دراسات
د. صلاح دويل سالمين سالم لرضي
ثانيًا: تاريخ حضرموت القديمة:
1 – فترة ما قبل الميلاد:
يفهم من نقش عربش بافقيه (Arbach، M. et Bafoqih: 1998، p.112.)، أن مملكة حضرموت أيام ملكها يدع ال قهرت مملكة قتبان في نهاية القرن السابع وبداية القرن السادس قبل الميلاد (عربش: 2003م، ص9). ورأي عربش أن العداء ظل بينهما، إذ وصلت إلينا تفاصيل حرب بين مملكة قتبان ومملكة حضرموت، في القرن الرابع قبل الميلاد، تدور أحداثها في منطقة السرير (القسم الثاني من وادي حضرموت)، وهذا يبرز في تفاصيل نقش عربش سيئون1. وللاطلاع أكثر عن السرير ينظر (لرضي: 2007م).
وما يهمنا في فترة ما قبل الميلاد هي:
الفترة الواقعة بين القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الأول قبل الميلاد؛ إذ كانت فترة قمة ازدهار مملكة حضرموت سياسيًا، تمثَّـل في استقرار سياسي لمملكة حضرموت، واقتصاديًا تمثل في العلاقة التجارية المميزة مع مملكة معين، ومن الشواهد التي تدل على ازدهار حضرموت كثرة الأبنية التي انتشرت على رقعة كبيرة من مملكة حضرموت، كقصر الجكم شقير: وهو اسم القصر الملكي لملوك مملكة حضرموت في شبوة، والمعابد في شبوة (شبوة: هي عاصمة مملكة حضرموت القديمة، وفيها القصر الملكي في مملكة حضرموت المسمى شقير، وتقع على وادي المعشار، الذي هو امتداد لوادي العطف، والذي هو امتداد لوادي عرمة، وقد ذكرت – شبوة – في كتاب الطواف حول البحر الأرتيري بأنها عاصمة أرض اللبان ومقر ملكها)، ومكينون. (مكينون: هي مستوطنة أثرية في شرق وادي حضرموت، وتقدر مساحتها بـ 400م شرقًا وغربًا و600م شمالًا وجنوبًا، وموقعها جعل منها نقطة مراقبة لوادي حضرموت في جهة الشرق مثل ما هو الحال لموقع مدينة بير حمد في جهة الغرب، ويقوم اقتصادها على الزراعة إلى جانب أنها مثلت محطة من المحطات التجارية في وادي حضرموت، وفي مكينون عملت بعثة فرنسية في الفترة من عام 2002م-2004م.
إلى جانب الأبنية التي دلت على ازدهار مملكة حضرموت، النقوش، أيضًا، وتوضح مدى ازدهار مملكة حضرموت، وخاصة الازدهار التجاري في هذه الفترة، ويظهر ذلك في نقشين يؤرخ لهما في القرن الثالث قبل الميلاد، فالأول هو نقش Ja892 الذي عثر عليه في حانون في ظفار، والذي يذكر مكرب حضرموت (Albright: 1982، P.89) ويعني تأسيس الحضارم ميناء سمهرم (عربش: 2003م، ص9)
أما النقش الثاني RES3952، وتاريخه من القرن الثالث قبل الميلاد (Pirenne: 1978 P.125.)، فإنه يوضح مدى ازدهار مملكة حضرموت وتوسع علاقاتها التجارية إلى خارج حدود جزيرة العرب؛ إذ عثر عليه في جزيرة ديلوس ونصه:
1 – غ ل ب م / غ ا ل.. / س ي د / ر أ م أ ن.
2 – ن ص ب / س ي ن / ذ أ ل م. (Robin: 1991، P.51، fig. 18.)
السطر الأول من النفش يسجل فيه مقدم النقش اسمه وهو غلب غال.. أما في السطر الثاني يذكر تقديمه إهداء للإله سين ذا اليم، إله حضرموت القومي.
2 – فترة ما بعد الميلاد:
شهدت نهاية فترة ما قبل الميلاد أحداثًا مختلفة، فمملكة سبأ لم تنتفع بهدوئها طويلًا بعد حملة أليوس جاليوس في 24 ق.م؛ إذ أخذت المشكلات الحدودية والداخلية تعمل عملها السيئ فيها، الأمر الذي قلل من هيبتها أمام القوتين الباقيتين في ميدان المنافسة في جنوب الجزيرة العربية وهما حضرموت وحمير، والأخيرة سنحت لها الفرصة لتشكيل عصر جديد من الحكم تميز بسيطرتها، وهو ما عرف بعصر ملوك سبأ وذي ريدان (الشيبة: 1999م، ص23).
