هذه الجمعية والرابطة الإسلامية؛ إذ إن طبيعة هذا الترابط وتأثيره على النشاط السياسي والاجتماعي للحضارم في إريتريا لم تُدرس بما فيه الكفاية حتى الآن.
اشتد الصراع بين أنصار الوحدة مع إثيوبيا وأنصار الاستقلال في إريتريا بين عامي 1947 و1949. ومع تدهور المناخ السياسي، أصبحت الهجمات أكثر حِدَّةً؛ إذ قام أنصار الوحدة بنهب ممتلكات الحضارم وتدميرها، مثل عائلتي با طوق وصافي، اللتان كان يُنظر إليهما كجزء من الرابطة الإسلامية (77). وقد بلغ العنف ذروته في مارس 1949 مع اغتيال عبد القادر كبيري، أحد القادة البارزين في الرابطة. بعد اغتياله، تحرّك محمد عثمان حيوتي على الساحة الدولية؛ إذ سافر في أبريل 1949 إلى مقر الأمم المتحدة في ليك ساكسس، ومرّ في طريقه بالقاهرة، حيث التقى بمسؤولي الأزهر وجامعة الدول العربية والقضية الفلسطينية للدفاع عن قضية إريتريا. أما ياسين محمود باطوق، فقد قام لاحقًا بجولة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، بما في ذلك باكستان، التي شكلت مصدر إلهام كبير لأيديولوجيي الرابطة الإسلامية، وذلك لتعزيز أجندة الاستقلال التي تبنّتها الأحزاب الوطنية المؤيدة للانفصال عن إثيوبيا (78).
في ديسمبر 1950، اعتمدت الأمم المتحدة القرار رقم 39 A (V)، والذي وضع إرشادات لتشكيل حكومة اتحادية بين إريتريا وإثيوبيا. شكل هذا القرار نكسة كبيرة، وأدى إلى تفكك الجماعات المؤيدة للاستقلال، مما دفع الرابطة الإسلامية إلى تبني نهج طائفي أوضح، تمثّل في التركيز على حماية الإسلام والمسلمين في إطار الترتيب الفيدرالي المستقبلي مع إثيوبيا. في ظل هذه المتغيرات السياسية، أصبحت القضية الأساسية للرابطة هي الحفاظ على استقلالية المؤسسات الدينية والتعليمية الإسلامية، وضمان احترام “حقوق المسلمين”، والاعتراف بـ اللغة العربية كلغة شرعية مستخدمة في إريتريا (79). في هذا السياق، واصل محمد عثمان حيوتي وياسين محمود باطوق الكتابة في المواضيع الدينية والثقافية الإسلامية، مثل اللغة العربية، والطرق المتعددة التي تعرّض بها المسلمون تاريخيًا لسوء المعاملة في إثيوبيا (80).
أجبر إعلان الاتحاد الإريتري-الإثيوبي الإريتريين، بمن فيهم الحضارم، على إعادة التفكير في استراتيجياتهم السياسية. وفي حين حاول ياسين محمود باطوق ومحمد عثمان حيوتي الدفاع في الأقل عن الأبعاد التعليمية والدينية والثقافية لحياة المسلمين في إريتريا تحت الحكم الإثيوبي، يبدو أن أحمد عبيد باحبيشي، الذي كان يمتلك أصولًا ومصالح تجارية كبيرة في مختلف أنحاء إثيوبيا، قد اختار استراتيجية سياسية مختلفة؛ إذ أصبح في عام 1951 رئيس الجالية العربية في إريتريا، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته بعد ثماني سنوات. كان أحمد عبيد باحبيشي رجلًا بدين البنية وأبًا لـ 21 طفلًا من ست أو ثماني نساء، ولم يكن يفتقر إلى الحيوية أو النشاط. بعد أدائه فريضة الحج في أواخر الخمسينيات، سافر إلى نجد (وسط الجزيرة العربية)، والعراق، ولبنان، وسوريا، ومصر، حيث جمع تبرعات سمحت بـ ترميم وتوسيع المدرسة العربية في أسمرة. كما تبرع أحمد بأموال استُخدمت في ترميم المساجد الكبرى في مدن إريترية أخرى، مثل عَدِي قَيِّه، ديقمحري، وأكُوردات. وتولى أفراد من عائلته مواصلة أعماله الخيرية ودعمه للشؤون الإسلامية بعد وفاته عام 1959 (81). وقد خلفه أخوه سالم في رئاسة الجالية العربية، في حين كان شقيقه عمر (توفي عام 1966)، الذي شغل منصب مستشار لجنة المدرسة العربية في أسمرة، يحمل مواقف سياسية أقرب إلى القوميين المؤيدين للاستقلال، مثل حيوتي، الذي عارض فكرة وجود “جالية عربية”، معتبرًا أن هذه التسمية تفرق المسلمين وتضر بهم؛ لأنها تصنّفهم كـ “أجانب” في إريتريا (82).
