نقد
أ.د. عبدالعزيز سعيد الصيغ
الحافة مدرسته الكبرى:
الواضح أن الحافة بأعرافها الشائعة ، المتشكلة بوصفها مجموعة من الناس تتحرك حركة واحدة ، وتنصهر لتشكل كيانًا اجتماعيًا متماسكًا يقف أمام كيانات أخرى، هذه الحافة قد أسهمت إسهامًا كبيرًا في تشكيل شخصية باحريز الشعرية، وحين نقف أمام ما منحه باحريز لحافته من عيون الشعر الشعبي وعيون المعاني نعرف الأهمية الكبرى التي كانت تمثله الحافة في عين الشاعر وفي نفسه، ولم يمدح باحريز شخصًا بعُشْرِ ما مدح به حافته، بل لم يمدح أحدًا على الإطلاق، وكانت تعنيه المعاني العالية ولا تعنيه الأشخاص، وإذا وجد شعر مدح به أحدًا فلیس بين مدحه إياه ومدحه حافته أية قربى ولا صلة، لكأن مدحه الأول لشخص آخر وشاعر غيره، ومدحه الثاني له هو.
وقد كانت الحافة ملهمة باحريز ، ومهيجة دواخله، وباعثة شاعريته، وهي أشبه ما تكون بليلاه الذي جنَّ بها جنونًا، وصرف أكثر شعره في التغنِّي بها، وهي ظاهرة نادرة في الشعر الشعبي، فليس هناك شاعر شعبي كتب في جماعته أو في حافته ما كتبه باحريز في حافته، لا كَمًّا ولا كيفًا، فبحساب العدد يبدو أن شعره المتغنّي فيه بحافته كثير كثرة تفوق أشعار الآخرين، وبحساب الجودة فإنَّ شعره لحافته هو عقود من ألماس وجوهر ولآلئ خالصة، ولو أن أهل الحارة وهي حافته احتفلوا به كل شهر وليس كل عام لما ردُّوا له قليلًا مما قاله فيهم، والواقع أنَّ أهل (الحارة) لهم كل الحق في أن يفخروا به ويعتدُّوا به، فقد كان فخرُهُ بهم فوق كُلِّ فخرٍ، واعتزازُه بهم فوق كُلِّ اعتزازٍ، ومحبَّتُه لهم هي الحب الخالص الصافي، إنَّ باحريز مدرسة في الحب، وفي الاعتزاز، وفي الغَيْرَةِ على القيم والأخلاق، إنه مدرسة تستحق أنْ نأخذ منها، ويأخذ منها كُلُّ عُشَّاق الخُلُقِ العالي والفنِّ الرفيع.
ظاهرة حب الحافة:
لعل البحث عن أسباب الحب لإنسان ما أو لجماعة ما من الأمور الصعبة التي لا يمكن قياسها، وإن كان من الممكن تسبُّبها. الربط بينها وبين مظاهرها الواضحة، وباحريز حالة مختلفة في حبه لحافته؛ ذلك أنَّ جميع الشعراء الذين كانوا يمثلون مناطقهم كانوا محبين لها، غير أنَّ ذلك الحب لمْ يتجلَّ كما تجلَّى عند باحريز، وهو بذلك يشبه الشعراء العُذريين مع الاختلاف؛ لأن ظاهرة الحب ظاهرة إنسانية لا يخلو منها شاعر ولا إنسان، لكنَّها قد تتجلى تعبيرًا واضحًا صريحًا عند بعضهم ولا تظهر إلَّا لمحًا عند آخرين إمَّا أن يستفرغ الشاعر كثيرًا من شعره في التغنِّي بهذا الحب، فإنَّ ذلك أمر يستوقف الباحث كثيرًا، ويُغرِيهِ بالبحث عن أسباب ذلك ودواعيه، فهل كان باحريز شاعرًا مُحِبًّا، يُسقِطُ عواطفه الجيَّاشة على حافته مكنيًا عن محبوب آخر هو المقصود؟ أمْ أنَّ عواطفه كانت خالصة لحافته خلوصًا تامًّا؟
الذين عرفوا باحريز يعلمون أنه كان رجلًا بسيًطا، لم يكن يهتمُّ بنفسه كثيرًا، ولم تكن الحياةُ وأيَّامُها ولياليها قد تركتْ له ما يجعله يهتمُّ بها، كان في طول حياته رجلًا عادًّيا باهتًا، ولولا الشعر لمرَّ من دون أنْ يشعر به أحدٌ، ومن دون أن يتنبه له الناس؛ لأنَّ مظهرَهُ لم يكن يؤهّله لشيءٍ ذي بال، كما أن أعماله التي تولَّاها لمْ تكنْ أيضًا تسمح له بأن يحتلَّ موقعًا في المجتمع صغيرًا كان أو كبيرًا.