أما بالنسبة لحضرموت فإنها مازالت تعيش ازدهارًا من نهاية القرن الرابع قبل الميلاد إلى بدايات القرون الميلادية الأولى (من القرن الأول إلى القرن الثالث)، بفضل تجارتها البرية سابقًا، و تجارتها البحرية لاحقًا، الذي يعود الفضل فيها لنشاط موانئ حضرموت، وخاصة ميناء قنا وميناء سمهرم، هذا الازدهار الاقتصادي والسياسي أثار الريبة لدى حكام سبأ الجدد (الحميريين) الذين رأوا أن سلطتهم لا تزال مهدَّدة من قبل خصم عنيد يتمثل في مملكة حضرموت (غاجدا: 1999م، ص188)، ومن ثم بدأت حمير خطى السير نحو السيطرة على حضرموت، وقد احتاج إحكام السيطرة على حضرموت لسنوات تخللها صور من الصراع والمقاومة.
وما يميز هذه الفترة بدرجة رئيسة هو ظهور التحالفات الداخلية والخارجية، وما رافقها من تشعب الصراعات، وقد وفق محمد عبد القادر بافقيه في إعطائها وضعها الحقيقي، حين سمَّاها فترة حروب الثلاثمائة عام (بافقية: 1993م، ص98)
ولعل استمرار تلك الضغوط العسكرية والاقتصادية من جانب حمير على سبأ، هو الذي قاد علهان بن نهفان للتطلع إلى حضرموت القوة البحرية الكبيرة، التي يبدو أنها كانت وقتها قد تمكنت من الاستيلاء على قتبان وضم أراضيها إليها، وجاء في نقش نامي 19 أن علهان بن نهفان عقد حلفًا مع ملك حضرمي يسميه النقش يدع ال، وأن هذا التحالف قد تم في أثره لقاء بين الملكين في ذات غيل بأرض قتبان، كما حالف علهان بن نهفان ملكًا حضرميًا آخر يدعى يدع اب غيلان، ثم انضم إلى الحلف جدرت ملك الحبشة (CIH308)، وكان ذلك بداية دخول الأحباش في أحداث اليمن (بافقيه، وآخرون:1985م، ص45).
كللت هذه التحالفات السياسية بزواج الملك الحضرمي العز يلط بن عم ذخر على ملك حلك من ابنة علهان بن نهفان وأخت الملك شعر أوتر، كما هو مذكور في نقش (أرياني13) (الأرياني: 1990م، ص109-122).
كما ذكر الملك الحضرمي العز يلط بن عم ذخر في عدد من النقوش:
النقشJa921 = RES 4910 = Ph 83 ونصه:
1 – ا ل ع ذ / ي ل ط / م ل ك / ح
2 – ض ر م ت / ب ن / ع م ذ خ ر / س ي
3 – ر / أ د / ج ن د ل ن / أ ن و د م / هـ
4 – س ل ق ب.
ومعناه:
1 – ال عذ يلط ملك
2 – حضرموت بن عم ذخر سار
3 – ليتلقب (كعادة من سبقوه من ملوك حضرموت متخذين من صخرة أنودم مكانًا للتتويج الملكي).
النقش Ja923 الذي يؤكد تحالف بين حضرموت وحمير (بافقيه:1967م، ص61-62)
نص النقش Ja923:
1 – ي د م / ب ن / و ط ب م / و م ر ث د م / ب ن / ش ع ب ن.
2 – ي و / ح م ي ر ي ي هـ ن/ ش و ع / م ر أ س م ي ن / ا ل ع ذ / ي ل
3 – ط / م ل ك / ح ض ر م و ت/ ب ن/ ع م ذ خ ر/ م ت/ س ي ر/ ا د / ج
4 – ن د ل هـ ن / ا ن و د م / هـ م ن ل ل / و هـ ل ق ب / م ت / س.
5 – ل ح س م ي ن / م ر ا م ي ن / ث ا ر ن / ي ع ب / ي هـ ن ع م.
6 – م ل ك / س ب أ / و ذ ر ي د ن / ن ف ل م / هـ ش ي ع أ.
7 – خ س.
ويفهم من تلك الأسطر أن الملك ثاران يعب يهنعم ملك سبأ ذو ريدان أرسل وفدًا من قبله لحضور مراسيم تتويج أخيه الملك العز يلط بن عم ذخر.