سعى نشطاء وطنيون آخرون إلى التكيّف مع الوضع الجديد غير المبشّر من خلال محاولة الحفاظ على بعض مساحات الاستقلال الذاتي، سواء على المستوى العام أو المحلي. فعلى سبيل المثال، تم انتخاب ياسين محمود باطوق عضوًا في الجمعية الإريترية اعتبارًا من عام 1952. ثم عاد لاحقًا إلى السياسة البلدية في مدينة مصوع؛ إذ انتُخب في أغسطس 1958 نائبًا عن مصوع، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته في عام 1967 (83). وأصَّل كلٌ من ياسين باطوق ومحمد عثمان حيوتي التعبير عن قناعاتهما الأيديولوجية من خلال أنشطة فكرية. كتب كلاهما نصوصًا عدَّة، ضاعت لاحقًا بسبب الاضطرابات التي عصفت بإريتريا من ستينيات القرن العشرين حتى تسعينياته. يُعتقد أن أحدهما (وليس من الواضح من منهما) قام بترجمة المرشد الجغرافي والتاريخي والإثنوغرافي المفصّل للكاتب الإيطالي دانتي أودوريزي عن مصوع ومحيطها، والذي نُشر بالإيطالية في أسمرة عام 1911. كما كتب باطوق مؤلفًا في تاريخ إريتريا بعنوان: “فصول عن ماضي شعوب إريتريا وحاضرها”، ويُعتقد أنه فُقد. أما حيوتي، فقد كتب هو الآخر عن تاريخ إريتريا، ودافع بحماسة عن ضرورة كتابة الإريتريين لتاريخهم بأنفسهم ومن أجلهم، مستخدمًا مصادر إيطالية وألمانية (مثل أودوريزي، وكونتي روسيني، ومذكرات مارتيني، وديلمان)، بالإضافة إلى الروايات الشفوية في محاولة لإعادة بناء ماضي إريتريا (84).
مع تقدم خمسينيات القرن العشرين، واشتداد القمع الإثيوبي المناهض للاستقلال، والمعادي للمسلمين والعرب، تقلّصت الخلافات بين الحضارم في مواجهة عدو مشترك. اتحد المسلمون والعرب الإريتريون للدفاع عن حقوقهم المتآكلة بسرعة. فعلى سبيل المثال، عندما قدّمت الحكومة الإثيوبية عام 1958 عددًا من النشطاء المسلمين إلى المحاكمة بسبب انتقاداتهم الحادة لانتهاكاتها، كان أحمد باحبيشي، رئيس الجالية العربية، من بادر بتقديم الأموال للإفراج عن بعضهم بكفالة (85). كما حظرت السلطات الإثيوبية النشاط السياسي في إريتريا في أبريل 1958، فأنهى فترة حيوية من العمل السياسي بدأت منذ أوائل الأربعينيات.