والشعر وحده هو قيمته الكبرى إلَّا أنه فيه كان عظيمًا كبيرًا لو أنه أراد أن يصل به إلى مكانة أو موقع في حياته لكان الأمر ميسورًا له سهلًا.
والذي يقلب شعره ويتأمله يجد شاعرًا مُولَعًا بالمعاني الكبيرة، والمعالي، والرتب العالية التي تعلي الإنسان وترفعه لا بحساب المناصب الاجتماعية، ولكن بحساب القيم الأخلاقية، ولذلك فقد كان مولعًا بالقيم العالية والخصائص الإنسانية الرفيعة، وكان ساخطًا عازفًا عن المراتب الرفيعة التي تكون مظهرًا لقصور وخمول وانحطاط، وعلى الرغم من أنه عاش حياته وهو صغير في سُلَّم المجتمع لكنَّه كان كبيرًا في رؤيته له، يلحظه بعينٍ فاحصةٍ، ويتأمَّله بفكر ثاقب، ويَزِنُهُ بميزانٍ لا يَخِيب.
لم يكن باحريز يفهم الشعر بوصفه وسيلة من وسائل التكسُّب، وإن كان يتكسَّب منه كغيره من الشعراء، إذ إنَّ شعره يدلل على أنَّه كان يَعُدُّه وسيلة من وسائل التعبير عن همومه وأشجانه، ودواخل نفسه، ولذلك نجده دائمًا في شعره متأمِّلًا، يحوِّل الموضوع البسيط إلى موضوع شعري جميل.
وحين نتأمل أشعاره التي قالها في الحافة (الحارة)، نجد أن الحافة عنده بديل للقبيلة عند الشاعر العربي، ويبدو أن با حريز كان يستحضر هذا الموقف في كل ما قاله عن حافته (الحارة)، وهو يذكِّر بالشعراء العرب الذين امتزجوا بالقبيلة امتزاجًا، وقد كانت الظروف التي عاشها باحريز آنئذ شبيهة – مع الاختلاف – بالظروف التي كان الشاعر العربيُّ متوحِّدًا فيها بقبيلته، وإذا كان الشاعر العربي متوحِّدًا بقبيلته إلى الحد الذي يقول فيها القائل:
وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إنْ غَوتْ
غويتُ وإنْ ترشُدْ غُزَيَّةُ أرشُدُ
فقد كان با حريز متوحِّدًا بالحافة حاضًّا على القيم العالية، متمسِّكًا بالمعاني الرفيعة، داعيًا إلى الوحدة بين أفرادها، متغنِّيًا بالمُثُل المجسِّدة لها، الراسمة صورتها البهيَّة وطلعتَها المشرقة، وهو ما أكسب شِعرَهُ صفة الذيوع والانتشار.
مفهوم الشعر عنده
قد يستغرب القارئ حين نتناول شاعر كباحريز وهو شاعر بسيط عامي بعيدًا عن الكتاب والقراءة، بالحديث عن مفهوم الشعر عنده ، وربما تعتلي وجوه الكثيرين الدهشة والاستغراب، ولعل بعضهم يرى في ذلك تحميل الشاعر ما لا يحتمل، وهو أمر ليس صحيحًا، فليس كافيًا أن يكون الشاعر أُمِيًّا أو شبهَ أُمِيٍّ لكي لا نتحدَّث عن مفهومه للشعر، صحيح أن المفاهيم بوصفها مقولات تعبيرية قد لا تكون موجودة نصًّا عند شعراء مثل باحريز، غير أن الشعراء كبرُوا أمْ صغرُوا لهُمْ فَهْمُهُمْ وإدراكهم للشعر ووظيفة الشعر، بل ووظيفة الشاعر، والأمر ينطبق على الجميع شعبيين أم كاتبين بالفصحى.