النقش Ja 931:
1 – خ ي ر ي / و ع ذ ذ م / ت د م ر ي.
2 – ي هـ ن / ذ م ت ر ن / و ف ل ق ت.
3 – ك ش د ي ي ه ن / د هـ ر د هـ / و م.
4 – ن د هـ / هـ ن د ي هـ ن / ش و ع و.
5 – م ر ا س م / ا ل ع ذ / ي ل ط / م.
6 – ل ك / ح ض ر م ت.
و يوضح هذا النقش مدى قوة ازدهار مملكة حضرموت من خلال حضور وفود من خارج الأراضي الحضرمية للمشاركة في مراسيم تتويج الملك الحضرمي العز يلط بن عم ذخر، وهم وفد تدمر (ت د م ر ي ي هـ ن)، ووفد من الكلدانيين (ك ش د ي ي هـ ن)، وكشدي هو اسم الكلدانيين، وإلى جانب هؤلاء سفير هندي (د خ ر د هـ/ و م ن د هـ/ هـ ن د ي هـ ن)، ومن المعروف أن هناك سفيرًا هنديًا اسمه (دهره) قد وفد على قيصر الروم خلال السنوات 218 – 222م، ويظهر أنه مكث في حضرموت في أثناء رحلته من الهند إلى روما أو عند رجوعه ( (بافقيه، وآخرون: 1985م، ص329-330)
وقد بدأت الأنظار تتجه إلى حضرموت في هذه الفترة، فترة حكم العز يلط، إذ إنه رسخ السيطرة على مملكة قتبان، وتوسع نحو الغرب حيث احتل ردمان ورداع، إلى جانب ظفار في الشرق (لوحة1)، وهذا التوسع مثَّـل مجدًا سياسيًا إلى جانب الازدهار الاقتصادي، ومما يزيد الأنظار توجهًا نحو حضرموت بروز حدثين مهمين في حكم العز يلط:
الأول: ثورة ضد الملك العز يلط، هي ثورة أحرار يهبر في مدينة صوران بمنطقة الكسر (القسم الأول من وادي حضرموت). وتم القضاء على هذه الثورة.
والثاني: تناقض سياسات شعر أوتر تجاه العز يلط، وبالذات تحوله من حليف إلى مُعَادٍ، وهذا ما يمكن معرفته من النقشين الآتيين:
النقشJa 640 ونصه:
1 – ر ب أ و م جعر
2 – ر ب أ و م وثايعوتا
3 – سيدهم شعرم (اوتر)
4 – ملك سبأ وذو ريدان يوم (غزا ليعين)
5 – وينصر
6 – العز
7 – ملك (حضرموت على)
8 – شعب حضرموت (بافقيه، و روبان: 1978م، ص56)
وهذا النقش يمثل المرحلة الأولى من سياسة الملك السبئي شعر اوتر تجاه العز يلط ملك حضرموت، الذي كان فيها حليفًا لحضرموت، وأنه ـ شعر أوترـ أرسل جيشه لدعم جيش ملك حضرموت ضد المتمردين عليه من أحرار يهبر في عام 217م، في حين كانت المرحلة الثانية مرحلة عداءٍ شديدٍ بين مملكة حضرموت ومملكة سبأ، وهذا ما يوضحه النقش أرياني13.
وما يهمنا من هذا النقش السطرين: الثاني عشر والثالث عشر:
12– يوم / شوع / مراهمو/ شعرم / اوتر / ملك / سبأ / وذريدان / بن / علهن / نهفن / ملك / سبأ / بكن / ضبا / بعلي / العز / يلط / ملك / حضرموت / وبعلي / خمس واشعب / حضرموت / بضر / هشتأو / بعلي / مراهو / شعرم / اوتر / ملك / سبأ / وذريدن /
ومعناه:
12- بعد أن كان ساند سيده الملك شعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان بن علهان نهفان ملك سبأ حينما شن الحرب الشاملة ضد العز يلط ملك حضرموت، وضد جيش حضرموت النظامي، وقبائل حضرموت، وذلك بسبب حرب سبق أن شنها الملك العز يلط ضد الملك شعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان.
13 – وحمدم / بذت / وزا / المقه / خمر / عبدهو / فرعم / سبأ ومطو / عدي / أرض / حضرموت / ثتي / سبأتن / ووزا / خترشن / ذهبم / وغننم / بن/ هجرن/ شبوت / وقنا / وعدوو / ودهر / عسم / سفنم / بحيقن / قنا / مكدح / ملك / حضرموت / وأتو / جيشهمو / بوفيم / وأحللم / وسبيم / وغنمم / ذعسم.