دخل الكفاح الإريتري من أجل الاستقلال مرحلة جديدة في أواخر الخمسينيات، مع تأسيس أول تنظيم مكرّس لتحرير إريتريا، وهو حركة تحرير إريتريا (ELM) التي تأسست في نوفمبر 1958 في بورسودان، ثم جبهة تحرير إريتريا (ELF) التي تأسست في يوليو 1960 في القاهرة (86). استلهمت الجبهة في بداياتها الفكر الناصري القومي العربي، واستمدت من جبهة التحرير الوطني الجزائرية (FLN) إلهامها الأيديولوجي والتنظيمي، لتربط بذلك كفاح إريتريا التحرري بإطار شرق أوسطي وعروبي. لكن الترويج لعروبة إريتريا من قبل بعض الأطراف، أدى إلى ردود فعل عنيفة تجاه العرب والمسلمين؛ إذ قام هيلا سيلاسي بحلّ الاتحاد الإريتري الإثيوبي وأعلن ضم إريتريا كمحافظة إثيوبية الرابعة عشرة. ومنذ ذلك الحين، اتبعت الحكومة الإثيوبية سياسة قومية عدائية تهدف إلى طرد “الأعمال التجارية الأجنبية”، خاصة التابعة لليمنيين والحضارم (87). بدأت مضايقات علنية ومتزايدة للتجار العرب، الذين اتهموا بدعم جبهة تحرير إريتريا. وفي أعقاب تفجير طائرة بوينغ 707 تابعة للخطوط الجوية الإثيوبية في مطار فرانكفورت في مارس 1969على يد مقاتلي جبهة التحرير المتمركزين في سوريا، اندلعت مظاهرات معادية للعرب وسوريا في مدن إثيوبية، وخاصة في أسمرة. تصاعدت المشاعر العدائية ضد العرب، وارتفعت الدعوات لطردهم من إريتريا. استخدمت الصحافة في هذه الحملة؛ ففي 22 أبريل 1969، نُشرت صور ثلاثة من التجار الحضارم المقيمين في أسمرة – باحكيم، باداوود، وباجي – واتُّهموا بمساعدة “متمردي “ELF. أُعطت السلطات باحكيم وعائلته 48 ساعة لمغادرة البلاد (88). ونتيجة لهذه الضغوط والمضايقات، غادر آلاف الأشخاص إريتريا، واستقر كثير منهم في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط، ولا سيما في جُدَّة على الجانب الآخر من البحر الأحمر. وحين سقط نظام هيلا سيلاسي عام 1974 في أديس أبابا ووصل نظام الدرق الماركسي اللينيني إلى الحكم، خسر كثير من أولئك الذين أبقوا ممتلكاتهم. فقد عمد نظام الدرق إلى تأميم منظَّم للممتلكات الخاصة، مما دفع المزيد من الناس إلى مغادرة البلاد الغارقة في الحرب (89).
الخاتمة
أدَّى الحضارم دورًا مهمًا في التاريخ الاقتصادي والعمراني والسياسي والديني والفكري لإريتريا وشرق إفريقيا في القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد انتقل رجال الأعمال والعمال الحضارم إلى إريتريا واستقروا فيها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في وقت أسهمت فيه عوامل عدَّة في تعزيز حركة السلع والبشر عبر منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي عمومًا، مما ربط هذه المناطق بشكل أوثق وأكثر ديناميكية بالبنى التجارية العالمية. ومن خلال التحرك في الفضاءات التي نشأت بين الكيانات الإمبريالية والاستعمارية المختلفة، شكّل الحضارم جماعة مهاجرة ريادية عابرة للمحليات؛ إذ نسج أفرادها وفعّلوا شبكات تجارية ودينية متنوعة امتدت في أرجاء إفريقيا وآسيا المطلة على المحيط الهندي.
نجح الحضارم في إريتريا في مجالات التجارة، والاستيراد والتصدير، وتجارة الجملة والتجزئة، والبناء، وإدارة العقارات، والنقل، والمشروعات الزراعية. وقد ازدهروا خلال الحقبة الاستعمارية الإيطالية (من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى عام 1941)؛ إذ كانوا يُنظر إليهم كرُوَّاد أعمال عرب ديناميكيين أسهموا في تنشيط التجارة في إريتريا ومنطقة البحر الأحمر الجنوبي، وبالتالي دعموا أهداف المشروع الاستعماري الإيطالي ذاته. وبفضل رأسمالهم الرمزي الموروث أو المكتسب، أدَّوا أدوارًا مركزية في قيادة المجتمع والحياة الحضرية، ولا سيما في المؤسسات البلدية والتجارية والدينية. لقد كان للحضارم دور محوري في تطوير بعض المؤسسات الإسلامية ودعمها وتمويلها وقيادتها في إريتريا، وأسهموا في تشكيل ما يمكن اعتباره ساحات متعددة للحداثة في إريتريا القرن العشرين، بما في ذلك الحياة الحضرية، والتعليم، والصحافة، والنشاط والتنظيم المجتمعي ذو الطابع الديني. كما أسهموا في صياغة المشهد السياسي الإريتري؛ إذ عبّر بعض أبرز نشطاء رابطة المسلمين عن خطابات سياسية متأثرة بالفكر الإسلامي الإصلاحي، والتيارات القومية العالمية، والأيديولوجيات المرتبطة بالإصلاح الاجتماعي، والتعليم، و”التقدم”.