وليس صحيحًا القول إنه بوصفه شاعرًا شعبيًا كانت الفطرة الشعرية هي زاده الوحيد، فإنَّ شعره يَنِمُّ عن أنَّه امتلك ثقافة شعبية واسعة، كانت ترفده وتمدُّه بصور وأخبار، كما أنَّ لديه مخزونًا شعريًا كبيرًا، يطل من خلال شعره، كما أنه كان مُحِيطًا بفن الشعر وبأدواته وجماليَّاته، من حيث اللغة والعروض، يدل على ذلك ما ذكره الأستاذ بامطرف في كتابه (التراث وصناعة الشعر) (٥).
وقد وجدنا في أحاديث الشاعر وفي شعره ما يعطي مفهومًا للشعر عنده، فكيف يرى الشاعر باحريز الشعر؟ وما مفهوم الشعر لديه؟
لم يكن باحريز شاعرًا عاديًّا – وهو أمرٌ نؤكِّدُهُ باستمرار – بل كان شاعرًا شاعرًا، وهذه الصفة حين نصفه بها إنَّما نؤكد من خلالها على أنَّه كان شاعرًا ذا موقف، وكان الشعر وسيلتَهُ للتعبير عن موقفه هذا، وكان يفهم الشعر بوصفه رسالة خاصة يحملها الشاعر، ولذلك نجد تلك المواقف الإنسانية الرائعة التي كان يتحلَّى بها، والتي أسفرت عن كثير من الشعر الإنساني الرائع الذي عبَّر به عن هموم الناس البسطاء ومعاناتهم في كثير من أشعاره.
وقد كان باحريز يرى الحياة من خلال منظوره الشعري، إذ كان شاعرًا اختلطت عنده الحياة بالشعر واختلط الشعر بالحياة، فلا تكاد تفرق بينهما عنده، لم يكن الشعر عنده ترفًا، ولم يكن عنده الشعر تسليةً يتسلَّى بها إذا فرغ من عناء الحياة، وإنَّما كان الشعر عنده معجونًا بالحياة، وكانت الحياة عنده معجونة بالشعر، وهو مفهوم نجده عند الشعراء الكبار الذين كان الشعر عندهم رسالةً يعيشون الحياة من خلالها.
__________________________
(٥) التراث وصناعة الشعر محمد عبد القادر بامطرف.
وهو سِرُّ الشاعرية عند باحريز، فقد كانت كثير من الأحداث تترجم شعرًا قويًا معبِّرًا عنده، يذيع بين الناس ويشيع، بل إنَّ أشعاره من مثل قوله الذائع:
بغيت الصدق والواقع سبولة خير من مقلع
ونخلة ما تعشي الضيف قعرها لا تخليـــها
هي قراءة شعرية لواقعة ما، لكان الواقع يتحوَّل عنده شعرًا، ويظل في صورته الشعرية مندفنًا مخبوءًا في هذه الصياغة الرائعة الجميلة التي تحرِّك النفوس، وتؤثر فيها تأثيرًا بليغًا، وعلى الرغم من أنَّ البيت يعطيك معناه الخاص به، وهو معنى الشاعر الذي صبَّه في هذا البيت، غير أنَّ بين المعنى الذي تحمله الواقعة وبين المعنى الذي يفرزُه البيت وشائج، حين تتكشف تجد المعنيين يتحدَّان لكأنهما معنى واحد، وتجد الشاعر موجودًا بينهما.
وكذلك في أشعار كثيرة له، متداولة كتبت مرافقة لأحداث سياسية أو اجتماعية، من مثل بيتيه الشهيرين:
خشم منصوب ما تبرح عليه الذبابــة
دقه الوقت واحكام القضا والمقاديــــر
من رضي بالمحلة وسط ذيك الخرابة
يلقي الكذب قاسم والمحازي تياسيـــر
فهذان البيتان يتردَّدان كثيرًا بين الناس، وهما بيتان رائعان يحملان معنى بديعًا في صياغة زادتْ جمالهما جمالًا، وهما يقدِّمان حالة إنسانية تتكرَّر كل يوم عندهم، فالحياة عبارة عن سلسلة من الأحداث تتوالى على الناس والأحياء، ولكنَّ الذي يؤثِّـر في الناس رؤيةُ كبيرٍ وضعه القدر، أو عال حطَّه الوقت، وهذا معنى إنساني جرى على ألسنة كثير من أصحاب البيان شعرًا ونثرًا، وقد استطاع باحريز أن يقدِّم هذا المعنى الإنساني في لغة قويَّةٍ وصورة مؤثرة رائعة كتبها باللهجة الشعبية، واستطاع أن يقدم الدليل على إمكانية اللهجة الشعبية أن تعبّر عن المعاني الإنسانية الكبيرة التي عبَّرت عنها اللغة الفصحى عند أمراء البيان فيها.