ومعناه:
13- وحمدًا لما استمر به المقه من المنِّ على عبده فارع بالتأييد في غزوتين أخريين قام بهما في أراضي حضرموت، فاستمر في إحراز النصر والفيء من الذهب والغنائم من مدينة شبوة ومدينة قنا، كما أنه هاجم ودمر حتى النهاية مجموعة كبيرة من السفن في (حيقن قنا)، الذي هو مكدح ملك حضرموت، ولقد عاد جيشه سالمًا ومعه الفيء والغنائم والسبي الوافر.
تاريخ هذه الأحداث هو في حوالي 230م، وبها ينتهي عصر الملك الحضرمي العز يلط الذي حكم ما يقارب الربع قرن، شهدت خلالها مملكة حضرموت عصر ازدهار، وهذا ما تشير إليه نقوش عهد هذا الملك من وجود تجار كلدانيين وهنود وحتى نساء من قريش، ربما راقصات حضرن خصيصًا لمراسم تتويج الملك العز يلط، وهذا كله يدل على الدور الكبير الذي لعبته في تجارة اللبان حتى القرن الثالث الميلادي (عربش: 2003م، ص13).
ويذكرkitchen أن هناك ثلاثة عرفوا باسم العزيلط، فالأول يقدر زمنه بحوالي من 100-80 قبل الميلاد (Kitchen: 2000. P.730.)، أما الثاني فيقدر زمنه من 50-70 ميلادية، في حين يعطي الثالث فترة من 200-225 ميلاديه (Kitchen: 2000، P.731.)، وهذا هو من حارب شعر أوتر، وهذا واضح في نقش المعسال ويمن9، في حين يرى الشيبة أن من الواضح أن الملك ايل عزيلط المذكور في نقوش خورروري، هوالملك Eirazo/Eleazi، والذي ذكر في كتاب الطواف والذي نعرفه من عدد من النقوش المسندية، ويؤرخ له في القرن الأول الميلادي (الشيبه: 2011م، ص167).
بعد العزيلط تسلم حكم حضرموت الملك يدع ايل بن ربشمس، الذي أعاد الهدوء النسبي إلى مملكة حضرموت في حكمه. وهو المؤسس لحكم حضرموت من قبل أحرار يهبر.
وذكر في نقشين من النقوش الحضرمية القديمة ذهابه إلى صخرة أنودم لتتلقب باللقب الملكي، وممارسته الصيد المقدس، وهما: النقش Ja949 والنقشIngramas 1، ثم بعده يأتي الملك الريام يدم، ويرجع إلى عهد ذلك الملك النقش Ja988 = RES 4913 = Ph85، ثم يأتي يدع اب غيلان، وله يرجع النقش Ja996 = RES 4915 = ph87، هذا الملك يعدُّه بافقيه آخر ملوك شبوة (بافقيه:1993م، ص115 – 116)، وهو برأينا صحيح؛ لأن هناك ثلاثة ملوك تزعموا المقاومة الحضرمية، وحكموا حضرموت من بعده، وهم نعدهم حكام حضرموت من منطقة السرير، وهم:
1 – الملك شرح إ ل.
2 – الملك ربشمس.
3 – الملك انمار (لرضي: 2007م، ص85).
بيَّـنَّا في هذا الفصل ظفار، كأحد أقسام جغرافية مملكة حضرموت، واستعرضنا أهم مدن ظفار، ولعل أهمها سمهرم، موضوع دراستنا، بالإضافة مدينة طاقة؛ لارتباطها بتاريخ سمهرم، وتحدثنا عن أهم مدن ساحل حضرموت، منها قنا، المكلا، الشحر، وعرفنا وادي حضرموت وأهم مدنه، كريبون، شبام، سيئون، تريم.
من ناحية سياسية بيَّـنَّا مجد مملكة حضرموت وازدهارها، الذي كان واضحًا من تأسيس ميناء سمهرم من قبل الحضارم، وقد ظهر هذا المجد والازدهار في مملكة حضرموت خلال ما قبل الميلاد والفترة الميلادية، ففي فترة ما قبل الميلاد كان من القرن الثالث حتى القرن الأول قبل الميلاد، وفي الفترة الميلادية كان ازدهار مملكة حضرموت من القرن الأول وحتى القرن الثالث الميلادي.