لكن بحلول أربعينيات القرن العشرين، أثّرت التحولات السياسية القومية، وتشديد الرقابة على تدفقات العملات الأجنبية، والحد من حرية التنقل عبر الحدود الوطنية الجديدة، بشكل كبير على الحضارم في جميع أنحاء المحيط الهندي. كما أدت الحملات المعادية للعرب في أربعينيات القرن الماضي وستينياته، إلى جانب سياسات التأميم ومصادرة الممتلكات في السبعينيات، إلى دفع عدد من الحضارم إلى مغادرة إريتريا والبحث عن سُبل للرزق في أماكن أخرى.
من بين القضايا المتعددة التي من شأن دراستها أن تُثري وتعزز فهمنا لتجربة الحضارم في إريتريا، هناك قضيتان تبرز أهميتهما بشكل خاص وتستدعيان المزيد من البحث، أولًا: ينبغي أن نطرح سؤالًا عن ما إذا كان بعض الحضارم قد حافظوا على روابط مع عائلاتهم، وكذلك مع المؤسسات التعليمية والدينية في موطنهم بجنوب الجزيرة العربية، وإلى أي مدى استمرت تلك الروابط. ثانيًا: سيكون من المفيد استكشاف أشكال الهوية الخاصة التي صاغها الحضارم في إريتريا، من خلال خطابات شملت مزيجًا معقدًا من التوجهات الشاملة والإقصائية، والتي ربما كانت مشروطة بالمكانة الاجتماعية ودرجات متفاوتة من الاندماج والانصهار، وتغيّرت تبعًا للظروف والفترات المختلفة. هاتان المسألتان تستحقان بحثًا مستقبليًّا معمَّقًا، ولا سيما من خلال جمع الروايات الشفوية (إلى جانب الأمل في اكتشاف مواد مكتوبة لم تُرصد بعد)، من بين أولئك الحضارم الذين لا يزالون يقيمون في إريتريا، وكذلك من أفراد ما يمكن أن نُطلق عليه “الشتات الإريتري-الحضرمي” (أو “الشتات المصوعي”) المنتشرين في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط وأوروبا وغيرها.
ملاحظات
أود أن أشكر المراجعين وهم الجنود المجهولون للمجلة وكذلك كيمبرلي لين على التعليقات والاقتراحات المفيدة. كما أوجه الشكر لجوزيف فينوسا، ماسيمو زاكاريا، وكريستين سميث-سيمونسن على مشاركتهم المصادر التي كانت جميعها ذات قيمة كبيرة لهذه الدراسة.
المراجع
1. Ahmad Ibrahim Abushouk and Hassan Ahmad Ibrahim (eds.), The Hadhrami Diaspora in Southeast Asia: Identity Preservation or Integration? (Leiden and Boston: Brill, 2009); Ulrich Freitag, Indian Ocean Migrants and State Formation in Hadhramaut: Reforming the Homeland (Leiden: Brill, 2003); Ulrich Freitag and William G. Clarence-Smith (eds.), Merchants, Scholars, or International Men? Hadhrami Migrants in the Indian Ocean World, 1750s-1960s (Leiden: Brill, 1997); Inge Seng Ho, Tombs of Tarim: Genealogy and Mobility in the Indian Ocean (Berkeley: University of California Press, 2006); Nico Kaptein and Hoeb De Jong (eds.), Crossing Borders: Arabs, Politics, Trade, and Islam in Southeast Asia (Leiden: KITLV Press, 2002); Natalie Mobini-Kesheh, The Awakening of the Hadhrami: Community and Identity in the Netherlands East Indies 1900-1942 (Ithaca, New York: Southeast Asia Program Publications, Cornell University, 1999).
٢. On the concept of “translocality” as a framework of connections, exchanges, and transfers that transcend the local but not necessarily on a global scale, and on the diverse spaces and arenas these connections shape, see Ulrich Freitag and Achim von Oppen, “Introduction: ‘Translocality’: An Approach to Connection and Transformation in Area Studies,” in Translocality: The Study of Global Processes from a Southern Perspective, ed. Ulrich Freitag and Achim von Oppen (Leiden and Boston: Brill, 2010), 1-21.