و هذان البيتان كانا قراءة شعرية أيضًا لحادث من الحوادث السياسية التي جرت في ذلك الوقت قبل عصر الثورة، وظل معنى الحادث متواريًا خلفهما يعرفه من عرف الحادث، أو من أراد معرفته، وبقي البيتان يقدِّمانه تقديمًا شعريًّا، يخاطب النفس، ويؤثِّـر فيها، وبقي الشاعر باحريز فيهما متجلِّيًا.
كان باحريز كما تقدَّم شاعرًا أُمِيًّا – لا يقرأ ولا يكتب – ولكنه كان شاعرًا يفهم الشعر على نحو واضح، كان الشعر عنده له معناه المحدَّد، الذي يتضح من خلال أشعاره، ومن خلال صياغته لأحداث الحياة صياغة شعرية، هذا المفهوم هو الذي ولد هذا الشاعر الكبير باحريز.
وكان شاعرًا عارفًا بالصناعة الشعرية، كان عارفًا بالأوزان الشعرية مثمونها ومربوعها ومخموسها ومسدوسها، وكان عارفًا بأوزان شعر رقصة الهبيش، وبالأوزان الأخرى، وكان الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف يعود إليه يسأله عن هذه الأوزان، وقد ذكر ذلك في كتابه التراث وصناعة الشعر، يقول الأستاذ بامطرف: (ويصنف الشعر الغنائي عندنا في محافظة حضرموت بتعدُّد أشطره، فيقال مربوع أو مخموس أو مسدوس أو مثمون، ولا تدخل في الحسبان الشلَّةُ التي تصاحب كُلَّ مقطوعة في القصيدة)(٦).
فباحريز على معرفة بالشعر وأوزانه، وهو ما يدل على أنه كان على علمٍ بأدواته، وعلى بيِّنةٍ بالفن الذي يصوغ فيه أبياته، يقول الأستاذ بامطرف: (ويحدِّثني الشاعر الحميني سعيد فرج باحريز أن شعراء الشبواني في الوقت الحاضر يقولون أشعار الشبواني على الوزن المثمون، وعندما رجوْتُهُ أنْ يسمعني قولًا من الوزن المثمون، قال:
ولا التمانـي والمغانــي منها يقضي وتــر
والمدح قبل الفعل فيه الا المذمة والغرور (٧).
الشعر عند باحريز هو رؤية خاصة للأحداث، وليس نقلًا فوتوغرافيًا لها، إنه إعادة صياغة الحدث، وتقديمه بوصفه معنى خاصًا يقدِّمه الشاعر، إنَّه حدث آخر غير الحدث الذي وقع في الواقع، إنَّه حدث وقع على نفس الشاعر، وأخرجه هو للناس في صورة أخرى شعرية، قد يتطابق تطابقًا تامًا معه، وقد يكون مختلفًا معه في الظاهر، ولكنه منسجمًا معه في الحقيقة.
وهذا المفهوم الذي نجده للشعر هو الذي جعل باحريز متميِّزًا عن الشعراء الآخرين في صياغة الشعر، وهو الذي جعله متفوّقًا عليها مغايِرًا لهم، هم يرون شيئًا وهو يرى شيئًا آخر مخالفًا لما يرون ولما يراه الناس، لكنهم حين يرون الحدث من خلال رؤيته هو يرونه أكثر وضوحًا وأجلى صورة.
___________________________
(٦) التراث وصناعة الشعر، محمد عبد القادر بامطرف.
(٧) التراث وصناعة الشعر، محمد عبد القادر بامطرف.