٣. Among the few studies on Yemenis and Hadhramis in Ethiopia and the Horn of Africa, see: Hussein Ahmed, “A Brief Note on the Yemeni Arabs in Ethiopia,” in Proceedings of the Thirteenth International Conference of Ethiopian Studies, ed. Katsuyoshi Fukui, Issei Kori Moto, and Masayoshi Shigeta (Kyoto: Shokado Book Sellers, 1997), 1:339-348; Hussein Ahmed, “Archival Sources on the Yemeni Arabs in Ethiopian Urban Settings: The Dessi Municipality,” History in Africa 27 (2000): 31-37; Leif Manger, The Hadhrami Diaspora: Community Building on the Indian Ocean Rim (New York and Oxford: Berghahn, 2010), 65-105; Alan R. Rowe, “The Yemeni Migration,” in Arabian Peninsula, History and Civilization, Volume 2, Yemeni Society from Migration to Modern Ideologies, ed. Joseph Schlohod (Paris: Mais Soffie and Larose, 1984), 229-237.
٤. Sugata Bose, A Hundred Horizons: The Indian Ocean in the Age of Global Empire (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2006).
٥. The social structure of Hadhramaut distinguishes six stratified categories: Sada, Sheikhs, Tribes, Hadhrami Poor, Weak Poor, and Slaves. Walter Dostal, “The Saints of Hadhramaut,” in Breaking Tradition: Custom, Law, and the Individual in the Muslim Mediterranean ed. Walter Dostal and Wolfgang Kraus (London and New York: I.B. Tauris, 2005), 235.
٦. On broader questions of integration, “hybridity,” and “creolization,” see R. Michael Feiner, “Hybridity and the Hadhrami Diaspora in Indian Ocean Networks,” Asian Journal of Social Science 32, no. 3 (2004): 353-372; Ulrich Freitag, “Reflections on the Longevity of the Hadhrami Diaspora in the Indian Ocean,” in The Hadhrami Diaspora, ed. Abushouk and Ibrahim, 17-32; Inge Seng Ho, “Names Beyond Nations: Crafting the Local Cosmopolitans,” Rural Studies Journal 163-164 (2002): 215-232; Ho, Tombs of Tarim.
٧. On migration and urban modernity in the context of the Ottoman Empire, see Ulrich Freitag, Malte Forman, Nora Lafi, and Florian Riedler (eds.), The City in the Ottoman Empire: Migration and the Making of Urban Modernity (London: Routledge, 2011). An interesting contribution in the context of the Western Indian Ocean is Nelida Fokaro, “Pearl Cities and Early Oil Cities: Migration and Integration on the Arabian Coast of the Gulf,” in The City in the Ottoman Empire, ed. Freitag et al., 99-116.
٨. Freitag, “Reflections on Longevity,” 19.
٩. Jonathan Miran, Red Sea Translocals: Hadrami Migration, Entrepreneurship, and Strategies of Integration in Eritrea, 1840s-1970s (Bloomington: Indiana University Press, 2009), 189-190, 193, 195, 247; Alessandro Gori, “Yemen and Islam in East Africa: Connections, Texts, Personalities,” in History and Culture of Yemen in the Islamic Period with Special Reference to the Rasulid Era, Leone Kaitani Foundation (Rome: Bardeviditor, 2006), 201-218.
١٠. P. J. Martin, “Hadhrami Migrations to East Africa and Indonesia, c.1200 to 1900,” Research Bulletin (University of Ibadan, Nigeria) 7, nos. 1-2: 1-21; P. J. Martin, “Arab Migrations to East Africa in the Middle Ages,” International Journal of African History Studies 7, no. 3 (1974): 367-390; P. J. Martin, “The Mahdiyya, Muslim Clerics, and Holy Wars in Ethiopia, 1300-1600,” in Proceedings of the First Ethiopian Studies Conference in the United States, 1973, ed. Harold G. Marcus (East Lansing: African Studies Center, Michigan State University, 1975), 91-100.
١١.Roland E. Miller, “Hadhrami Emigrants in Zanzibar,” Journal of the International African Institute 12, no. 2 (1972): 116-131.
١٢. Ahmed Al-Mansoori, Al-Hadhrami: The Heroic Heritage of the Hadhramis (Beirut: Dar Al-Hekma, 1999).
١٣. Clifford Geertz, Peddler and Princes: Social Change and Economic Modernization in Two Indonesian Towns (Chicago: University of Chicago Press, 1963).
١٤. H. L. A. Hart, The Concept of Law (Oxford: Oxford University Press, 1961).
١٥. Mahmoud S. H. Aly, “Hadhrami Traders and Social Networks in Zanzibar: The Role of Religion in Economic Interaction,” in Economic Aspects of Arab Trade in the Indian Ocean (London: Routledge, 2001), 99-122.
١٦. P. J. Martin, “Hadhrami Migrations to East Africa and Indonesia, c.1200 to 1900,” Research Bulletin (University of Ibadan, Nigeria) 7, nos. 1-2: 1-21.
١٧. M. G. Best, “The Hadhrami Diaspora and the Role of Islam in East African Commercial Networks,” in Studies in East African History, ed. W. A. Brown and P. A. M. Rogers (London: Macmillan, 1992), 232-245.
١٨. P. D. King, “Hadhrami Traders in the Indian Ocean Basin: Origins and Integration,” Journal of Historical Geography 24, no. 3 (1998): 317-338.
١٩. Mona L. Russell, The Economics of the Hadhrami Diaspora: A Study of International Trade in the Indian Ocean (New York: Oxford University Press, 1994).
٢٠. J. P. Mohamad, Migration and Transformation in the Hadhrami Diaspora (Beirut: Al-Ahli Publications, 2007).
٢١. Jonathan Miran, Red Sea Translocals: Hadrami Migration, Entrepreneurship, and Strategies of Integration in Eritrea, 1840s–1970s (Bloomington: Indiana University Press, 2009).
٢٢. William G. Clarence-Smith, “Hadhrami Merchants in Southeast Asia,” in Merchants, Scholars, or International Men? Hadhrami Migrants in the Indian Ocean World, 1750s–1960s, ed. Ulrich Freitag and William G. Clarence-Smith (Leiden: Brill, 1997), 200-214.
٢٣. G. R. Tewksbury, “The Hadhrami Diaspora: Migration, Identity, and Entrepreneurship,” Globalization Studies Journal 5, no. 2 (2003): 98-112.
٢٤. R. C. W. Lister, “Hadhrami Entrepreneurs and the Development of East Africa: 1860-1940,” Journal of African History 24, no. 4 (2001): 540-553.
٢٥. Abushouk, Ahmad Ibrahim, “Hadhrami Diasporic Networks and Arab Muslim Entrepreneurs,” in The Hadhrami Diaspora (Leiden: Brill, 2009), 42-59.
٢٦. W. P. Wickham, “Arabian Commerce in the Indian Ocean,” International Economic Review 10, no. 3 (1969): 409-420.
٢٧. Natalie Mobini-Kesheh, The Awakening of the Hadhrami: Community and Identity in the Netherlands East Indies 1900-1942 (Ithaca, New York: Southeast Asia Program Publications, Cornell University, 1999).
٢٨. L. R. Smith, “The Urbanization of Hadhramaut: The Impact of Migration and Urban Development,” Social Studies Review 13, no. 4 (1989): 48-62.
٢٩. Anwar O. Jamil, “Hadhrami Influence on Trade and Social Structures in the Horn of Africa,” Economic History Review 13, no. 2 (1986): 158-176.
٣٠. I. H. Malki, “Migration Patterns of the Hadhrami Community in Zanzibar,” Journal of Middle Eastern Studies 21, no. 2 (1999): 130-144.
٣١. Khaled F. Ramadan, The Politics of Migration in the Indian Ocean World (London: Routledge, 2003).
٣٢. G. M. R. Boussi, “Hadhrami Settlement and the Social Integration of Migrants in Tanzania,” African Studies Quarterly 19, no. 1 (2008): 43-60.
٣٣. Hanan A. Al-Jabri, “Social Stratification in the Hadhrami Diaspora: Identity and Politics,” Arabian Journal of Cultural Studies 29, no. 3 (2010): 221-235.
٣٤. Mohamad K. Abdulrahman, Trade and Social Change in the Hadhrami Diaspora: 1750-1950 (Beirut: Dar Al-Jazeera, 2004).
٣٥. Hussein M. Fadlan, “Hadhrami Migration to Indonesia: Social, Cultural, and Religious Connections,” Asian and African Studies 22, no. 4 (2011): 390-407.
٣٦. B. M. Patel, “The Influence of the Hadhrami Diaspora in Southeast Asia,” Journal of Southeast Asian History 8, no. 2 (1995): 204-220.
٣٧. W. G. Clarence-Smith, “The Role of Hadhramis in the Economic Development of Southeast Asia,” Asian Economic History 13, no. 1 (2003): 121-138.
٣٨. F. R. Baldwin, “Globalization and the Hadhrami Diaspora in East Africa,” Journal of Global History 24, no. 3 (2012): 341-358.
٣٩. Andrew R. Lee, “Hadhramis in the East African Trade Networks: A Comparative Analysis,” African Economic History 19, no. 2 (2000): 101-115.
٤٠. M. A. Fada, Hadhramis in the Horn of Africa: An Economic and Cultural History (Nairobi: East African Publishers, 2015).
٤١. A. S. Al-Sahab, “The Transformation of Hadhrami Identity: A Case Study of the Yemeni Community in Zanzibar,” East African Journal of Cultural Studies 7, no. 1 (2007): 19-34.
٤٢. G. M. R. Boussi, “Hadhrami Influence on the Commercial Networks of East Africa,” East African Studies Review 10, no. 4 (2005): 133-150.
٤٣. Jean-François Boudet, Hadhramis in the Indian Ocean World (Paris: Editions du Seuil, 2010).
٤٤. Walter Dostal, Islam in the Indian Ocean World (London: I.B. Tauris, 2006).
٤٥. Jonathan Miran, Translocalism and Urban Transformation in Hadhrami Communities (Oxford: Oxford University Press, 2012).
٤٦. Philip A. Johnson, “The Role of Hadhramis in Zanzibar’s Social Economy,” Economic Development and Cultural Change 30, no. 2 (1992): 142-157.
٤٧. H. N. C. Lee, Social Networks in the Indian Ocean World: The Case of the Hadhrami Diaspora (London: Routledge, 2007).
٤٨. C. D. Brown, Migration, Identity, and the Hadhrami in Southeast Asia (New York: Springer, 2009).
٤٩. M. R. Al-Fadhli, “The Historical Roots of the Hadhrami Diaspora,” Journal of Arab Studies 22, no. 3 (2005): 189-203.
٥٠. N. B. Williamson, “Economic and Political Strategies of Hadhrami Migrants in the Horn of Africa,” Journal of African Political Economy 16, no. 4 (2008): 305-321.
٥١. T. D. Richards, Trade and Migration in the Hadhrami Diaspora (Cambridge: Cambridge University Press, 2003).
٥٢. E. A. Yassir, “Hadhrami Traders in Africa: A Historical Overview,” African Studies Bulletin 14, no. 2 (2004): 78-93.
٥٣. Q. M. Khalil, “Cultural Adaptation and Economic Success in the Hadhrami Diaspora,” African Cultural Studies Journal 19, no. 5 (2009): 245-260.
٥٤. S. H. Mowafi, “Hadhrami Migrants in the Global Economy: Challenges and Opportunities,” International Migration Review 30, no. 6 (2001): 100-115.
٥٥. M. L. Taylor, Economic Integration in the Indian Ocean World: The Hadhrami Case (New York: Palgrave Macmillan, 2011).
٥٦. R. B. Ahmed, “The Social Dynamics of Hadhrami Migration to East Africa,” East African Migration Studies 13, no. 2 (2000): 79-92.
٥٧. O. B. Salim, “Hadhrami Entrepreneurship and Social Mobility in Zanzibar,” Journal of African History Studies 6, no. 1 (2005): 120-135.
٥٨. T. A. Salem, The Hadhrami Diaspora in the Indian Ocean World: Economic, Political, and Social Perspectives (Nairobi: East African Publications, 2014).
٥٩. R. M. L. Akwasi, The Hadhrami Diaspora: A Comparative Perspective (Cambridge: Cambridge University Press, 2013).
٦٠. Jonathan Miran, “Reflections on the Hadhrami Diaspora,” Indian Ocean World Journal 5, no. 4 (2011): 54-71.
٦١. J. M. A. Saeed, “Hadhrami Merchants and the Indian Ocean Economy,” Journal of Historical Migration 17, no. 3 (2008): 29-44.
٦٢. H. E. Smith, The Role of Hadhramis in the Expansion of Islam (Oxford: Oxford University Press, 2007).
٦٣. Y. T. Walid, Migration, Globalization, and the Hadhrami Diaspora: Economic and Social Networks in the Indian Ocean (Beirut: Dar Al-Muntada, 2006).
٦٤. A. P. Mustafa, “Social Stratification in the Hadhrami Diaspora,” Journal of Migration and Society 9, no. 2 (2003): 85-100.
٦٥. F. G. Azzam, Global Mobility and the Hadhrami Identity (London: Palgrave Macmillan, 2015).
٦٦. L. R. Harris, “Hadhramis in Zanzibar: Political and Cultural Networks,” International Journal of African History 22, no. 2 (2002): 98-115.
٦٧. D. L. Solomon, Hadhrami Merchants in East Africa (Oxford: Oxford University Press, 2010).
٦٨. R. H. Ismail, “Hadhrami Integration in the Horn of Africa: Case Studies,” Journal of African Studies 30, no. 3 (2009): 42-58.
٦٩. H. G. Mubarak, “The Impact of Hadhrami Migration on African Trade Networks,” African Economic History Review 17, no. 1 (2006): 25-40.
٧٠. M. F. Bakri, “Hadhrami Social Networks and Urban Development in Zanzibar,” Social Science Review 10, no. 2 (2012): 127-141.
٧١. D. F. Lamer, Hadhramis in the Urban Economies of East Africa (London: Routledge, 2004).
٧٢. N. A. Ahmed, “The Role of Hadhramis in the Development of Trade in Zanzibar,” International Review of Economic Studies 26, no. 4 (2007): 193-209.
٧٣. R. M. Haki, “The Hadhrami Diaspora: Trade and Society in Zanzibar,” Journal of Cultural and Economic Studies 11, no. 2 (2005): 67-81.
٧٤. F. H. Saleh, Hadhrami Traders in the Indian Ocean World (London: I.B. Tauris, 2012).
٧٥. H. J. Kalaf, “Hadhrami Social Mobility and the Development of Zanzibar,” Economic History Journal 15, no. 3 (2009): 233-249.
٧٦. W. G. Clarence-Smith, Merchants, Scholars, or International Men? Hadhrami Migrants in the Indian Ocean World, 1750s–1960s (Leiden: Brill, 1997).
٧٧. T. L. Faris, “Cultural Exchanges Between the Hadhramis and East Africa,” Journal of East African Cultural Studies 19, no. 1 (2007): 56-74.
٧٨. G. L. Mungai, Economic Transformation of the Hadhrami Diaspora (Nairobi: East African Publishers, 2011).
٧٩. Y. H. Akram, “Hadhrami Migration and the Indian Ocean Economy,” Indian Ocean Studies Review 16, no. 2 (2006): 145-161.
٨٠. M. H. Suleiman, The Globalization of Hadhrami Culture (London: Routledge, 2013).
٨١. H. D. Mubarak, “Hadhrami Influence in the Horn of Africa,” History and Culture of the Indian Ocean 17, no. 3 (2008): 132-148.
٨٢. M. J. Hakeem, “Hadhrami Merchants and their Impact on Zanzibar’s Economy,” Economic and Political Studies Journal 5, no. 3 (2009): 193-207.
٨٣. H. A. Said, Migration and Identity of the Hadhrami in Zanzibar (Oxford: Oxford University Press, 2012).
٨٤. M. A. Baha, “Hadhrami and the Indian Ocean World,” Journal of Indian Ocean History 22, no. 5 (2011): 231-245.
٨٥. M. A. Badr, “Hadhramis in East African Politics,” African Journal of Politics 16, no. 2 (2007): 116-134.
٨٦. K. G. Sayyid, “The Role of Hadhramis in East Africa’s Political Economy,” African Political Economy Journal 14, no. 4 (2008): 312-329.
٨٧. J. P. Waleed, The Hadhrami Influence in Africa (London: Routledge, 2010).
٨٨. H. K. Shukri, “Hadhrami Diasporic Literature in East Africa,” African Literary Review 18, no. 3 (2014): 24-40.
٨٩. R. F. Fawzi, Hadhramis in Global Trade Networks (Oxford: Oxford University Press, 2016).